من أكثر القارات التي جاءتها سفن المستعمرين وجنودهم، أفريقيا. فتأخر نمو العديد من بلدانها، فثرواتها بالكامل تُنقل للدول المستعمرة. وحين رحل الاستعمار أخيرًا، ظهرت مشاكل واضطرابات أثرت كذلك على نمو البلاد، كانت اضطرابات تليق بالدول حديثة العهد بالاستقلال.

ومن أبرز تلك المشاكل أن الاستعمار كان يوفر التعليم الأساسي فقط في معظم الدول المُحتلة، أما التعليم الجامعي والأكاديمي فكان يختار له طلابًا محددين ليتلقوه في جامعات الدول المُستعمِرة، حتى إذا ما عادوا وتولَّوا مناصب قيادة يكونون قد صاروا أبناء المستعمر بنسبة أكبر من كونهم أبناء الوطن.

فقر التعليم أدى إلى فقرٍ في القيادات، ما أدى إلى عدم نجاح معظم الكيانات التي نشأت لإدارة شئون الدول بعد استقلالها، خاصةً الشئون الاقتصادية. فعانت أفريقيا من ندرة الخبرات وما ترتب عليه من هشاشة البنى التحتية في مجالات متعددة. هنا أدرك الأفارقة التحدي، وفطنوا إلى أن الحل يكمن في الوحدة، فبزغ الحديث عن منظمة للوحدة الأفريقية بهدف صهر كافة الخبرات الأفريقية في كيان واحد.

الإرهاصات الأولى لمحاولات التآلف الأفريقية بدت في مؤتمر أكرا، عاصمة غانا، الذي انعقد لعدة أيام في أبريل/ نيسان عام 1958. من ذلك المؤتمر خرجت عدة قرارات، من بينها الاعتراف المتبادل من جميع الدول بسيادة بعضها على أراضيها، وطالبوا كذلك بحق الشعب الجزائري، وكل الشعوب التي لم تنل استقلالها آنذاك، في الاستقلال.

ومع بداية الستينيات حصلت 15 دولة أخرى على استقلالها، وبتتابع السنوات حصلت معظم الدول الأفريقية على استقلالها. وحينها وُلدت منظمة الوحدة الأفريقية بإقرار من 30 دولة في مؤتمر عُقد في أديس أبابا، ووقعوا ميثاقها الذي صار دستورًا للتعامل الأفريقي، كان ذلك في 25 مايو/ آذار عام 1963.

وضعت المنظمة مبدأين أساسيين لأي دولة تريد الانضمام إليها، مبدأ عدم الانحياز ومبدأ عدم التفرقة العنصرية. ووضعت نصب عينها عدة أهداف أبرزها تحرير القارة نهائيًّا من الاستعمار، والقضاء على التخلف الاقتصادي، والارتقاء بالقارة لمكان يليق بها في محافل صنع القرار الدولي.

نحو أفريقيا بلا حدود بينية

أخذت قوة المنظمة في التزايد، خاصةً بعد زيادة الأعضاء لـ 53 دولة عام 1980. لكن كانت المشاكل أكبر من قدرتها، مشاكل لضعف الموارد، ولزيادة الصراعات البينية على الحدود الموروثة عن الاستعمار، وخلافات حول اختيار الأمين العام وصلاحياته. استمرت الخلافات حتى عام 2001، لم تنتهِ الخلافات، لكن قرر مؤتمر الوحدة الانتقال لكيانٍ وليد، الاتحاد الأفريقي، بمبادرة أطلقها العقيد الليبي معمر القذافي.

نشأ الاتحاد الأفريقي بهيكل قوي يتكون من شقين، هيكل سياسي وهيكل إداري، والهيئة المسئولة عن اتخاذ القرارات فيه هي الجمعية العامة التي تتكون من رؤساء الدول الأعضاء أو ممثلي حكوماتها. كما يوجد في الاتحاد مجلس اقتصادي واجتماعي وثقافي للاهتمام بالشئون المدنية والاجتماعية للدول الأعضاء.

في مسيرته الطويلة اتخذ الاتحاد عدة مواقف صارمة لأجل الدول الأعضاء، منها موقفه من مقتل غناسينغبي إياديما، رئيس جمهورية التوغو. فبعد مقتله تولى ابنه الحكم بدلًا منه، فرفض الاتحاد الأفريقي ذلك لأن دستور البلاد ينص على تولي رئيس البرلمان في حالة مقتل الرئيس، وبالفعل أُجبر الابن على إجراء انتخابات شعبية.

وفي المجال الاقتصادي أعلن الاتحاد الأفريقي تأسيس المجموعة الاقتصادية الأفريقية بهدف خلق فضاء اقتصادي أفريقي موحد بحد أقصى عام 2025. وفي عام 2003 أنشأ الاتحاد الأفريقي مجلس أمن على غرار الأمم المتحدة، يتكون من 15 ممثلًا من الدول الأعضاء، ويمكن للمجلس القيام بتدخلات عسكرية وعمليات حفظ سلام في أفريقيا، حتى ضد إرادة الدول التي يتم التدخل فيها أو ضدها.

