محتوى مترجم
المصدر
Open democracy
التاريخ
2019/12/8
الكاتب
ماريانو أغيري

كانت إدارة ترامب نشطة للغاية في الأشهر الأخيرة، في دعم عدم الاستقرار في الشرق الأوسط. في أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، أعلن الرئيس دونالد ترامب سحب 2500 جندي أمريكي كانوا يقاتلون في سوريا إلى جانب قوات وحدات حماية الشعب الكردية، والتحالف الكردي العربي للقوات الديمقراطية السورية. تتعاون واشنطن مع هذه الميليشيات منذ 2015 في قتال تنظيم الدولة الإسلامية. 

في نوفمبر / تشرين الثاني، أعلن البيت الأبيض أن الولايات المتحدة لا تعتبر المستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية انتهاكًا للقانون الدولي، كسبيلٍ لرفض أربعة عقود من بيانات القانون الدولي بشأن احتلال الأراضي الفلسطينية، ووضع حد لخطة حل الدولتين. 

فتح الإعلان الأول الباب أمام التدخل التركي في شمال شرقي سوريا، ومكّن نظام بشار الأسد من السيطرة على هذا الإقليم من الميليشيات الكردية. كما سمح لروسيا بلعب دور الوسيط بين دمشق وإسطنبول وأكراد سوريا. تقوم القوات الروسية والتركية (إذ إن تركيا عضو في الناتو) بلعب دور الحارس معًا في سوريا. 

قدمت إدارة ترامب تفسيرات متضاربة حول هذا الانسحاب المثير للجدل، والحماية الواضحة لحقول النفط في سوريا. تصاعدت الأزمة الإنسانية باستمرار، وكان الحلفاء الأوروبيون والإقليميون بما في ذلك إسرائيل، مرتبكين بشأن أهداف ترامب. هذه الحلقة هي رمز لمغادرة واشنطن الطويلة والمثيرة للجدل من المنطقة. 

الإعلان الثاني استقبله رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو بحرارة، لأنه أظهر التوافق التام للولايات المتحدة مع النهج الإستراتيجي الإسرائيلي تجاه فلسطين. 

تحول ترامب للأسوأ

افترض نهج الرئيس باراك أوباما تجاه الشرق الأوسط أن الولايات المتحدة لا تستطيع السيطرة على الديناميات الإقليمية كما كان في الماضي. دون أن تفقد قيادتها العالمية، يجب على الولايات المتحدة العمل مع الآخرين في النظام متعدد الأطراف، وتجنب الانجرار قدر الإمكان إلى النزاعات المسلحة المحلية. يجب أن يكون استخدام القوة انتقائيًا، (مثل الطائرات بدون طيار في اليمن، والقوات الخاصة في سوريا والصومال).  

اتبعت لغة ترامب المختلفة تمام الاختلاف سياسة الاستخدام الانتقائي والحذر للقوة. لكن بدلًا من الإستراتيجية التصالحية، عززت رئاسته تحالف واشنطن مع إسرائيل والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة ومصر ضد إيران، واتخذت سلسلة من القرارت التي تزيد من التقلبات في الشرق الأوسط. لم يوفر هذا المزيد من النفوذ للولايات المتحدة في المنطقة. وبدلًا من ذلك، أظهر العجز على فهم الديناميات الإقليمية المعقدة. 

اعترف ترامب بالقدس عاصمة للدولة اليهودية، وهو ما يتعارض بوضوح مع قرارات الأمم المتحدة وموقف المجتمع الدولي، فخفض التمويل لوكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا)، وأغلق المكتب الدبلوماسي للسلطة الفلسطينية في واشنطن. 

في مارس / آذار 2019، أعلن ترامب أنه سيعترف بسيادة إسرائيل على مرتفعات الجولان التي احتلتها إسرائيل خلال حرب عام 1967. يعزز هذا الاعتراف مصلحة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في دمج الضفة الغربية المحتلة مع إسرائيل. 

