على رقعة الشطرنج يكفي أن يموت الملك لتنتهي اللعبة. موته يعنى نهاية المعركة وانتصار الخصم. هكذا الأمور في الشطرنج. فالمعركة دائمًا لقتل الملك. سقوط الملك يعني الحسم. أما في اليمن، فالوضع مُختلف. الملك لم يكن سوى جندي ضمن الجنود. أسميناه «الملك» ليؤدي دورًا إضافيًا فحسب.إذن، نهاية «صالح» لا تعني بالضرورة أن المعركة قد حُسمت. مات الملك؛ فلنأت بآخر. خسرنا الكثير من الجنود، فلنَحشد المزيد. دمرنا رقعة الشطرنج، لا يهم. المهم أن ننتصر، حتى لو لم يتبق شعبٌ نحكمه، ولا أرض نملكها. وليكن تحركنا على محورين. أولهما، الإبقاء على التفوق العسكري. ثانيهما، البحث عن حزب آخر نجد فيه ملكًا نتوّجه.رقعة شطرنج مساحتها 530 ألف كيلومتر. الجيوش التي على ظهرها لا أبيض فيها ولا أسود. كل الجيوش سوداء. واسم المهزوم ثابت، مهما اختلف اسم المنتصر. اليمن السعيد هو الخاسر في كل الأحوال. والمنتصر إما «الحوثيون» أو «قوات الحكومة». هذان هما اللاعبان البرّيان في تلك المباراة الدموية. بالطبع، يجب ألا ننسى من تُحلق مقاتلاته فوق الرقعة. المُسيطر الأكبر على رقعة الشطرنج هو «قوات الحكومة». 75% من مساحة اليمن خاصعة لهم. الحوثيون متمركزون أو مَحصورون في الربع الأخير. اللعبة الدائرة هي كالتالي: قوات الحكومة تسعى للوصول إلى البحر الأحمر كي تُحكم سطيرتها على الرقعة بالكامل. وقوات الحوثي تُحاول الهرب من برودة البحر إلى دفء الحدود العمانية. ما يعني السيطرة على كامل الرقعة كذلك.


مناطق مُحررة، لكنّها مُحتلة

محافظات اليمن

أكبر المناطق الموالية للحكومة هي محافظة «المهرة». المحافظة لم تجد الإمارات ولا قوات التحالف فيها موضع قدم. لفظت تلك المحافظة قوات التحالف منذ اليوم الأول. وأعلنت تمسكها بشرعية «هادي». ولم تلمس فيها قوات التحالف نفس النزق الانفصاليّ الحراكي الموجود عند باقي المحافظات.

الصراع المحصور بين طرفين يجعل الأمور بسيطة. هذه المنطقة إما خاضعة للأول، أو للثاني، أو لا يزال الصراع دائرًا فيها. لكن الإمارات جعلت الوضع في مناطق الجنوب، عدن ولحج، غير مستقر. ليس خاضعًا لسيطرة الحوثيين، ويبدو أنّه ليس خاضعًا لسيطرة الجيش الوطني كذلك.قوات «الحزام الأمني» شكلتها الإمارات في مارس/آذار 2016. جمعت فيها 12 ألف شخص. جميعهم من الذين سَرحهم «صالح» من الخدمة أثناء فترة حكمه. دعمتها، درّبتها، أوكلت إليها الملف الأمني في تلك المناطق «المُحررة». بعد ذلك، تقوم القوات بحملة ترحيل لمواطني المحافظات الشمالية. الحُجة، عدم امتلاكهم أوراق إثبات شخصية.الغموض المُحيط بتلك القوة يتلاشى. ترفض أمرًا رئاسيًا مباشرًا بتسليم مطار عدن. بعد أيام، تخوض قتالًا ضد نجل الرئيس «ناصر منصور هادي». ينسحب نجل الرئيس بأمر من أبيه. ويبقى المطار تحت سيطرة قوات «الحزام الأمني» الإماراتية.