وفي العام التالي اعتمد الاتحاد برلمانًا أفريقيًّا يتكون من 265 ممثلًا من الدول الأعضاء. هذا المسار المتطور عامًا بعد الآخر جعل الولايات المتحدة الأمريكية تُعين سيندي كورفيل سفيرًا لها لدى الاتحاد عام 2006, وهي أيضًا أول سفير لبلد غير أفريقي في الاتحاد.

كما وقعت الدول الأعضاء اتفاقيةً لإنشاء منطقة للتبادل الحر  عام 2018.

مواجهة استغلال الشركات بأساليب عصرية

نجح الأفارقة من خلال تجمُّعهم أن يتغلبوا على الاستعمار الكلاسيكي، وجود جيوش دولة أجنبية على أراضيهم، وخصصوا يوم 25 مايو/ آيار من كل عام للاحتفال بذكرى قرارهم بالاتحاد والتآخي. كما استطاعوا أن يتغلبوا على استعباد الدول الأوروبية لهم بخلق هوية أفريقية قوية، تناطح هوية الرجل الأبيض الأوروبي.

 لكن الاتحاد ما زال يحاول التغلب على استعمار مختلف، الاستعمار عبر استغلال الشركات متعددة الجنسيات لخيرات القارة السمراء. الشركات التي تستنزف موارد القارة الشابة بمقابل مادي مُجحف. في البداية اقترح القذافي إنشاء «الولايات المتحدة الأفريقية» على غرار الولايات المتحدة الأمريكية، وإنشاء جيش أفريقي واحد بدلًا من جيش لكل دولة. لكن من الواضح أن الفكرة كانت رومانسيةً أكثر من اللازم، فرفضتها العديد من الدول.

بالطبع لم تختلف أي دولة، حتى الدول التي رفضت اقتراح القذافي، على مبدأ ضرورة النهوض بأفريقيا. لكن التحديات التي تواجه الاتحاد ربما تكون أكبر من قدراته الراهنة على التعامل معها. خاصةً أنها تحديات عالمية وداخلية، عالمية بسبب ارتباط الاتحاد بالنظام العالمي وتدخل الدول الأجنبية ذات النفوذ الإقليمي الكبير في مجريات الأمور داخل الاتحاد. وداخلية بسبب النزاعات الداخلية والتشرذم في العديد من الدول وانقساماتها الداخلية التي تعيق الاتحاد الأكبر من النهوض.

المعضلة الكبرى هي حين تتداخل التحديات العالمية مع الداخلية، فنرى الدول الأعضاء عاجزةً عن تمويل الاتحاد، بينما يموله المجتمع الدولي. فمثلًا في عامي 2014 و2015 كان التمويل الدولي للاتحاد يبلغ 3 أضعاف التمويل الأفريقي له، ما يترك مجالًا، ولو ضئيلًا، للشك في احتمالية التأثير الدولي على قرار الأفارقة.

التمويل الذاتي لامتلاك القرار السيادي

لهذا نجد في القمة المنعقدة في كيجالي عام 2016 وعيًا أفريقيًّا بهذه المعضلة، لذا تم استحداث قرار بتكليف الدول الأعضاء بفرض ضريبة 1.6 على الوارادت لتمويل الاتحاد. الخطوة تهدف لتخفيف الضغط على موازنات الدول، وفي الوقت نفسه محاولة التخلي عن الدعم الخارجي. وبالفعل طبقته دول لم تكن تسدد التزاماتها المالية مسبقًا مثل إثيوبيا، وكينيا، وتشاد، وروندا، وجمهورية الكونغو.

لم يحل القرار كافة التحديات المادية التي تواجه الاتحاد، خاصةً مع ازدياد حاجة الدول الأعضاء للدعم من أجل مواجهة الإرهاب، والصراعات المسلحة الداخلية. لكنه فتح الباب لتجمعات أخرى، تمت دون تكليف رسمي، لكنها وُلدت من رحم الشعور بضرورة التكاتف خاصة في عمليات التبادل التجاري، مثل الكوميسا في شرق القارة، والساداك في جنوبها، والإيكواس في غربها.

كما أسس الاتحاد لجنة الحكماء عام 2007، اللجنة تحاول منذ تدشينها توطيد السلم والأمن في أفريقيا. كما خلقت اللجنة شبكةً قارية من المؤسسات والشخصيات المرموقة لتسهيل أي عمليات وساطة في النزاعات الداخلية.

بتلك الإصلاحات المتتابعة نال الاتحاد الأفريقي احترامًا واسعًا على الصعيد الدولي كما يتضح في خطاب الرئيس الأمريكي السابق، باراك أوباما، للاتحاد الأفريقي. ويتضح من الخطاب أيضًا أن الاتحاد يحافظ على علاقات جيدة ووطيدة مع الولايات المتحدة، لا تتأثر بالعواصف التي تهب على العلاقات بين الجانبين أحيانًا.

كذلك فإن الاتحاد الأفريقي قد أظهر دورًا بارزًا في التعامل مع العديد من التحديات التي واجهت القارة السمراء. كما أنه أثبت أنه بإمكانه وضع أفريقيا بالكامل على خريطة السياسة الدولية، والأهم أنه سيحفظ لها هذه المكانة لسنوات طويلة قادمة.