أدت كل هذه الإجراءات إلى تدهور خطير في العلاقات مع الفلسطينيين، وأثارت مظاهرات كل يوم جمعة منذ أبريل/ نيسان 2018، على الحدود التي تفصل بين غزة وإسرائيل. رغم الطبيعة السلمية لهذه التظاهرات، مات 180 فلسطينيًا نتيجة لإطلاق النار الإسرائيلي المميت، وأصيب أكثر من 15 ألف شخص. 

الترويج للأسلحة النووية الإيرانية

علاوة على ذلك، أزاح ترامب الولايات المتحدة الأمريكية من خطة العمل الشاملة المشتركة (JCPOA) لعام 2016، إذ أخضع البرنامج النووي الإيراني لضوابط دولية وفرض عقوبات على الدولة، ما يتعارض مع الحلفاء الأوروبيين والأمم المتحدة وروسيا والصين، وجميعهم من الموقعين على المعاهدة. وفقًا لهذه العقوبات، لا يمكن للدول الأخرى المتاجرة مع إيران. 

بمغادرة خطة العمل الشاملة المشتركة، سمحت واشنطن بإنتاج طهران للأسلحة النووية. بعد بضعة أشهر من تعرضها لإستراتيجية المقاطعة المتمثلة في «أقصى قدر من الضغط» وإصرارها على أن يعوضها الأوروبيون بالكامل عن العقوبات الأمريكية التي فرضت عليها، قررت الحكومة الإيرانية توسيع مخزونها من اليورانيوم منخفض التخصيب، واستئناف مستويات أعلى من التخصيب، واستئناف تطوير أجهزة الطرد المركزي. باعتبارها نبوءة تحقق ذاتها، تضغط الحكومتان السعودية والإسرائيلية والصقور في أمريكا على واشنطن لمهاجمة المنشآت النووية الإيرانية.  

اتخذ ترامب قرارًا آخر مثيرًا للجدل في أواخر عام 2018، عندما أعلن – رغم التوصيات التي لم ترد من إدارته – انسحاب القوات الأمريكية التي تقاتل ضد الدولة الإسلامية في سوريا. ادعى أن المجموعات الإرهابية هُزمت. في الواقع، تراجعت خلافة داعش في العراق وسوريا، لكن نشطاءها المتشددين موجودون في عدد من الدول. تقدر مصادر مختلفة أن المنظمة لا يزال لديها حوالي 20 ألف عضو نشط في سوريا والعراق، بينما تقدرهم وزارة الدفاع الأمريكية بحوالي 17 ألف في العراق. والأسوأ من ذلك أن سوريا والعراق يطلقان سراح سجناء مسلحين لعدم قدرتهم على الاحتفاظ بهم في السجن، وبفضل الانسحاب الأمريكي، لم تعد الميليشيات الكردية تسيطر على سجناء داعش. 

كل هذه الخطوات تظهر انسحاب الولايات المتحدة من الشرق الأوسط. 

الإمبراطورية في تراجع

بعد الحرب العالمية الثانية، ورثت الولايات المتحدة الأمريكية الوجود الاستعماري للمملكة المتحدة وفرنسا وإيطاليا في الشرق الأوسط. تعاونت واشنطن ولندن وتنافستا خلال الفترة الانتقالية. أصبحت المملكة العربية السعودية الحليف الرئيسي في إستراتيجية واشنطن للوصول إلى النفط ومحاربة الاتحاد السوفييتي خلال الحرب الباردة. منذ الستينيات، أصبح الدفاع عن إسرائيل أيضًا جزءًا من الإستراتيجية. 

حاليًا، يشمل التأثير المتناقص للولايات المتحدة في الشرق الأوسط تدابير تؤدي إلى تفاقم النزاعات القائمة، وتؤدي بالقوى العالمية والإقليمية إلى الدفع بأجنداتها.

