صبيحة يوم 25 أكتوبر/تشرين الأول، قام القائد العام للجيش السوداني الفريق أول عبد الفتاح البرهان بالاستيلاء على الحكم وإنهاء الاتفاق السياسي الذي ينظم المرحلة الانتقالية منذ تم توقيعه في يوليو/تموز 2019 بين الجيش وأحزاب الحرية والتغيير. سبق قرارات البرهان اعتصام أمام القصر الجمهوري يطالب الجيش بالسيطرة على الحكم، واعتصام آخر في شرق البلاد قام بإغلاق الميناء الرئيسي في بورتسودان بداية من منتصف سبتمبر/أيلول.

لقد تمت صياغة الاتفاق السياسي في 2019 بشكل سيئ جدًا، حيث إنه يركز الحكم في يد الأحزاب السياسية العلمانية، وتم تجاهل القوى الفعالة في المجتمع، وكأن المجتمع السوداني مجتمع حديث وليس مجتمعًا تقليديًا، فنسبة المنتمين للأحزاب (المؤسسة السياسية الحديثة) لا تتجاوز 5%، والغالبية العظمى من السودانيين يخضعون للمؤسسة السياسية التقليدية التي تمثلها القبائل والطرق الصوفية والجماعات الإسلامية والحركات المسلحة.

لذلك، كان ما حدث متوقعًا من قبل جميع المراقبين والمحللين السياسيين السودانيين، ربما باستثناء الذين يرتبطون بمراكز الدراسات الغربية ويعيشون مجموعة هائلة من الأوهام حول السودان، منها تضخيمهم لقوة أحزاب الحرية والتغيير والأحزاب السياسية المدنية مقابل استهانتهم ببقية أطراف المعادلة السياسية في السودان.

لم يبقَ الحزب الحاكم المنحل طوال 30 عامًا في الحكم لأنه الحزب السياسي الأقوى فقط، بل لأنه الحزب الأكثر إدراكًا أن السودان لا يمكن أن يتم حكمه من خلال قوة الحزب فقط، ويجب أن يكون المجتمع جزءًا فعالاً من معادلة السلطة من خلال إشراك القوى التقليدية.

تدخلت المؤسسة العسكرية باسم المسؤولية الاجتماعية. وقد قال المفكر صامويل هنتجتون إن أوجب الواجبات للمؤسسات العسكرية هي حماية كيان الدولة والمجتمع عبر توفير الدفاع عن الدولة والأمن للمجتمع، وعندما يكون هناك تهديد خطير يهدد تماسك المجتمع فإن الشرف العسكري يتطلب من الجيش التدخل لمنع حدوث الحرب الأهلية.

يبقى أن هناك تساؤلاً حول ما إذا كانت المؤسسة العسكرية قد خططت لافتعال التوتر بين القوى التقليدية من عشائر وطرق صوفية من جهة وأحزاب الحرية والتغيير من جهة أخرى، لخلق المبرر للتدخل، أم أن أحزاب الحرية والتغيير هي من خلق التوتر، ولم تكن ضحية مؤامرة مدبرة.

أميل إلى فرضية أن أحزاب الحرية والتغيير لم تكن ضحية أي مؤامرة من ما يُسمى الجيش، أو ما يسمى الدولة العميقة، ولكن المؤامرة الكبرى على هذه الأحزاب أنها أحزاب بدون ظهير شعبي حقيقي، وتريد أن تدير بلدًا كبيرًا ومعقدًا دون إشراك هذه القوى المجتمعية (حكام البلاد الحقيقيين) عبر تقاسم مقاعد السلطة فيما بين الأحزاب.

يُشاع مثلاً أن عضو المجلس السيادي من المكون العسكري، شمس الدين الكباشي، عرَض على أحزاب الحرية والتغيير في اجتماع ما يعرف باسم «مجلس الشركاء»، أنه مستعد للتفاوض مع زعيم قبيلة الهدندوة، الناظر محمد الأمين ترك، الذي كان يغلق ميناء بورتسودان الحيوي، لكن يجب على أحزاب الحرية والتغيير أن تعطيه مكاسب ليعرضها على ترك في التفاوض تضمن إشراك الناظر ترك ومجتمعه في الحكم، لكن أحزاب الحرية والتغيير رفضت هذا الأمر، وطالبت بالتعامل الأمني والشرطي الحاسم مع الناظر ترك باعتباره منتميًا للنظام البائد.

