يُنظَر إلى الأسئلة المتعلقة بوجود فلسفة إفريقية على أنها تعكس تحيزاً استعمارياً غربياً، حيث لا يوجد ما يُسمى فلسفة إفريقية، لأن الأفارقة ليسوا عقلانيين مثل الغربيين، وليس لديهم الحس اللازم لإنتاج الفلسفة. لذلك لم يكن من المُفاجئ ألا يتفاعل الأفارقة مع السؤال الاستعماري في محاولة لإعادة التأكيد على التفرد والهوية، والأهم من ذلك الشعور بالذات. ومن هنا يمكن التعرف على الفلسفة الإفريقية بأشكالها المختلفة على أنها رد فعل لوجهة النظر العنصرية نحو الإفريقي وفلسفته؛ التي كانت وما زالت مهيمنة في العالم الغربي. [1]

للفلسفة الإفريقية تاريخ طويل، وإن كان غير موثَّق وغير مكتوب، وشفهي. تاريخ يمتد من العصور القديمة إلى ما بعد الحداثة في الجوهر والشكل، وقد كانت المناقشات في السبعينيات حتى أوائل التسعينيات؛ حول طبيعة ووجود الفلسفة الإفريقية، لذلك فإن أي مناقشة جادة للفلسفة الإفريقية يجب أن تكون على دراية تامة بتاريخها. [2]

التاريخ الإفريقي للفلسفة بقدر ما هو فلسفي فهو تاريخ للإفريقي، هو الطريقة التي يُؤرِّخ بها الإفريقي ذاته، السيرة الذاتية للإفريقي، لكنها جزء أيضاً من السيرة الذاتية للإنسانية. إن إضفاء الطابع التاريخي على إفريقيا هو جزء من إضفاء الطابع التاريخي على الإنسانية. [3]

نظر الغرب إلى إفريقيا نظرة متدنية، وقد أظهرت العديد من الدراسات حول الفلسفة الإفريقية الأسباب التي أدت إلى النظرة الغربية لها، والتي تعود بأصولها إلى الفيلسوف الألماني هيجل، الذي أسَّس سلَّماً عرقياً لتدرج شعوب العالم، ووضع الألمان في قمة الهرم العرقي، وشعوب آسيا في الوسط، والأفارقة والسكان الأصليين للأمريكيتين في القاع.

ظهرت إفريقيا في الخيال الاستعماري مُشوَّهة ودون المستوى الإنساني، لذلك كانت مهمة الفيلسوف الإفريقي هي الدفاع عن الثقافة الإفريقية ضد الأفكار المُغالطة التي قيلت حولها من قبل الباحثين الغربيين؛ لذلك رفض الباحثون السود مغالطة هيجل حول إفريقيا، والذي أساء إلى الأفارقة بشكل بشع ومخزٍ. [4]

يرى «فرانز فانون» أن وصف هيجل في كتابه «العقل في التاريخ» نموذج أصلي ومتميز للمشروع الكولونيالي في رؤيته للإفريقي. فقد وُصفت إفريقيا في الفكر الغربي بأنها رحلة من العقل إلى الإحساس، لا من الإحساس إلى العقل. حيث ذهب هيجل إلى القول بأن الزنجي مثال على الرجل الحيوان بكل همجيته وخروجه عن القانون، وإذا أردنا أن نفهمه أصلاً، يجب علينا أن نُجرِّده من كل توقير وأخلاقيات، ومن كل ما نُسمِّيه عواطف. [5]

لم يكن هيجل وحده هو المُروِّج لفكرة التدني الإفريقي، بل هناك الكثير من الفلاسفة قد أساءوا إلى إفريقيا  والإفريقيين، أمثال ديفيد هيوم وكانط وجون لوك ومونتسكيو وغيرهم، لذلك يمكن اعتبار الفلسفة الإفريقية فلسفة اعتراض من قبل الفلاسفة الأفارقة على النظرة الاستعلائية التي تميزت بها فلسفات المركزية الغربية، سواء كانت العقلانية الفرنسية أو التجريبية الإنجليزية أو المثالية الألمانية أو البراغماتية الأمريكية، لتقُدِّم نفسها بوصفها فلسفة متعددة الثقافات، وهي بذلك فلسفة كفاح ضد الفلسفات الغربية من أجل حقيقة الوجود الإفريقي وهويته الخاصة. [6]

وبخلاف كل ذلك، تعد الفلسفة الإفريقية ومشكلتها الأساسية فلسفة دفاع عن الهوية الإفريقية، فالقضية الرئيسية التي تناولتها معظم الفلسفات الإفريقية هي قضية الهوية الإفريقية، مُزامنةً مع قضية إنهاء الاستعمار بجميع مستوياته؛ سواء كان استعماراً سياسياً أو معرفياً أو وجودياً، فالدفاع عن الهوية هو مقصد ومطلب ومُلهم الفلسفات الإفريقية الحديثة والمعاصرة.