لن يكون انسحاب الولايات المتحدة الأمريكية فوريًا ولا كاملًا، لكنه جزء من نزعة للتراجع عن الساحة الدولية: الصدام مع أعضاء الناتو، ومغادرة اتفاق باريس للمناخ والشراكة عبر المحيط الهادي، والجدال مع أوروبا والصين حول التجارة مع إيران، والخلافات حول التعريفات الجمركية والتجارة مع بكين، كلها علامات على الهجوم على النظام الليبرالي متعدد الأطراف الذي أُنشئ بعد الحرب العالمية الثانية. 

يرتبط هذا التراجع بانحدار أمريكا، أولًا، نتيجة للمشاكل الداخلية الخطيرة: تفشي عدم المساواة، وأزمة التمثيل السياسي، وتحديات التماسك الاجتماعي، والافتقار إلى البنى التحتية الحديثة، والقائمة تطول. هذا الانخفاض هو أيضًا نتيجة لمجموعة من المشكلات الداخلية مثل الصعود الاقتصادي والتجاري والتكنولوجي للدول الأخرى خاصة الصين. 

يوضح الأستاذ الفخري بجامعة لندن فيكتور بولمر توماس أن الولايات المتحدة الأمريكية كانت إمبراطورية منذ تأسيسها، حيث توسعت لأول مرة عبر أمريكا الشمالية. ومن هناك انتشرت عبر القارة الأمريكية، لتحل محل الإمبراطوريات الأوروبية في أجزاء أخرى من العالم. ولّدت واشنطن أشكالاً مختلفة من الهيمنة، واستخدمت القوة عند الضرورة. 

وصلت الإمبراطورية الأمريكية ذروة قوتها بعد الحرب العالمية الثانية، وإن لم تكن عالمية بالكامل بسبب وجود الاتحاد السوفييتي ومنطقة نفوذه. بدأ التراجع عندما اندلعت الأزمة الداخلية الناجمة عن حرب الفيتنام. 

كان أوباما أول رئيس يدرك الحاجة إلى تكييف السياسة الخارجية للولايات المتحدة مع نظام دولي متعدد الأقطاب. يرى ترامب أن الأمور تغيرت، ويرفع علم «أمريكا أولًا»، والذي ينص على أن الدفاع عن مصالح الولايات المتحدة يتطلب سياسات ومعاملات القوة (خاصة مع الصين) ومقاومة النظام متعدد الأطراف. 

إذن، تترك الولايات المتحدة أو تعارض الاتفاقات الدولية التي تقودها الأمم المتحدة (فيما يتعلق بحقوق الإنسان والبيئة والجنس والمساواة والعرق والهجرة وغيرها)، وبدلًا من ذلك، تنشئ تحالفات متقطعة مع الحكومات (الاستبدادية بشكل رئيسي) ذات الأجندات المماثلة، وتحد من المشاركة في (أو مغادرة) المنظمات متعددة الأطراف، وتجنب التدخل في النزاعات المسلحة. لن تستخدم الولايات المتحدة الأمريكية القوة إلا كملجأ أخير (دون التقيد بالطبع بقيود القانون الدولي). 

اختار ترامب أيضًا معارضة الهجرة، والدفاع عن العرق الأبيض فوق التعددية الثقافية، ومكافحة النماذج العائلية والخيارات الجنسية التي تختلف عن القوالب التقليدية. 

ضعف التقديرات السياسية 

في الشرق الأوسط، يتضح هذا الفقدان العالمي للمصداقية والتأثير في حقيقة أنه على الرغم من أن واشنطن تحتفظ بقوة عسكرية قوية، لم تعد لديها القدرة على السيطرة على الديناميات السياسية – العنيفة أحيانًا – القائمة على الهويات القومية والإثنية والدينية. 

تعمل تركيا وروسيا وإيران في المنطقة دون موافقة واشنطن، بينما تسافر المعارضة السورية إلى موسكو لمناقشة مستقبل الدولة. تعمل روسيا على تحسين العلاقات مع مصر وتركيا والمملكة العربية السعودية وإسرائيل. لإسرائيل علاقة دبلوماسية مع موسكو، وتنسق هجماتها المعتادة على سوريا مع الجيش الروسي. يزداد البعد بين تركيا وواشنطن والناتو. 