كذلك تعاملت أحزاب الحرية والتغيير بقلة احترام مع السودانيين المرتبطين بالطرق الصوفية، حيث تم استبعاد أحد أهم زعماء الطرق الصوفية الرئيسية، وهو السيد محمد عثمان الميرغني زعيم الطريقة الختمية، كما تم استبعاد زعماء مثل الطيب الجد والركيني والكباشي وأهالي الشكنيبة وكدباس، وتم التحريض على طلاب الخلاوي المخصصة لتحفيظ القرآن الكريم لإغلاقها باعتبار أنها تخرج المتطرفين دينيًا.

أحزاب الحرية والتغيير و«الطيش السياسي»

عانت أحزاب الحرية والتغيير منذ توقيعها لاتفاقية تقاسم السلطة مع المجلس العسكري من الطيش السياسي، وهو ما دفعها لاستعداء المؤسسة العسكرية بتأثير من جهة واشنطن المولعة بقضايا الصراعات المدنية العسكرية، فقامت بفتح ملف شركات القوات المسلحة وزعمت أن هذه الشركات تمثل 80% من حجم الاقتصاد السوداني، كما تورط عدد من نشطائها بتحريض من نواب الكونغرس لإصدار قانون «الانتقال الديمقراطي» الذي استهدف شركات الجيش.

جاء بعد هذا القانون سلسلة أخرى من القوانين التي اعتبرها الجيش مستفزة، كقانون آخر يمنع التعاون بين الجيش السوداني والأمريكي إلا بموافقة الحكومة المدنية التابعة لقوى الحرية والتغيير، وقانون آخر يفرض عقوبات على شركات تصدير الذهب التابعة لقوات الدعم السريع. كان لهذه السلسلة من القوانين الأثر الأبرز في تشكيل قناعة قيادات الجيش أنه لا يمكن استمرار الشراكة مع مجموعة الحرية والتغيير مهما كانت العواقب، وبتعبير السيد محمد حمدان دقلو (حميدتي)، نائب رئيس المجلس السيادي: «فلتمطر حصو، وإن كان لهم شارع فلنا أيضًا شارع».

أما الحركات المسلحة، فرغم أنها كانت موقعة على إعلان الحرية والتغيير منذ يناير/كانون الثاني 2019، فإن أحزاب الحرية والتغيير رفضت إشراكها في السلطة إلا بعد توقيع اتفاقية سلام، واستغلت الفترة ما بين يوليو/تموز 2019 ونوفمبر/تشرين الثاني 2020، تاريخ عودة الحركات المسلحة إلى الخرطوم، لتوظيف كوادرها في كل مناصب الخدمة المدنية بداية من أصغر الوحدات الإدارية ونهاية إلى مدراء البنوك والجامعات. وبعد اتفاق سلام جوبا، عرضت قوى الحرية والتغيير على الحركات المسلحة إشراكها في الوزارات والمناصب العليا دون أي شراكة في الخدمة المدنية التي قامت بتسييسها لصالح أحزابها.

إن أحزاب الحرية والتغيير لم تستطع كسب القوى الاجتماعية الفعالة، بل إنها خسرت كل من شارك في الثورة من خارج أحزابها، فهي وإن كانت خاسرة ابتداء القوى السياسية الإسلامية بسبب ارتباطها بمشروع إقليمي ودولي استئصالي للإسلام السياسي، بجانب خسارتها للطرق الصوفية والقبائل، فإنها لم تستطع إبقاء تحالفها مع الحركات المسلحة والجيش صامدًا، فهي تريد أن تأخذ دون أن تعطي، بل إن أحد قادتها قال للحركات المسلحة إن عليها العودة إلى التمرد إذا ما أرادت مزيدًا من السلطة، أو إن التمرد لن يكلفهم العودة إلى دارفور أو النيل الأزرق، فيمكنهم التمرد في غابة السنط (غرب الخرطوم).

اليسار الليبرالي ينتحر

لقد مثلت ثورة ديسمبر 2018 صحوة لليسار السوداني الذي كان قد تم دفنه في 22 يوليو/تموز 1971 بعد فشل انقلاب المقدم هاشم العطا على الرئيس الأسبق جعفر نميري، واتهام الحزب الشيوعي بالوقوف خلف ذلك الانقلاب، حيث تم إعدام قادة الحزب وتفكيك نقابة السكة الحديد ونقابات الشحن والتفريغ والمزارعين.