 ارتبطت مقاومة الإفريقي للاستعمار بالفلسفات الاستعمارية، حيث ساهمت فلسفة الاستعمار الفرنسي لإفريقيا في ظهور الحركات التحررية، كما أن المفكر الإفريقي حرص على تحدي الأنا الأوروبي والأمريكي بتقديم أشكال متوازية من الفكر السلطوي. [7]

وقد شكَّلت مناهضة المركزية الأوروبية جزءاً كبيراً من الفلسفة الإفريقية المعاصرة، في سياق يمكن إرجاعه إلى صراعات الهوية في الأربعينيات والخمسينيات. هذه المركزية دافع للفلسفة الإفريقية الحديثة والمعاصرة، حيث تم تسليط الضوء على القهر والاستغلال والقمع لإفريقيا والذي كان نتيجة لتلك المركزية، لذلك ستبقى مناهضة المركزية الأوروبية جزءاً مهماً من الخطاب المعاصر للفلسفة الإفريقية من أجل مواجهة الحداثة الأوروبية. [8]

ومن منظور ما بعد استعماري، حاول المثقفون الأفارقة -أدباء وروائيين- أن يتحدَّوا المستعمر الغربي وثقافته، وقد امتلكوا الوسيلة اللغوية والمعرفية ليردُّوا بالكتابة والرواية على النصوص السردية الغربية البيضاء، والتي شكَّلت جزءاً ليس بالهين من النصوص التأسيسية للمركزية الغربية، وكان لها اليد العليا في تمركز الذات الغربية حول ذاتها ونبذها لكل الآخرين الملونين وغير الغربيين خارج دائرة الحضارة الإنسانية والتنوير الغربي.

لذا فقد وجد هؤلاء الروائيون أنفسهم محتومين على تعلم لغة المستعمر والاطلاع على ثقافته وعلى منجزاته المعرفية الحداثية، فضلاً عن تمثلهم لآليات السرد الروائي الغربي، وتقنياته وجمالياته. وقد كان هدفهم تأكيد هويتهم وثقافتهم الوطنية وخلق شكل من الحوار والتواصل مع تاريخهم الذي تعرض للتشويه والتهميش على يد الغرب المستعمر. [9]

كانت التحديات التي تواجه الفلسفة الإفريقية تتمثل في شقين رئيسيين، هما التفكيك وإعادة البناء؛ وتعتبر مهمة التفكيك هي استكشاف وفضح الأفكار والمواقف والمعتقدات والأيديولوجيات للخطاب الإفريقي، هذه الأفكار قمعية وقهرية بشكل أساسي للأفارقة، وقد خدمت مؤسسات ما بعد الاستعمار (الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية في المجتمعات الإفريقية، والتي تهدف إلى تحرك الأيديولوجيات التي تم تطورها على حساب التراث التاريخي الإفريقي)، ونتيجة لذلك هناك حاجة ملحة إلى أن يُعيد الفلاسفة الأفارقة التفكير في تلك المبادئ والمفاهيم والأيديولوجيات التي شكَّلت تلك المؤسسات. [10]

استخدمت الفلسفة الإفريقية عدة مناهج، منها المنهج الاجتماعي، والذي يقوم على مبدأ التبادلية باعتبار أن وجوي يعني وجود الغير، وقد عبَّر «جون مبيتي» عن ذلك بقوله: «أنا أكون لأننا نكون، فبما أننا نكون، لذلك أنا أكون».