لا تعني القوة العسكرية الأمريكية بالضرورة التأثير السياسي في الدول التي نوّعت علاقاتها. دارت الحروب في العراق وسوريا وليبيا واليمن دورتها الخاصة وتجاوزت الولايات المتحدة. 

لا يزال الوجود العسكري الأمريكي في المنطقة ذا صلة. في أكتوبر 2017 ، كان لا يزال هناك 54180 جنديًا، يدعمهم 22 ألفًا من رجال الأمن الخاص. بعض هؤلاء الجنود (حوالي 9 آلاف) في العراق، وفي قواعد عسكرية في قطر والبحرين، وكذلك في الأسطول الأمريكي الخامس. لدى واشنطن أيضًا قوات خاصة في العديد من الدول، وفنيون يتعاونون منذ 2015 مع الحكومة السعودية في غاراتها الجوية على اليمن، وأسلحة نووية في قاعدة إنجرليك في تركيا. 

في السنوات العشرين الماضية، كانت الولايات المتحدة الأمريكية ولا تزال المصدر الرئيسي للأسلحة في المنطقة، إذ بلغت قيمتها حوالي 52 مليون دولار في عام 2017. والمملكة العربية السعودية هي المشتري الرئيسي لها، لكن هذا لم يعد كافيًا للتأثير على السياسة المحلية.

كما تقلصت الحاجة إلى السيطرة على السياسة المحلية والنقاط الجغرافية الرئيسية (مثل مضيق هرمز وقناة السويس). لم تعد الولايات المتحدة تعتمد على الكميات الكبيرة من النفط التي اعتادت شراءها من المنطقة: تنتجها الآن داخليًا أو تشتريها من دول أخرى. من عام 2004 إلى 2007، استوردت 12 مليون برميل يوميًا، وفي 2017، استوردت 2.3 مليون برميل فقط. علاوة على ذلك، هناك ضغوط اجتماعية وسياسية قوية للحد من استهلاك النفط والغاز. 

فيما يتعلق بالتجارة، انخفضت الواردات من الشرق الأوسط إلى أمريكا بشكل كبير. حلت الصين محل الولايات المتحدة باعتبارها المستورد والمصدر الرئيسي في المنطقة. يقول غاري سيك، الموظف السابق في الأمن القومي، إن «الحقيقة هي أن مصالحنا المباشرة في الشرق الأوسط، فيما يتعلق بأمن أراضي الولايات المتحدة، نادرة جدًا. هناك الكثير من الفوضى في المنطقة بحيث لا يؤثر وجودنا من عدمه في مسيرة الأمر».  

الفشل في العراق وفلسطين والربيع العربي

يمكن ملاحظة أزمة الشرعية التي تعاني منها الولايات المتحدة في الشرق الأوسط، في سلسلة من الإخفاقات التي بدأت مع احتلال العراق عام 2003. فرضت واشنطن إدارة وحماية غير معلنة، واستثمرت تريليونات الدولارات، وفقدت أرواح 4700 جندي أمريكي، وخلقت 32 ألف ضحية حرب. تنقسم الدولة اليوم بعمق بين الطوائف الكردية والشيعية والسنية، بالإضافة إلى الانقسامات بين الشيعة أنفسهم، وانعدام ثقة كبير داخل جزء كبير من المجتمع العراقي من حكومتهم والولايات المتحدة. تشكلت المقاومة السنية التي أصبحت عام 2014 تنظيم الدولة الإسلامية في مناخ من الاستياء.

يعتبر ديفيد غاردنر من صحيفة فاينانشيال تايمز حرب العراق نقطة التحول في نهاية فترة القطب الواحد للولايات المتحدة (1991-2003). بعد أن سحبت واشنطن معظم قواتها عام 2011، انتشرت الميليشيات الشيعية بفضل الأسلحة والتدريب الإيرانيين، ليسيطروا على جزء من الأمن والسياسة والاقتصاد في الدولة. 

