هذا المقال نشره مركز ستراسفور الأمريكي تحت عنوان “هل يستطيع بوتين البقاء؟” في يوليو 2014 وأعاد نشره مجددا أول أمس الثلاثاء، ويستكشف إذا ما كان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين من البقاء في السلطة، بالرغم من حساباته الخاطئة في أوكرانيا، وهو الأمر الذي طفا إلى السطح مجددا خلال فترة غيابه المؤقتة عن المشهد العام.

وبالرغم من ظهوره مجددا ، إلا أن القضايا المنبثقة عن اختفائه ما زالت متواصلة.

وإلى نص المقال

ثمة رؤية عامة مفادها أن بوتين يحكم روسيا الاتحادية كديكتاتور تمكن من دحر وتخويف مناهضيه، وأنه يمثل تهديدا قويا على الأقطار المحيطة. وهي رؤية معقولة، لكن ربما تخضع لإعادة تقييم في سياق الأحداث التي جرت مؤخرا.

أوكرانيا ومحاولة عكس مسار الانحدار الروسي

أوكرانيا بالطبع هي مكان البداية، لا سيما وأن روسيا تنظر إليها باعتبارها عازلا حيويا ضد الغرب، وطريقا لتسليم الطاقة إلى أوروبا، والتي تمثل أساس الاقتصاد الروسي.

في الأول من يناير 2014، كان الرئيس الأوكراني آنذاك هو فيكتور يانوكوفيتش، الذي كان ينظر إليه بوجه عام باعتباره ميالا إلى روسيا.

وبالنظر إلى التعقيدات التي يتسم بها المجتمع والسياسات الأوكرانية، ليس معقولا القول إن أوكرانيا كانت مجرد دمية روسية، ولكن من العدل القول إن المصالح الرئيسية لموسكو في أوكرانيا كانت مؤمنة في عهد يانوكوفيتش وأنصاره.

لقد كان ذلك الأمر بالغ الأهمية بالنسبة لبوتين الذي كان أحد أسباب خلافته لبوريس يلستين عام 2000 هو أداء الأخير خلال حرب كوسوفو، حيث كانت روسيا حليفة للصرب، ولم تكن راغبة في تلك الحرب التي شنها الناتو على صربيا، لكن تلك الأمنيات قوبلت بالتجاهل، حيث لم تكن وجهات نظر روسيا تهم الغرب.

وعندما فشلت الضربات الجوية في إجبار بلجراد على الاستسلام، تفاوض الروس للوصول إلى تسوية سمحت للولايات المتحدة وقوات الناتو الأخرى بدخول كوسوفو وإدارتها، ولكن مقابل وعود بمنح القوات الروسية دورا هاما في حفظ السلام بكوسوفو، لكن لم يسمح للروس بممارسة ذاك الدور، وعجز يلستين عن رد الإهانة.

وعلاوة على ذلك، حل بوتين محل سلفه يلستين بسبب الحالة الكارثية للاقتصاد الروسي.

وبالرغم من الفقر الدائم لروسيا، كان هناك إحساس شائع بأن قوتها تؤخذ في الحسبان في الشؤون الدولية.

ولكن في حقبة يلستين باتت روسيا أكثر فقرا، وتحظى بالازدراء فيما يتعلق بالشؤون الدولية, وكان ينبغي على بوتين التعامل مع هاتين القضيتين.

واستغرق الأمر وقتا طويلا قبل تحرك بوتين لإعادة خلق القوة الروسية، بالرغم من تصريحات مبكرة له مفادها أن سقوط الاتحاد السوفيتي كان الكارثة الجيوسياسية الأكبر في القرن العشرين.

لكن بوتين لم يقصد رغبته في عودة الاتحاد السوفيتي بصورته الفاشلة، لكنه أراد أن تؤخذ قوة روسيا مجددا مأخذ الجد، وحماية وتعزيز المصالح القومية لبلاده.

نقطة الانهيار حدثت لأوكرانيا خلال الثورة البرتقالية عام 2004. حيث كان يانوكوفيتش قد اختير رئيسا في ذلك العام، في ظل ظروف تبعث على التوجس، لكن المتظاهرين أجبروه على إجراء انتخابات ثانية، خسر فيها يانوكوفيتش، وتولت حكومة موالية للغرب المنصب.

