ارتبطت كرة القدم بالكثير من الكتاب والمثقفين عبر التاريخ. إلا أن أهمهم على الإطلاق كان الكاتب الأرجواني إدواردو غاليانو. لم يكتب غاليانو عن كرة القدم بنظرة المثقف المتفلسف لكنه كتب عنها بقلب مشجع حقيقي لكرة القدم.

كان غاليانو روائيًا عظيمًا ورأى في كرة القدم مثالًا حقيقيًا للحديث عن المتعة المجردة والصناعة المتوحشة واستغلال السياسيين والحظ والسحر والأساطير وكل شيء.

يقال إن كل أربع سنوات وخلال الشهر الذي يقام خلاله فعاليات كأس العالم، كان غاليانو يعلق على باب مكتبه لافتة تحمل نص: «مغلق بسبب كرة القدم» حيث كان يقضي كل وقته في متابعة كل المباريات والكتابة عنها؛ لذا يبقى كتابه كرة القدم بين الشمس والظل واحدًا من أفضل الكتب التي تناولت كرة القدم على الإطلاق. تناول غاليانو عبر صفحات الكتاب كل ما يريد الحديث عنه فيما يخص كرة القدم، عن طريق سرد الأحداث المتعلقة بكؤوس العالم المتعاقبة.

كان لغاليانو نسق معين للحديث عن نسخ كأس العالم في الكتاب. بداية ثابتة يتناول خلالها ما يدور حول العالم خلال ذلك الوقت، هدف أو مشهد ما يتم وصفه بشكل أدبي له طابع غاليانو الرقيق، لاعب فذ أو لاعب له نادرة تستحق الحديث عنها، حدث ما له دلالة عميقة خاصة بالتغير الذي تشهده كرة القدم، وهكذا.

توفي غاليانو عام 2015 تاركًا خلفه إرثًا من الكتب وحديثًا لا يُنسى عن كرة القدم. لكن دعنا نتخيل أمرًا، ماذا لو ذهبنا لمكتب إدواردو ووجدنا لافتة الخاصة معلقة. ولكن كأس العالم قد مضى بالفعل. حسنًا لا تكن سخيفًا، فنحن نتخيل في كل الأحوال. لقد أغلق شبح السيد غاليانو غرفة مكتبة وقرر مشاهدة كأس الأمم الإفريقية والتي أقيمت في مصر وانتهت منذ أيام.ثم كتب لنا فصلًا جديدًا عن الكأس بنفس نسق كتاب كرة القدم بين الشمس والظل.

دعنا نتصفح ما تركه إدواردو عن كرة القدم وإفريقيا بحديث أدبي رقيق لا يخلو من إشارات للسياسة والفساد والرأسمالية كما اعتدنا من غاليانو.


كأس الأمم الإفريقية مصر 2019

في السودان قامت الثورة أخيرًا على إيقاع هتاف (تسقط بس) وهو الهتاف الذي يوضح لك كيف يفكر الثوار في تلك البقعة من العالم. بينما لم يحتمل الجزائريون فترة حكم خامسة لرئيسهم الذي يحكم البلاد من فوق كرسي متحرك. وفي نيجيريا ما زالت الانتخابات الرئاسية تتم وسط أحداث عنف.

إعصار إيداي يودي بحياة أكثر من ستمائة شخص في موزمبيق ومالاوي وزيمبابوي. بينما تقرر بوتسوانا إلغاء قانون يجرم العلاقات الجنسية المثلية في البلاد. وفي نهر موبايل في ألاباما تم العثور على آخر سفينة تم استخدامها لنقل العبيد من إفريقيا إلى أمريكا والتي غرقت عام 1860.

أصبحت ساراي كامالو أول امرأة إفريقية تتسلق قمة إيفرست، ولدت ساراي في زامبيا لكنها تحمل جنسية جنوب إفريقيا وعلى الجانب الآخر تحاول مواطنتها العداءة كاستر سيمينا إثبات أنها أنثى بعد أن أصبحت الأنوثة تقاس بالهرمون والعضلات.

خضع رئيس الاتحاد الإفريقي لكرة القدم الملغاشي أحمد أحمد للاستجواب بشأن مزاعم ارتباطه بعمليات فساد حدثت داخل الاتحاد، وواجه الرجل اتهامات أخرى بالتحرش أيضًا. تصاعدت وتيرة الأحداث ضد الرجل بعد أن شهد بنفسه فضيحة نهائي كأس الأمم الإفريقية للأندية حيث تم تطبيق نظام الفار لكنه كان معطلاً!

أقيمت البطولة في مصر ولأول مرة في فصل الصيف. شملت البطولة 24 منتخبًا للمرة الأولى أيضًا كما تم تطبيق تقنية الفيديو بينما على مستوى كرة القدم كان كل شيء قديمًا.