الفشل التالي كان محاولة أوباما تشجيع المفاوضات بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية. أظهرت عرقلة نتنياهو المنهجية لهذه المحاولة عدم قدرة واشنطن على الضغط على إسرائيل، بسبب قدرة اللوبي الإسرائيلي في الولايات المتحدة الأمريكية وجمود عقود من الدعم الاقتصادي والدبلوماسي والعسكري والسياسي غير المشروط لواشنطن. 

في هذه الأثناء، أثار الربيع العربي غضب واشنطن. بعد بعض الشكوك الأولية، دعم أوباما المعارضة السلمية ضد الرئيس المصري حسني مبارك، ما أدى لإسقاطه. أغضب هذا حكومات المملكة العربية السعودية وممالك الخليج وإسرائيل، حلفاء النظام الاستبدادي المصري، الذين خلصوا أخيرًا إلى أنه لم يعد بإمكانهم الاعتماد على الولايات المتحدة الأمريكية للدفاع عنهم دون قيد أو شرط. سرعان ما اختفى الدعم الأولي من واشنطن، لكن هذا لم يطمئنهم تمامًا.

في حالة مصر، عزز ترامب دعمه الكامل لديكتاتورية عبد الفتاح السيسي، وقمعه القوي للإخوان المسلمين وأي معارضة. بدأت هذه السياسة خلال رئاسة أوباما، التي قبلت القمع العسكري والقضائي في مصر. تتلقى مصر مساعدات اقتصادية ضخمة من المملكة العربية السعودية، وتتعاون مع إسرائيل لمحاربة التمرد في صحراء سيناء، وحصار حوالي 2 مليون فلسطيني في غزة.

كسر ليبيا

تبعتها ليبيا: كان رد فعل حكومة أوباما على الانتفاضة ضد معمر القذافي (2011) «القيادة من خلف الستار»، كما كانت تسمى الإستراتيجية، لدعم التدخل العسكري لحلف الناتو الذي تروج له فرنسا والمملكة المتحدة. 

لم يعد لدى الولايات المتحدة ولا أوروبا خطة لفترة ما بعد الحرب، كما اعترف أوباما لاحقًا. أدت عملية «حماية المدنيين» التي وافق عليها مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة إلى إنهاء نظام القذافي، لكن خلقت حروب داخلية متعددة، حيث جرى تهريب مئات الآلاف من الأسلحة الليبية إلى الساحل، ما زاد من التمرد في المنطقة. اعتبرت روسيا أن واشنطن خدعتها في مجلس الأمن.

ليبيا الآن دولة مجزأة عنيفة، وميناء لتهريب واستعباد المهاجرين المتجهين إلى أوروبا، ولا تتمتع واشنطن بنفوذ كبير في الصراع. على النقيض، تشارك الجهات الأجنبية الفاعلة بشكل متزايد. في أبريل/ نيسان الماضي، قاد الجنرال خليفة حفتر (المنشق السابق عن نظام القذافي، والمدرَّب في الولايات المتحدة) ثورة ضد حكومة فايز السراج، بدعم من الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأمريكية. خلال الساعات الأولى من الهجوم، أخلت واشنطن قواتها الخاصة لأن الوضع أصبح «أكثر تعقيدًا ولا يمكن التنبؤ به».

في يونيو / حزيران 2019، ظهرت أنباء عن وجود مئات المرتزقة الروس في ليبيا (ودول أفريقية أخرى)، ينتمون إلى مجموعات فاجنر برئاسة يفغيني بريجوزين، الحليف الغامض للرئيس بوتين. مصر والإمارات العربية المتحدة والسودان والأردن، يزودون حفتر بدعم عسكري. لكن تحتفظ موسكو بعلاقات مع حكومة طرابلس، بينما يشتكي السراج من تخلي الولايات المتحدة عنه. تهتم موسكو باحتلال المساحات الجغرافية السياسية في البحر المتوسط، والوصول إلى الموارد الطبيعية في أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى. 