ووجه بوتين اتهامات آنذاك لوكالة المخابرات المركزية الأمريكية ومؤسسات استخبارية غربية أخرى بتنظيم تلك المظاهرات، وكانت هذه هي النقطة التي اقتنع فيها بوتين باعتزام الغرب على تدمير روسيا الاتحادية، وإرسالها إلى ذات الطريق الذي سلكه الاتحاد السوفيتي.

وبالنسبة لبوتين، كانت الأهمية التي تمثلها أوكرانيا لروسيا بديهية، ومن ثم اعتقد أن ” سي آي إيه” ضالعة في تنظيم تلك المظاهرات لوضع روسيا في موقف خطير ، وأن السبب في هذا يكمن في رغبة فائقة لتعجيز روسيا وتدميرها، لا سيما بعد قضية كوسوفو، حيث تحول الرئيس الروسي من مرحلة الشك تجاه الغرب إلى العداء.

وعمل الروس في الفترة بين 2004 إلى 2010 على تقويض الثورة البرتقالية، وإعادة بناء الجيش الروسي، والتركيز على الجهاز الاستخباري، واستخدام كافة أشكال التأثيرات الاقتصادية لإعادة علاقاتهم مع أوكرانيا، فإذا لم يستطيعوا السيطرة عليها، فهم لا يريدون أن تكون مفاتيح التحكم في أيدي الولايات المتحدة وأوروبا.

الغزو الروسي لجورجيا كان أكثر ارتباطا بأوكرانيا من القوقاز ، إذ تزامن ذلك مع التعثر الأمريكي في العراق وأفغانستان.

وبينما لم تكن واشنطن تمتلك التزامات تجاه جورجيا، لكن جمعتهما علاقات وطيدة واعتراف ضمني.

واستهدفت روسيا تحقيق شيئين رئيسيين من غزو جورجيا، الأول هو توضيح قدرة الجيش الروسي، الذي مر بحالة من الفوضى عام 2000 ، على تنفيذ عمليات حاسمة في 2008.

أما الهدف الثاني، فتمثل في توصيل رسالة للمنطقة، ولا سيما إلى كييف، مفادها أن الضمانات الأمريكية ، سواء كانت صريحة أو ضمنية، ليست ذات قيمة.

انتخاب يانوكوفيتش عام 2010 كان إشارة بعكس مسار الثورة البرتقالية، والحد من التأثير الغربي على أوكرانيا.

وإدراكا منها للتصدع المتنامي مع روسيا، والاتجاه العام ضد الولايات المتحدة في المنطقة، حاولت إدارة أوباما إعادة خلق نماذج قديمة من العلاقات, عندما أهدت هيلاري كلينتون بوتين زر “إعادة تشغيل” عام 2009.

لكن واشنطن أرادت استعادت استعادة العلاقات في فترة وصفها بوتين بأنها تماثل “الأيام القديمة السيئة”، ولم يكن راغبا في إعادة العلاقات، بل أنه رأى الولايات المتحدة تتبنى موقفا دفاعيا، لذلك عقد العزم على استغلال أسبقيته.

واستغل بوتين اعتماد أوروبا على الطاقة الروسية في محاولة للتقارب مع القارة، لا سيما ألمانيا، لكن موقف بوتين المتصاعد حدث خلال الأزمة السورية، عندما هددت إدارة أوباما بشن ضربات جوية ضد دمشق التي استخدمت أسلحة كيماوية. وعارض الرئيس الروسي بشراسة الخطوة الأمريكية، عارضا بدلا منها عملية مفاوضات.

وظهرت روسيا خلال تلك الأزمة حاسمة وقادرة، بعكس الولايات المتحدة التي بدت مترددة وضعيفة، ورفع ذلك من أسهم بوتين، وقوة روسيا رغم اقتصادها الفقير.

الوضع ينقلب ضد بوتين

لكن الأحداث التي شهدتها أوكرانيا عام 2014 ذات آثار مدمرة لبوتين. ففي يناير 2014 كانت روسيا تهيمن على أوكرانيا، وبحلول فبراير 2014، لاذ يانوكوفيتش بالفرار من البلاد، وتولت السلطة حكومة موالية للغرب ، كما لم تحدث ثورة عامة في شرق أوكرانيا، والتي توقعها بوتين ضد كييف بعد عزل يانوكوفيتش، بل تمكنت الحكومة الأوكرانية الجديدة من ترسيخ نفسها، بمساعدة مستشارين غربيين.