النخبة الحضرمية والنخبة الشبوانية

ويبدو أن المزاج الإماراتي رائق إلى حد تجاهل مناطق الصراع، وخلق مناطق جديدة للصراع. حضرموت، لا وجود فيها لقوات الحوثي. تقع بالكامل تحت سيطرة قوات الحكومة. لكن الواقع وتقارير الأمم المُتحدة يقولان العكس. حضرموت تقع تحت عصا «النخبة الحضرمية». جيش موالٍ للإمارات، أنشأته من أبناء حضرموت فقط. استعانت به لطرد القاعدة من «مكلأ» عاصمة حضرموت. واحتفظت به حاميًا للديار الحضرمية. وحائط صد أمام تقلبات الحوثيين، و«هادي» على حد سواء.لم تكتف بـ«النخبة الحضرمية»؛ فأضافت إليها «النخبة الشبوانية». 3000 مقاتل من أبناء شبوة. درّبتهم القوات الإماراتية في مكلأ. واستعانت بهم لتحكم سيطرتها على ما بين حضرموت وشبوة. طردت بهم القاعدة من منشآت حيوية في المحافظة. وسيطرت بهم على محطات النفط كذلك. ويدور الحديث حول استخدام الإمارات لهم في نقل مواطنين إلى أماكن أخرى بواسطة مروحيات إماراتية. كذلك جزيرة «سقطرى». 5000 مقاتل تُشرف الإمارات عليهم فيها. و أنشأت فيها مدارس تابعة لها. أحوال تلك المدارس الفاخرة لا تتناسب أبدًا مع بلد يعصف به الكوليرا. ثم سيطرت على جزيرة «ميون» القريبة من باب المندب. مُؤخرًا قام الإماراتيون بمنع مُحافظ تعز من دخول ميناء «مخا». و لم تبد قوات التحالف حزمًا حقيقيًا في إخلاء «تعز» من الحوثيين. جاء التفسير الأولي أن الإمارات تخشى من سيطرة حزب «الإصلاح» عليها. الحزب محسوب على الإخوان المسلمين. وأنّها تحاول دعم فصائل سلفية تكره حزب الإصلاح. لكن تبدلت الأمور الآن. جلس «ابن زايد» وقائد حزب الإصلاح «محمد اليدومي» حول «ابن سلمان» في غرفة واحدة.ربما تكون رغبة الإمارات في منع حزب «الإصلاح» من السيطرة على تعز صحيحة. لكن ألا تبدو الإمارات ذات فكر أعمق من هذا. المُتتبع لهذه المنطقة تحديدًا، يجد أن الحوثيين كانوا موجودين في مُعسكر «العمري». هذا المعسكر تم تحريره في بدايات عام 2016 تحت قيادة السعوديّ «عبدالله السهيان». لكن تعرض الرجل لعملية اغتيال غير واضحة المعالم. ربما لأن الرجل خطط لفرض السيطرة السعودية على باب المندب. أوقفت عملية الاغتيال تقدم قوات التحالف. ثم بعد عام جاءت الإمارات لتقود التحرك. ولتحاول فصل تلك المنطقة اجتماعيًا وعسكريًا عن غيرها.

تمركزات الحوثيين

الحوثيون يسيطرون على «البيضاء». بها العديد من المراكز العسكرية الموالية لـ «صالح». فُتحت لهم تلك المراكز في سنوات الود مع صالح. ثم يمتدون قليلًا نحو محافظة «شبوة». أهمية المحافظة بالنسبة للحوثيين أنّها منفذهم على البحر. من البحر تأتي مشتقات النفط، وآليات القتال. يعبرون شبوة إلى البيضاء ومنها إلى باقى مناطق سيطرة الحوثيين بشعاع مفتوحٍ يتجول فيه الحوثيون بحرية.خط الإمداد هذا يُعتبر شريان الحياة للحوثيين. وشريان الحياة لقوات التحالف كذلك. كيف لا تتدخل قوات التحالف بشكل مباشر لقطع هذا الخط عن الحوثيين؟ لكن ربما لأن الإبقاء على الحوثيين في هذه المنطقة، يحمل عن قوات التحالف عبء مواجهة بقايا التنظيمات العسكرية الأخرى الموجودة في شبوة.من شريان الحياة هذا يسبح الحوثيون إلى باقي مناطق نفوذهم. صعدة، عمران، حجة، وصنعاء. حين انقلب الحاوي على ثعابينه. صارت القوات الموالية لصالح هي التي تُقاتل الحوثيين. قُتل الحاوي، قٌطعت رؤوس ثعابينه. صارت صنعاء في قبضة الحوثي. وسيطروا على معسكري «السواد» في حي «حزيز»، و«السبعين». كذلك سيطروا على المواقع العسكرية في جبل عطان، والأحياء الجنوبية للمدينة. وانتشروا قريبًا من مطار صنعاء. واستولوا على جميع مقار حزب «المؤتمر الشعبي العام» الموالي لصالح. وصاروا مُحيطين بوزارة الدفاع، المؤسسة العامة للإذاعة والتلفزيون، ووزارة الداخلية. بعد اغتيال صالح، وجهت قوات التحالف نداءات للمدنيين بعدم الوجود قرب صنعاء، استعدادًا لشن هجمات جوية مُكثفة عليها. إلا أنه حتى هذه اللحظة لم يحدث تغيير يُذكر. بجانب صنعاء يُمكن اعتبار الحوثيين مسيطرين على إب، ذمار، ريمة، المحويت، والحديدة.