هناك أيضاً المنهج التكاملي، وهو يتمحور حول الرابط المفقود، وهو يشبه نظام الشبكة التي يلعب فيها كل متغير دوراً مهماً. وكذلك نجد المنهج الحواري، وهو إجراء شكلي لتقييم علاقات متعارضة يتم فيها خلط الأفكار من خلال أنماط مُفككة لإعادة إنشاء أطروحة جديدة وأطروحة نقيضة باستمرار في كل مرة، وعلى مستوى أعلى من الخطاب دون توقع التركيب [11]. ويمكن تصنيف الفلسفة الإفريقية منذ عام 1935 إلى ثلاث مدارس، وهم:

أولاً: المدرسة الثقافية

وهي التي تضرب بجذورها في المقام الأول في التقاليد الأصلية للقارة، ويُطلق عليها أحياناً «الفلسفة العرقية»، إلا إن التعبير الدقيق لها هو الثقافة وليس العرق، ذلك لأن اتصاف جانب كبير من الفلسفة الأصلية بصفات العرق لا يعدو كونه صفة من صفات هذا التراث، كما أن الفلسفة الثقافية تميل إلى اكتساب الطابع الجماعي، وهي تنتقل من جيل إلى جيل عن طريق التراث الشفوي.

النطاق الزمني لهذه المدرسة يضم ثلاث مراحل؛ الأولى هي ما قبل الاستعمار، والثانية هي الحقبة الاستعمارية، والثالثة حقبة ما بعد الاستعمار. هذا التيار يُعد أقدم جوانب التراث الفلسفي الإفريقي، وله القدرة على الثبات والاستمرار.

ثانياً: المدرسة الأيديولوجية

لا بد هنا من التمييز بين التيار الثقافي والأيديولوجي؛ حيث إن التيار الثقافي يضم أهدافاً سياسية بجانب العمل السياسي، كما أن الثقافة تتضمن مسائل مثل العلاقات بين الإنسان والحيوان، وكذلك بين الحُكَّام والرعايا في المجتمعات الإفريقية وغيرها من علاقات، في حين أن التيار الأيديولوجي ذو طابع سياسي أضيق من ذلك، كما أن معظم تراث الفلسفة الثقافية مكتوب باللغات الإفريقية الأصلية، بينما نسبة كبيرة من الفلسفة الأيديولوجية مكتوبة باللغات الأوروبية.

الفلسفة الثقافية في المقام الأول جماعية وتراكمية، بينما الفلسفة الأيديولوجية تبدأ دراسة الفلسفة باعتبارها أفكار أفراد. أيضاً الفلسفة الثقافية تعتبر فلسفة جماهيرية في المقام الأول، بينما الأيديولوجية تختص بالنخبة. إن القيمة النهائية للفلسفة الثقافية تكمن في قضية الهوية، بينما القيمة النهائية للفلسفة الأيديولوجية تتجه نحو التحرير. [12]

ثالثاً: المدرسة النقدية

هي مدرسة تشبه التيار الأيديولوجي في أنها تمثل رداً على العهد الاستعماري والعهد التالي له، كما أن المدرستين تستعملان اللغات الأوروبية، ويبدو أنهما تأثرتا تأثيراً عميقاً بالتقاليد الفكرية الغربية. وبالرغم من هذا التشابه فإنهما تختلفان في عدة نقاط؛ فبينما تتسم المدرسة الأيديولوجية بالطابع السياسي والوعي بذلك، تسلك المدرسة النقدية مسلكاً أكاديمياً ضيقاً. وبينما تنشغل المدرسة الأيديولوجية بالتحرير، فإن المدرسة النقدية تطمح في أخذ طابع التحرر من سلطان القيم. وبينما كانت المدرسة الأيديولوجية تتجه في كثير من الأحيان إلى الطابع الوطني، كانت النقدية تطمح في أن تُصبغ بصبغة عقلانية صارمة.

وعلى الرغم من وجود مفهوم التحرير في المدرسة النقدية فإن التحرير الذي تسعى إليه هو تحرير الفلسفة نفسها وليست إفريقيا، تحرير الفلسفة في إفريقيا من علم الأعراق.

والأطروحة الأساسية للمدرسة النقدية في جوهرها هي أن الفلسفة لا تقوم إلا إذا التزم الفيلسوف بالحديث العقلاني، ويجب ألا تصبح الفلسفة خادمة للدين أو للسياسة، وتطمح هذه المدرسة إلى إعادة الفلسفة إلى حظيرة الروح العلمية. [13]

عمل الفلاسفة الأفارقة على إثبات وجود إفريقيا، وإظهار أن الفلسفة الإفريقية فلسفة مساوية للفلسفات الأخرى في العالم. وإذا كانت الدهشة هي نقطة انطلاق النشاط الفلسفي اليوناني، وكانت هي أساس الفعل الفلسفي في المنظور الغربي، فإن الصدمة التي كانت نقطة انطلاق للفلسفة الإفريقية لا تقل قيمة عن فعل الدهشة في الفلسفة الغربية.