وتحكم الروس فقط في أجزاء صغيرة من أوكرانيا، بينها شبه جزيرة القرم، التي دأبت روسيا على نشر قوة عسكرية كبيرة داخلها، بموجب اتفاقية، وكذلك مثلث يضم دونيتسك ولوهانسك وسيفيرودونيتسك، حيث تتحكم فيها مجموعة صغيرة من المتمردين، بدعم من قوات عمليات خاصة روسية في بعض المدن.

ولو لم تحدث الثورة الأوكرانية، لاعتمدت إستراتيجية بوتين على السماح لحكومة كييف بالانحلال من اتفاقيتها الخاصة، وإحداث شقاق بين الولايات المتحدة وأوروبا، عبر استغلال روابط التجارة والطاقة الروسية القوية مع القارة.

ومن هنا تتمثل أهمية ملابسات حادث تحطم طائرة الخطوط الجوية الماليزية، فلو ثبت، كما يبدو في القضية، أن روسيا زودت الانفصاليين بأنظمة دفاعية جوية، وأرسلت طواقم روسية لتوجيههم، لأن تشغيل تلك الأنظمة يحتاج إلى تدريب، قد تتحمل روسيا عندئذ مسؤولية إسقاط الطائرة، بما يعني انحدار قدرة موسكو على إحداث انقسام بين الأوروبيين والأمريكيين، كما يحوله إلى قائد يفتقد الكفاءة، ويدعم انفصاليين فاقدي الأمل بأسلحة غير ملائمة.

وفي ذات الأثناء، ينبغي على بوتين أن يأخذ في الاعتبار مصير أسلافه، مثل نيكيتا خروتشوف الذي عاد من الفاتيكان في أكتوبر 1994 ليجد أن زميله ليونيد بريجنيف استحوذ على السلطة، بل وجهت إليه اتهامات، أحدها “التخطيط الطائش”، بعد تورطه المهين في أزمة الصاروخ الكوبي، بالإضافة إلى فشله في تحريك الاقتصاد للأمام بعد قرابة عشرة سنوات قضاها في السلطة، وهو ما أسفر عن انقلاب أقرب زملائه عليه.

الوضع الاقتصادي الروسي ليس كارثيا بمثل ما كان عليه في حقبتي خروتشوف ويلستين، لكنه تدهور مؤخرا بشكل جوهري، وربما فشل في تلبية التوقعات.

وبعد التعافي من الأزمة المالية العالمية عام 2008، مرت روسيا بسنوات عديدة من انحدار معدلات نمو الناتج الإجمالي المحلي، وتوقع البنك المركزي الروسي أن يبلغ معدل النمو عام 2014 صفر بالمئة.

ونظرا للضغوط الحالية، يمكننا تخمين أن الاقتصاد الروسي سينزلق إلى مرحلة الركود، في وقت ما من عام 2014.

لقد تضاعف مستوى الدين الروسي خلال السنوات الأربع الماضية، وباتت العديد من المناطق على حافة الإفلاس، وكذلك تواجه بعض شركات التعدين والمعادن ذات المصير.

وزادت الأزمة الأوكرانية الأمور سوءا، فبلغ مقدار رأس المال الذي غادر روسيا خلال النصف الأول من 2014 مستوى 76 مليار دولار، مقارنة ب 63 مليار دولار خلال عام 2013 بأكمله.

كما انخفضت الاستثمارات الأجنبية المباشرة خلال النصف الأول من 2014 بنسبة 50 بالمائة مقارنة بذات الفترة من 2013، بل أن ذلك يحدث في ظل أسعار نفط تتجاوز 100 دولار للبرميل، بما يعني أن الوضع سيزداد سوءا مع هبوط أسعار النفط.

لقد ارتفعت شعبية بوتين بالداخل بعد نجاح دورة سوشي الأولمبية، وبعد أن جعله الإعلام الغربي يبدو في صورة المعتدي، فيما يتعلق بالقرم، فالرئيس الروسي بنى شعبيته بكونه قاسيا عدوانيا، لكن حقيقة الوضع في أوكرانيا باتت أكثر وضوحا، حيث سيتضح أن هذا النصر العظيم محاولة للتغطية على تقهقر روسي، في وقت تمر فيه موسكو بمشكلات اقتصادية خطيرة.