المحور الثاني: الإخوان المسلمون

محافظات اليمن، اليمن
حزب «التجمع اليمني للإصلاح» محسوبٌ على الإخوان المسلمين.
تم تهميشه تمامًا منذ بدأت عاصفة الحزم عام 2015. ثم من العدم ظهر ولي العهد السعودي «مُحمد بن سلمان»، وولي عهد أبو ظبي «مُحمد بن زايد»، وقائد حزب الإصلاح «مُحمد اليدومي» في حوار تظهر عليه علامات الود. «ابن سلمان» التقى «اليدومي» سابقًا في نوفمبر/تشرين الثاني. فوجودهما ليس المُلفت، بل وجود «ابن زايد» معهما هذه المرة هو المُثير بشدة.الحزب المُؤسس بعد الوحدة في سبتمبر/أيلول 1990 كان أشد الأحزاب معارضةً لحكومة اليمن، وللتحالف العربي أيضًا. ودفع ثمن ذلك. اعتقلت قوات موالية للإمارات أعضاءه. اقُتحمت مقاره. اُغتيل خطباؤه. واليوم يشيد «اليدومي» بدور التحالف العربي في حفظ وحدة اليمن. ويشكر للإمارات والسعودية حرصهما على أمن واستقرار اليمن. ونوّه الرجل بالعلاقة الأخوية التي تجمعه وباقي اليمنيين مع دول الخليج.هذا اللقاء المُفاجئ ربما يكون أداة التحالف الجديدة لإيجاد «ملك». يكون له من السلطة اسمُها. ويكون لهم من السلطة حقيقتها. خاصةً أن مقتل صالح، وتوطُّد دعائم الحوثيين، أفرز حالةً من انسداد الأفق السياسي في اليمن. هذه الحالة كانت شديدة السوء إلى حد دفع السعودية والإمارات إلى التحالف مع حزب يُعتبر امتدادًا لجماعة وصمها كلاهما بـ «الإرهابية». لكن لم يفت وزير الإمارات للشئون الخارجية «أنور قرقاش» هذا التناقض. فأوضح الرجل في تغريدته أن حزب الإصلاح قد فك ارتباطه بالإخوان. وأن الإمارات إنّما تمنحه فرصةً لإظهار حسن نيته.

لكن الواقع يقول إن الحزب يمتلك قاعدةً شعبيةً كبيرةً. فقد حصل، وفق آخر إحصاء مُوثق، على أكثر من 1.5 مليون صوت في انتخابات 2003. تلك القاعدة قد تكون هي عامل الحسم في الميدان، إن حملت السلاح بغطاءٍ من قوات التحالف. وفي الوقت الراهن، فإن الحزب هو صاحب أكبر قاعدة شعبية ضمن صفوف المقاومة الشعبية والجيش الوطني. ولعل هذا هو السبب الرئيس الذي دفع الإمارات إلى هذا التحالف السريع والغريب. كما سيشكل حزب الإصلاح، عبر قاعدته الكبيرة، عاملًا مهمًا في الحشد الشعبيّ السياسيّ لمواجهة «المشروع الإيراني» كما يسميه التحالف العربي.

وربما تريد دول التحالف حزب الإصلاح من أجل غيره. فإذا انضوى حزب بهذا الحجم تحت لواء التحالف والشرعية، فلم يعد أمام حزب «المؤتمر الشعبي العام» إلا الاستسلام هو الآخر. خاصةً، بعد مقتل صالح، وهروبًا من مصير قاتم يلقاه أنصاره وكوادره في صنعاء وأي مدينة تنالها يد الحوثيين. حتى «المجلس الانتقالي الجنوبي»، الداعي لانفصال الجنوب والعودة إلى ما قبل 1990،أظهر خطابًا تصالحيًا مع حزب الإصلاح. بهذا تتعالى كامل القوى اليمنيّة على خلافاتها. وتُجمد صراعها الداخلي مؤقتًا من أجل قتال الحوثيين.

التكتل الجديد مع حزب الإصلاح يترك الحوثي عريانًا. فلم يعد له أي غطاء شعبيّ يستتر به. هو وحده في مواجهة شعب اليمن كاملًا. ما يُعطي مبررًا قوات التحالف لشن هجمات أقوى. وهو ما يخشاه «محمد علي الحوثي»، رئيس اللجنة الثورية العليا. إذ ذكر أن هذا التقارب يشير إلى تصعيد عسكري جديد. الأمر الذي ظهرت بوادره منذ أيام عبر هجوم عنيف يستهدف السيطرة على ميناء «الحديدة». منفذ الحوثيين المزعوم للحصول على الصواريخ الإيرانية.

ربما أيضًا يعكس هذا اللقاء تغيّرًا حقيقيًا في سياسة الإمارات والسعودية. وإن كان ذلك مستبعدًا، إلا أنّه ليس مستحيلًا.بعد أن انقلب «صالح» على الحوثيين الذين أوجدهم من قبل، لم يعد من المنطقي استبعاد أي سيناريو مهما يكن. لكن المُستبعد بشدة أن يكون هناك رغبة صادقة لصياغة مستقبل حقيقي لـ«يمن بلا قوات تحالف».