منذ ذلك العهد، كانت إستراتيجية اليسار السوداني الشيوعي والقومي هي إسقاط النظام في الخرطوم بالعمل العسكري، فقام كوادر الحزب الشيوعي بالانضمام للتمرد في جنوب السودان، بينما كان بعضهم قد قرر الالتحاق بالثورة الإريترية أو الفدائيين الفلسطينيين.

وعندما قام الإسلاميون بالتصالح مع نظام جعفر نميري، فإن اليسار القومي استطاع استدراج الشريف حسين الهندي، زعيم الحزب الاتحادي الديمقراطي، إلى التحالف مع نظام صدام حسين الذي كان يعادي نظام نميري الموالي للسادات ومن بعده لمحمد حسني مبارك.

وبعد سقوط نميري بالانتفاضة الشعبية، فإن اليسار القومي لم يفُز بأي دائرة انتخابية، وأما اليسار الماركسي فقد فاز في دائرتين، إحداهما في جنوب السودان، وبالتالي كان مخططه هو الانقلاب العسكري على حكومة الصادق المهدي الضعيفة، فأغرق الحكومة في الإضرابات، ولكن الإسلاميين كانوا جاهزين بانقلابهم، فاستلموا الحكم، وقاموا بعدة محاولات للانقلاب بعد ذلك لكن تم إجهاضها، أشهرها انقلاب 1990 الذي نفذه البعثيون، ونجحوا في السيطرة على عدة مقرات عسكرية أهمها سلاح المدرعات، قبل أن يتم إحباط المحاولة وإعدام الضباط الذين وقفوا خلفها.

لقد كانت سنون الإنقاذ سنين عجافًا على اليسار السوداني، فرغم أنه تم إشعال عدة تمردات مناطقية أحدها نجح في تقسيم البلاد، إلا أن مكاسب اليسار من هذه التمردات كانت ضئيلة جدًا. فالتمرد الذي كان في جنوب السودان كان انفصاليًا، ولم يكن صادقًا في أن غايته هي العلمانية وإزالة التهميش، ثم أنتج دولة فاشلة في جنوب السودان. والتمرد الذي كان في دارفور كان كراهية للحزب الشيوعي وللبعثيين باعتبار أن هذه الأحزاب كانت منحازة للقبائل العربية ضد القبائل الإفريقية. أما التمرد الموجود في النيل الأزرق وجبال النوبة، فإنه جزء من تمرد دولة الجنوب الانفصالي لكنه لم يحظَ بالانفصال باعتبار الجهة التي صاغت الاتفاق تركت مسمار جحا في شمال السودان لكي لا يستقر نظام البشير.

لذلك قرر جناح من هذا اليسار الاتجاه يمينًا وتبني اليسارية الثقافية المقبولة لدى القوى الغربية. توافق ذلك مع اتجاه القوى الغربية في الأعوام الأخيرة نحو تشجيع تغيير نظام البشير لكن في شكل ما عُرِف بـ «الهبوط الناعم»، أي انتفاضة محدودة تشبه الثورات الملونة تطيح برأس النظام، لكنها تبقي على جسده الذي يقوم بتغيير بعض السياسات السابقة لصالح سياسات مطواعة أكثر تجاه الغرب.

لقد وصل القوم إلى الحكم بدون رؤية أو خطة للحكم، وبالتالي كانوا ضحية المجتمع الدولي الذي مارس أسوأ أنواع الابتزاز للبلاد، ابتداء من إجبار السودان، وهو دولة مفلسة، على دفع تعويضات تتجاوز المليار دولار لأسر ضحايا الهجمات التي قام تنظيم القاعدة بتنفيذها في التسعينيات، ثم إجبار السودان على التطبيع مع إسرائيل والانضمام للاتفاق الإبراهيمي، وأخيرًا إجبار السودان على تحمل تكلفة الحرب الأهلية في إثيوبيا دون دعم حتى الآن، رغم أن عدد اللاجئين على الحدود تجاوز المائة ألف في مخيمات القضارف، ومن خلفهم مجاعة كبرى في تيجراي.