وبالنسبة للعديد من القادة، فإن أحداث أوكرانيا تمثل لهم تحديا وشيكا، لكن بوتين بنى صورته على سياسة خارجية صارمة، ولم يكن الاقتصاد يعني له الكثير قبل أزمة أوكرانيا.

تخيل روسيا بعد بوتين

في ذلك النمط من النظام ، قد لا تكون العملية الديمقراطية مفتاحا لفهم الخطوات التالية، فقد أعاد بوتين العناصر السوفيتية إلى الهيكل الحكومي، مستخدما مصطلح “بوليتبورو” على مجلس الوزراء، الذي يتألف جميعه من رجال اختارهم هو، بما يطرح افتراضات ولائهم له، ولكن في نظام البوليتبورو السوفيتي، فإن المقربين يشكلون مصدر الخوف الأكبر.

لقد صمم نموذج بوليتبورو ليستطيع القائد بناء ائتلافات داخل الفصائل، وأثبت بوتين قدرة جيدة على فعل ذلك، لكن قدرته على عقد الأمور معا تنحدر جراء تدهور الثقة في قدراته، وبدأ القلق يتسلل داخل فصائل عديدة من عواقب البقاء بالقرب من قائد فاشل.

وقد يلقى بوتين مصير خروتشوف، الذي فشل في الاقتصاد والسياسة الخارجية، وعزله زملاؤه في النهاية.

من الصعب معرفة طبيعة الأزمة حول من يخلف بوتين، لا سيما في ظل التضارب بين العملية الدستورية ، والحكومة غير الرسمية التي خلقها بوتين.

ومن وجهة نظر ديمقراطية، فإن وزير الدفاع سيرجي شويجو، وحاكم موسكو سيرجي سوبيانين يمتلكان نفس نمط شعبية بوتين، ولا أعتقد أنهما يستطيعان تحقيق شعبية أكبر في الوقت المناسب.

وعند قياس الصراع بالمنظور السوفيتي، يبدو رئيس الأركان سيرجي إيفانوف، ورئيس المجلس الأمني نيكولاي باتريشيف المرشحين المحتملين لخلافة بوتين. لكن هناك آخرون بالطبع، فمن كان يتوقع مثلا ظهور ميخائيل جورباتشوف؟

السياسيون الذين يفشلون في حساباتهم، ويعجزون عن إدارة الأمور لا يكتب لهم البقاء. وقد أخطأ بوتين حساب الأمور في أوكرانيا، وفشل في توقع انهيار حليف، وكذلك أخفق في الاستجابة على نحو مؤثر ، ثم تعثر على نحو سيء محاولا استعادة الأمور، كما أن إدارته للملف الاقتصادي أثبتت فشلها.

ولم يعد لديه زملاء يعتقدون أنه قادر على تحقيق الأفضل، بالإضافة إلى وجود أشخاص مهمين في أوروبا سيشعرون بالسعادة إذا رحل بوتين، الذي إذا لم يستطع تغيير دافة الأمور بسرعة، سيكون تغييره هو المصير المحتوم.

يحكم بوتين روسيا على مدى 14 عاما، بحساب الوقت الذي تقلد فيه مدفيديف الرئاسة، وقد يستطيع الرئيس الروسي الوقوف على قدميه مجددا، ولكن بحسب مجريات الأمور في الوقت الحالي، أتوقع أن أفكارا صامتة تدور في عقول زملاءه.

ينبغي على بوتين نفسه إعادة اختبار خياراته يوميا. الانسحاب من مواجهة الغرب والقبول بالوضع الراهن في أوكرانيا سيكون صعبا، لا سيما وأن إخفاق يلستين في قضية كوسوفو هو ما ساعد بوتبن على تقلد السلطة، وكذلك في ظل تصريحاته عن أوكرانيا على مدى سنوات.

البطاقة الوحشية في هذا الوضع تأتي عند شعور بوتين أنه يواجهىأزمة سياسية خطيرة، حيث سيضحى آنذاك أكثر عدوانية.

وبالرغم من ظهوره مجددا ، إلا أن القضايا المنبثقة عن اختفائه ما زالت متواصلة.

المصدر