الحرب السورية الدولية

عندما بدأت الانتفاضة ضد الأسد، أصرّ أوباما على موقفه ضد الضغوط الدولية والعالمية لإحضار الجيش الأمريكي. وكما يقول غاردنر، فإن المشكلة لم تكن رفضه التدخل، لكن الولايات المتحدة وبعض الدول الأوروبية «سلحوا جماعات سنية مدعومة من الباطن من دول الخليج وتركيا. وبالتالي، أصبحت سوريا نقطة جذب للجهاديين وعززت تأثير الإسلاميين المتطرفين المحليين». 

من ناحية أخرى وبعد استغلالهم الفرصة ليحلوا محل الولايات المتحدة، تدخل ممثلون إقليميون مثل إسرائيل وإيران والمملكة العربية السعودية وتركيا وجماعة حزب الله اللبنانية. لكن الممثل الخارجي الحاسم كان روسيا، التي ركزت منذ عام 2015 الضربات الجوية مع الدعم الاقتصادي والدبلوماسي. 

واصل ترامب إرث سلفه، قررت الولايات المتحدة الأمريكية محاربة تنظيم الدولة الإسلامية دون محاربة نظام دمشق. وبهذه الطريقة، سمحت لموسكو بأن تصبح أقوى لاعب خارجي. تتمثل أهداف الرئيس فلاديمير بوتين في احتواء التطرف الإسلامي الذي يمكن أن ينتشر إلى السكان المسلمين في روسيا والدول المجاورة لها، وإقامة تحالفات مع القوى الإقليمية، وزيادة مبيعاتها من الأسلحة والنفط والغاز.  

إحياء التحالفات المعقدة

بالنظر إلى انتشار المصالح، تركز إدارة ترامب على تعزيز مثلث القوى المكون من المملكة العربية السعودية ومصر وإسرائيل، وإضافة حلفاء آخرين مثل الإمارات العربية المتحدة والبحرين والأردن.

خلال رحلته الأولى إلى الخارج، أبرز ترامب تحالفه مع الرياض، ووقع عقودًا بقيمة ملايين الدولارات (لم تتحقق بعد) لبيع الأسلحة. عندما قُتل الصحفي جمال خاشقجي في سفارة المملكة العربية السعودية في إسطنبول في أكتوبر/ تشرين الأول 2018، أظهر البيت الأبيض ولاءه بقبول رواية ولي العهد محمد بن سلمان للقصة (يبدو أن تحريضه أدى لارتكاب الجريمة). 

في مارس 2019، أعلن ترامب نيته بيع التكنولوجيا النووية إلى الرياض، وأذن بمشاركة المعلومات السرية المتعلقة بهذا المجال دون موافقة الكونجرس الأمريكي. سيؤدي قرار من هذا القبيل إلى التغلغل في المنطقة، حيث أعربت بعض الحكومات بالفعل عن رغبتها في امتلاك هذا النوع من الأسلحة، وستزيد من إضعاف الاتفاق الإيراني. 

لكن بينما يشجع البيت الأبيض على إعادة تسليح المنطقة، فهو متردد في استخدام القوة. أثبت ذلك ثلاث حوادث: هجوم ميناء الفجيرة في 12 مايو/ آيار على أربع نواقل نفط في الإمارات العربية المتحدة، وإسقاط طائرة أمريكية بدون طيار في 20 يونيو/ حزيران، وهجوم سبتمبر/ أيلول على المنشآت النفطية في المملكة العربية السعودية. اتهمت الإدارة الأمريكية إيران بالوقوف خلف هذه الحوادث وأظهرت بعض القوة، لكنها لم تستخدم القوة ضد إيران.

لا يصاحب هذا الحذر بشأن استخدام القوة سياسة لتشجيع الحوار بين الجهات الفاعلة المحلية، والسيطرة على مبيعات الأسلحة في المنطقة، واحترام الاتفاق الدولي مع إيران، من بين الإجراءات الأخرى الممكنة. على النقيض، المواءمة مع إسرائيل والمملكة العربية السعودية، ونهج المواجهة تجاه إيران، والسياسة العدوانية تجاه الفلسطينيين، كلها تشعل وتعمق الأزمة الحالية. 