والجدير بالذكر أن الحكمة الفلسفية في إفريقيا قديمة قدم الوجود البشري، ذلك لأن الفلسفة هبة مُنحت لجميع البشر علي الأرض بحكم قدرتهم على التفكير التجريدي والعقل، ومن ثَمَّ يوجد في القارة تاريخ فلسفي متنوع ومثير للاهتمام.

إن التطور الحضاري في إفريقيا كان به تطور فكري يمكن اعتباره حكمة إفريقية أشبه بالفلسفة، وتُمهِّد لها، وتُعد الحضارة المصرية القديمة نقطة البداية. وثمة مظهر أيضاً في الحضارة الإسلامية من فلسفة ظهرت في البلدان الإفريقية غير الإسلامية، وهذا يفيد أن إفريقيا لم تكن خالية من البعد الفكري والفلسفة، خاصةً في الفترة التي خضعت فيها البلدان الإفريقية للهيمنة الخارجية، ودلالة ذلك أن العقل الإفريقي كان في وضع الصيرورة في التفكير الفلسفي، حتى وإن تخلَّل التاريخ فترات انقطاع، إلا أنه ما زال يُنتِج الفكر الفلسفي في إطار مسئولية المساهمة في التفكير في القضايا المطروحة على الفلسفة اليوم، وفي تقديم مساهمة ذات فائدة بالنسبة للإنسانية اليوم بصفة عامة. ومن ثَمَّ لا يكون بداية الكوجيتو الإفريقي انطلاقاً من تراثه الخاص، بل من التراث الإنساني ككل، حتى تكون المساهمة الإفريقية في الفلسفة ذات قيمة كونية. [14]

إن النقاش حول الفلسفة الإفريقية تاريخياً ارتبط بحدثين، وهما: الخطاب الغربي حول إفريقيا، والاستجابة الإفريقية له، وقد بات السؤال الآن حول وجود فلسفة إفريقية من عدمها سؤالاً فارغاً من المعنى، وذلك بناءً على ما تقدم من القول، والأجدر الاهتمام بالسؤال حول أهم الأفكار والقضايا الفلسفية التي تمت مناقشتها في الفلسفة الإفريقية.

المراجع
  1. P. H. Coetzee and A. P. J. Roux, The African philosophy reader, Routledge published, New York, 2003, second edition, p115.
  2. Edwin E. Etieyibo, Method, Substance, and the Future of African Philosophy, Palgrave macmillan, South Africa, 2018, p13.
  3. John Murungi, African philosophical illumination, Springer, 2017, p 49:50.
  4. أحمد عبد الحليم عطية، هيجل والفلسفة الإفريقية، مجلة الفكر المعاصر، الهيئة المصرية العامة للكتاب، العدد 23، 2021، ص 86:88.
  5. مونيس بخضرة، تأويل العقل الثقافي الإفريقي، دار الايام للنشر والتوزيع، 2018، ص 12.
  6. غيطان السيد علي، الفلسفة الإفريقية البحث عن الهوية ورفض المركزية الغربية، مجلة الفكر المعاصر، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2021، العدد 23، ص 111.
  7. صبري عبد الله شندي، الفكر المعاصر في آسيا وإفريقيا من الاستعمار إلى العولمة، 2017، ص 25.
  8. Martin Asiegbu, Contemporary African: emergent issues and challenges, ogirisi a new journal of African studies, vol. 12, 2016, p 8:9.
  9. مونيس بخضرة، تأويل العقل الثقافي الإفريقي، ص 62.
  10. Martin Asiegbu, Contemporary African: emergent issues and challenges, p 11.
  11. ليوباترا موتازو، تاريخ الفلسفة الإفريقية، مجلة اوراق فلسفية، 2022,، العدد 77-78، ص 12.
  12. على مزروعي، تاريخ إفريقيا العام، اليونيسكو، المجلد الثامن، ص 725: 727.
  13. تاريخ إفريقيا العام، المرجع السابق، ص 730.
  14. محمد وقيدي، الكوجيتو الإفريقي، الصحراء، أبريل 2006.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.