كيف انقلبت الجماهير على معبودها

قررت الحكومة المصرية تنظيم تلك البطولة لكي تثبت أنها ما زالت على قمة إفريقيا. حلم المسئولون بنهائي يحضره الرئيس ويسلم الكأس للمنتخب المصري. تم إنفاق الملايين من أجل أن تذاع في أربعة أركان الأرض ابتسامات بلد سعيد تحت الوصاية العسكرية. وكانت الحكومة متأكدة أن الأمر سينجح لأنهم يملكون لاعبًا اسمه محمد صلاح.

يطلقون عليه الملك المصري في إنكلترا بينما في مصر يعاملونه كالإله. اسمه محمد صلاح أو مو كما يحب هو أن يُلقب. رشيق كغزال وسريع كفهد إفريقي صغير. فبينما تراجعت أهمية المراوغة كمهارة كرة القدم الرئيسية إلى الكواليس، أصبحت السرعة هي العامل الأهم في العرض لضرب التكتلات الدفاعية المنظمة. وهكذا وجد ابن قرية نجريج نفسه واحدًا من أهم لاعبي العالم.

استطاعت مصر أن تعبر الدور الأول بثلاثة انتصارات وأداء باهت للسيد مو. وخلال تلك المباريات الثلاث كانت الأحداث ساخنة للغاية لكن خارج المستطيل الأخضر. لاعب في الفريق المصري يتم اتهامه بالتحرش لكي يقرر الاتحاد المصري أن يستبعده، لكن هذا الأمر لا يعجب مو فيقرر أن يبقي على اللاعب متوقعًا أن يتلقى دعم الجماهير في قراره وهو ما لم يحدث. شعرت الجماهير أن هذا اللاعب الذي كان يتفاخرون بأنه منهم أصبح أوروبيًا خالصًا حتى أن تصريحه بخصوص مساندته لذلك اللاعب المتحرش كان باللغة الإنجليزية.

خرجت مصر من الدور التالي أمام منتخب جنوب إفريقيا وانكسر تمثال محمد صلاح. في بعض الأحيان لا يسقط المعبود دفعة واحدة، ولكنه حين ينكسر يلتھم الناس فتاته. فشلت البطولة جماهيريًا رغم نجاحها تنظيميًا ولم يكتمل المشهد الذي خطط له من البداية.


مدغشقر وتونس: الأداء والنتيجة

تتأرجح كرة القدم منذ نشأتها بين طرفي معادلة النتيجة أم الأداء. ربما تحمل لنا هذه البطولة الفقيرة فنيًا إجابة بسيطة حول تلك المسألة.

عندما أضاع روبيرتو باجيو ركلة الجزاء الشهيرة في نهائي مونديال 1994 تعاطف معه الكثيرون، بينما فضل البعض الاحتفال رفقة البرازيلي القصير المتعرق دائمًا روماريو. كان روماريو وباجيو هما بطلا تلك البطولة دون منازع وتقاسم العالم حبهما. لكن هناك رجلاً بسيطاً في إحدى جزر المحيط الهندي التي تسمى مدغشقر قد حسم الخلاف تمامًا. وعندما رزق بولده الأول بعد عامين سماه روماريو باجيو. هكذا ببساطة رجل يعيش على صيد السمك والبحث عن المتعة.

كبر هذا الولد ومثل بلاده للمرة الأولى في بطولة إفريقيا. والحقيقة أن هذا المنتخب كان حديث البطولة بالفعل. أسماء لا يعرفها أحد تلعب بالقلب قبل الأقدام. لا تأبه ولا تهتم متى سينتهي مشوارها في البطولة. كل مباراة هي فرصة جديدة ليعرف العالم تلك البقعة الصغيرة المنسية على الخريطة والملقبة بمدغشقر.

تصدرت مدغشقر مجموعتها على حساب العملاق النيجيري ثم أطاحت بمنتخب الكونغو العريق واحتفلت الجماهير الملغاشية في إستاد الإسكندرية بقيادة الرئيس الشاب الذي خطف الأنظار في المدرجات. ثم كانت النهاية على يد منتخب تونس، المنتخب الذي يمثل الطرف الآخر في المعادلة.

تعادل منتخب تونس في الثلاث مباريات الأولى الخاصة بدور المجموعات. ولما كانت باقي فرق مجموعته أكثر بؤسًا منه صعد للدور التالي في المرتبة الثانية. ثم واجه نظيره المنتخب الغاني في دور الستة عشر وتعادل أيضًا لكنه صعد للدور التالي بفضل الركلات الترجيحية ليواجه منتخب مدغشقر.

فاز المنتخب التونسي ثم احتل المركز الرابع في البطولة لكن لا أحد يتذكره. بينما يذكر الجميع الأداء الرائع للمنتخب الملغاشي صاحب الإمكانات المتواضعة. تلك ربما إجابة للمشككين حول أهمية الأداء مقارنة بالنتائج.


الجزائر بطل: دراما بلا كرة قدم

هل سترجمونني إذا ما تحدثت مجددًا بأن كرة القدم الممتعة ذهبت بغير رجعة. أنا رجل عجوز مصاب بداء النوستالجيا الكروي إلى حد كبير. وكرة القدم التي تشق من أجلها حناجركم لا تحرك قناعاتي قيد أنملة.