لم يفهم اليسار الثقافي السوداني الذي انخرط في التجمع الاتحادي المعارض وحزب المؤتمر السوداني وحركة حق وبعض منظمات المجتمع المدني أن ما حصل في ديسمبر هو ثورة إصلاحية شارك فيها الجيش والأجهزة الأمنية. دفع هذا اليسار الثقافي باتجاه الأجندة الأمريكية المتعلقة بالصراعات المدنية العسكرية حتى النهاية، محاولاً تكرار نموذج الصراع المصري الذي أعقب ثورة يناير المصرية، وهو سيناريو لم يشهد مثله السودان ما بعد ثورة أكتوبر 1964 وانتفاضة أبريل 1985 حيث كانت هناك مراحل انتقالية هادئة دون الصراع المدني العسكري.

عبد الله حمدوك: «يهوذا» الجديد

في مفاجأة مدوية صبيحة 21 نوفمبر/تشرين الثاني، أعلن عن نجاح المفاوضات ما بين الجيش ورئيس الوزراء عبد الله حمدوك لإعادته للسلطة. وفي منتصف نهار ذلك اليوم، تم التوقيع على اتفاق جديد بين عبد الله حمدوك والجيش بموجبه يعود الأخير لمنصب رئيس الوزراء مع بقاء جميع الإجراءات التي اتخذها البرهان من تعيين لمجلس سيادة من حلفائه من الطرق الصوفية والزعامات الأهلية، وإلغاء جميع مميزات أحزاب الحرية والتغيير التي تضمنها الاتفاق السياسي الذي تم توقيعه في 2019.

كان لهذا الاتفاق وقع الصدمة على أحزاب الحرية والتغيير التي لم تتوقع الغدر من حمدوك، وقد ظنت أن حمدوك سيظل متمسكًا بالخيار الثوري الانتحاري حتى النهاية كما فعل الرئيس المصري السابق محمد مرسي الذي قال إن ثمن الدفاع عن الشرعية يساوي حياته.

لكن الموظف الدولي كان رجلاً واقعيًا جدًا في السياسة لدرجة أنه وقع على هذا الانتحار السياسي بكل شجاعة، باعتبار موازين القوى جميعها بيد القوات المسلحة، وأن الضغوط الدولية قد لا تغير من قناعات المؤسسة العسكرية بإجراءات البرهان التي سميت بـ «تصحيح المسار».

بعودة عبد الله حمدوك، فقدت أحزاب الحرية والتغيير الزخم الدولي الذي كان داعمًا لها لأن المشهد لم يعد مشهدًا انقلابيًا كامل الأركان، كما أن حمدوك خرج على عدة وسائل إعلام دولية محمّلاً أحزاب الحرية والتغيير مسئولية الفوضى التي قادت لتحرك الجيش.

القوى الإقليمية والحيرة في المشهد السوداني

سيطر الجيش السوداني في 25 أكتوبر/تشرين الأول الماضي على السلطة في لحظة إقليمية ودولية هدأت فيه الصراعات الإعلامية ما بين الخليجيين، وهناك حوار ثنائي سعودي إيراني وسط المواجهات غير المباشرة بينهما، وهدنة مصرية تركية إماراتية، بينما إسرائيل منتشية بالتحالف الإبراهيمي.

لم تستطع القوى الإقليمية تفسير ما حدث في الخرطوم، باستثناء مصر التي راهنت منذ البداية على قائد الجيش السوداني عبد الفتاح البرهان، ولها مصالح واضحة في إنهاء حالة الفوضى في السودان. في المقابل، ارتبكت السعودية والإمارات لدرجة الصمت على ما حدث في السودان، ثم خروج بيانات من وزارات الخارجية تدعو لجمع الصف دون التأييد الصريح أو الرفض للتغيير الذي تم في الخرطوم، ثم خروج بيان رباعي يضم السعودية والإمارات مع بريطانيا وأمريكا يدعو لعودة رئيس الوزراء حمدوك، ثم الترحيب المتعجل بصفقة البرهان حمدوك.

ظل الأتراك يراقبون من بعيد ما يحدث وكلهم أمل في استئناف العلاقات الاقتصادية التي انقطعت ما بعد البشير، بينما رحب الإسرائيليون بالانقلاب والإطاحة بأحزاب اليسار الجذري كالحزب الشيوعي السوداني باعتبار أنها معادية لإسرائيل، ولعبت اللوبيات الإسرائيلية دورًا داعمًا للبرهان. أما بالنسبة لقطر، فإنها أخطأت قراءة المشهد السوداني مرتين، الأولى عندما لم تدعم الثورة على البشير، لكنها امتنعت عن دعمه كذلك، والثانية عندما راهنت على الأحزاب المدنية العلمانية ودخلت عبر إعلامها في هذا الصدام مع الجيش السوداني.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.