خطة رائعة لإسرائيل وفلسطين 

وعد الرئيس ترامب عام 2017 بطرح خطة رائعة لحل النزاع الفلسطيني الإسرائيلي، واختار صهره جاريد كوشنر للقيام بذلك. في أبريل/ نيسان 2019، أوضح نتنياهو أن لديه ثلاثة شروط لخطة كوشنر: عدم تفكيك مستوطنة إسرائيلية واحدة في الضفة الغربية، وستحتفظ إسرائيل بالسيطرة على الأراضي الواقعة غرب نهر الأردن، وعدم تقسيم القدس. 

تشمل خطة كوشنر التي صيغت بالاشتراك مع الأمير محمد بن سلمان قبول الفلسطينيين بالحكم الذاتي المحدود في أجزاء من الضفة الغربية، والتخلي عن رغبتهم في إقامة دولة جديدة. على المستوى الإقليمي، خططوا لتحالف إسرائيلي سعودي ضد إيران والإخوان المسلمين وحزب الله وحماس والحوثيين، والسيطرة على لبنان.

لكن لم يدعم الملك السعودي سلمان ولا دول عربية أخرى الخطة، كما رفضوا القرار الأمريكي بشأن القدس (خاصة وأن ملك العربية السعودية هو خادم الحرمين الشريفين). من جانبهم، رفض الفلسطينيون عروض كوشنر لتبادل مطالب دولتهم بالاستثمارات. وبدلًا من الخطة الرائعة، اتبعت واشنطن في الأخير ما تريده إسرائيل. 

مستقبل المنطقة في أيدٍ كثيرة 

بعد عقود من الدعم السياسي والاقتصادي والدبلوماسي والعسكري، أصبحت إسرائيل قوة يمكنها تحدي الولايات المتحدة الأمريكية وتجاهلها. خلال رئاسة أوباما، أطلق نتنياهو تدابير للسياسة الخارجية كانت مستقلة تمامًا عن واشنطن، وخلق علاقات مع روسيا والصين. تقوم حكومة نتنياهو ببناء تحالفات سياسية وعسكرية مع ممالك الخليج (الفارسي) وتوسع نفوذ إسرائيل في أفريقيا. 

يعتقد معين رباني، المحلل لقضايا الشرق الأوسط، أن المبادرات السياسية للولايات المتحدة الأمريكية نُقلت إلى الجهات الفاعلة الإقليمية: «إن نتنياهو وولي العهد السعودي هما اللذان يتخذان القرارات الرئيسية في الشرق الأوسط، بدعم من مايك بومبيو وزير الخارجية. ليس هذا عجزًا بقدر ما أنه عدم اهتمام بالتأثير على هذه الديناميات». لا تملك أي دولة في المنطقة ولا أي قوة أجنبية واحدة القدرة على تحديد مستقبل المنطقة وحدها. فيما يتعلق بأوروبا، ستكون أوروبا جهة فاعلة ثانوية طالما استمرت في انتظار تولي الولايات المتحدة الأمريكية زمام المبادرة.

يطرح بولمار توماس فكرة أن الإمبراطورية الأمريكية تتراجع لتصبح مجرد دولة قومية. يمكن أن يحدث هذا بشكل سلمي أو مواجهة مع قوى أخرى، مع أو بدون تمزق داخلي. ويذكر أن روما اختفت عندما توقفت عن كونها إمبراطورية، لكن المملكة المتحدة أو فرنسا أو البرتغال أو إسبانيا نجت كدول قومية. أما بالنسبة للشرق الأوسط، فشهدت المنطقة بالفعل انهيار إمبراطوريات متعددة: الدولة العثمانية والفرنسية والإيطالية والروسية والبريطانية. لم تنهار الإمبراطورية الأمريكية بعد، لكن طريق انهيارها قد رُسم.