فازت الجزائر بالبطولة دون هزيمة. سبعة انتصارات متتالية قدمت خلالها كرة قدم جيدة في المباريات الأولى تحولت إلى عادية في الأدوار الإقصائية ثم انتهت بضرب مبرح للحفاظ على هدف تم إحرازه بعد دقيقتين من عمر المباراة النهائية. حققت الجزائر اللقب الثاني بعد انتظار دام 29 سنة بمشوار به من الدراما أكثر من كرة القدم.

واجهت الجزائر في مباراة دور الثمانية المنتخب العاجي. كانت لوحة الملعب المضيئة تشير إلى الدقيقة الـ48 عندما احتسب الحكم ركلة جزاء للمنتخب الجزائري. فرصة لكي تسجل الجزائر هدفًا ثانيًا يقتل المباراة. ابتعد الجميع عن الكرة تاركين الأمر للمهاجم بغداد بونجاح. هذا الرجل الذي كان ينافس أباطرة العالم في عدد الأهداف المسجلة الموسم المنقضي، أهدر ركلة الجزاء. تعادل المنتخب العاجي وقرر بلماضي المدرب الجزائري أن يخرج بونجاح من المباراة قبل نهايتها باثنتي عشرة دقيقة.

ربما لو رأى سبيلبيرج هذا المشهد لاستعان ببغداد في فيلمه القادم. كان يعض على أنامله مثل طفل أضاع طريق بيته، يتمتم مخاطبًا الرب بكل تلك الكلمات التي تعلمها، يسقط على الأرض ويبكي ثم يقف ليبدأ النحيب من جديد. لم ينتهِ الأمر إلا بعد أن فاز المنتخب الجزائري بالمباراة بفضل ركلات الجزاء الترجيحية.

وفي المباراة التالية وبينما التعادل هو سيد الموقف بين الجزائر ونيجيريا، احتسب الحكم مخالفة من على حدود الجزاء قبل ثانية واحدة من نهاية المباراة. قرر رياض محرز أن يركل الكرة واضعًا أمل الملايين في قدمه. أحرز محرز الهدف ليختنق صوت المذيع الجزائري بعد أن اختلط بالبكاء مثلما فعل الملايين من الجزائريين.


المدربون والنظام

وكأن كرة القدم في حاجة إلى تكنوقراطية النظام فلجأ البعض لوجود مدير فني مهمته منع الارتجال. لم نشاهد الكثير من التكتيكات من مدربي تلك البطولة. فقط تنظيم ثم تنظيم ولنترك البقية للمهارات الفردية الشحيحة في مختلف الفرق.

استعان منتخب الكاميرون بالهولندي سيدورف. بدأ سيدورف وكأنه مدرب وطني بفضل سمرته اللامعة وأسنانه البيضاء. ولد سيدورف في سورينام، فلا عجب إذ وجد جده الأكبر في الكاميرون بالفعل. بينما قررت الكثير من المنتخبات الاستعانة بمدربي فرنسا التي لا يغيب أثرها عن إفريقيا ولا يغيب أثر إفريقيا عنها خاصة في كرة القدم.

فشل الجميع على ما يبدو ونجح مدربان وطنيان. اليو سيسيه في السنغال وجمال بلماضي في الجزائر.

ولد الاثنان في نفس العام وفي نفس الشهر وفي نفس الحي الفرنسي الفقير. لعبا كرة قدم الشوارع حيث تنصهر الجاليات من أجل كرة القدم. لكن مشوارهما التدريبي كان مختلفًا عما عاشوه صغارًا.

دخل المنتخب السنغالي البطولة وهو على صدارة التصنيف الإفريقي للفيفا. كان ذلك بفضل عقود من الثورة في الكرة السنغالية بدأها المدرب الفرنسي برونو ميتسو عام 2002 . صنع ميتسو منتخبًا قويًا للسنغال وكان قائده في الملعب هو اليو سيسيه. قرر سيسيه أن يستكمل المشوار الذي كان عنوانه التنظيم.

اليو سيسيه هو من أضاع ركلة الترجيح الأخيرة في نسخة كأس أفريقيا لعام 2002 . يقول زميله في الغرفة حينئذ إن سيسيه كان محطم تمامًا بعد المباراة حيث قال: تلك الكأس كانت في يدي، لكن فريق الكاميرون خطف الكأس مني. إذا لم أحقق الكأس كلاعب فسأحققه كمدرب. لكنه فشل كمدرب أيضًا وبسبب هدف تدخلت فيه يد الله وأحرزته قدم لاعبه ساني.

أما بلماضي فهو المتجهم دائمًا. الرجل الذي ذاق مرارة اتهامات أبناء وطنه بأن المنتخب يحل أخيرًا دومًا في قائمة اهتمامات اللاعبين الجزائريين. عرف بلماضي ألا حل في التنظيم. للمرة الأولى يشعر الجميع أن منتخب الجزائر يعرف ما يريد تلك المرة. وقد حقق هذا المتجهم الذي تعارك مع صحفيي وأبناء البلد المضيف ما لم يتوقعه أحد في بلاده.