كان اختيار سريلانكا لتكون وجهة الهجوم الإرهابي الدموي في عيد الفصح، مفاجئًا وغير مألوف نظرًا لعدم وجودها على خريطة الإرهاب الدولي، وكونها لم تشهد عمومًا توترات بين المسلمين والمسيحيين. بل إن الحكومة تصدت بحزم بالغ للاضطرابات الطائفية التي استهدفت الأقلية المسلمة العام الماضي، فلم يعاني المسلمون من الاضطهاد الممنهج وبالعكس كانوا يتمتعون بحرية العبادة، وفق ما أكدت التقارير وشهادات من تحدث لنا منهم.

لكن بعد التفجيرات اشتعلت موجات العنف الطائفي ضد المسلمين مجددًا في أنحاء البلاد مما أدى لفرار أعداد كبيرة منهم بسبب هجمات الجماهير الغاضبة، فيما لم تكن الحكومة في أقوى حالاتها للتصدي لتلك الهجمات، التي لم تقتصر هذه المرة على البوذيين بل تصدرتها الجماعات المسيحية.

والجدير بالملاحظة هنا أن العنف الطائفي لم يشتعل عقب التفجيرات مباشرة بل بعد إعلان داعش مسئوليته عنها، فجاء العنف نتيجة متوقعة بعد هذا الإعلان المريب، الذي أثار علامة استفهام كبيرة عن الطرف المستفيد من إشعال بؤرة جديدة للعنف والتوتر في تلك المنطقة بالذات من العالم، قطعًا لن يكون مسلمو سريلانكا ولا مسيحيوها ولا حتى البوذيين هم الطرف المستفيد من ذلك.

ومن هنا كان لابد من تتبع طرف الخيط ما بين داعش وسريلانكا لكشف الرابط الحقيقي بين الاثنين، باستخدام الهندسة العكسية – إن صح التعبير- لتفكيك المشهد الملتبس في جنوب آسيا.

اقرأ أيضًا: سيرلانكا: الجيوبوليتيك ممزوجًا بالدم


ظهور داعش المفاجئ

مقاتلو داعش يقتادون مجموعة من الأسرى إلى أحد أماكن الإعدام

كعادته يظهر تنظيم داعش فجأة ويختفي فجأة وكأنه جاء لينفذ مهمة محددة يرحل بعد إتمامها، ففي البداية شكل الظهور المفاجئ في أواخر يونيو/ حزيران 2014 لـما سمي بـ«الدولة الإسلامية في العراق والشام» وصعودها وقوتها الساحقة لغزًا كبيرًا، ولم تكن طريقة اختفائها بأقل غرابة من ظهورها.

ففي الوقت الذي طال فيه أمد الأزمة السورية وبدأت التدخلات الخارجية في البلاد، ظهر داعش بخطابه المغرق في الغلو وارتكب مجازر مروعة بحق الجيش الحر وفصائل الثورة، وحوّل الاهتمام الدولي في سوريا إلى مسألة محاربة الإرهاب، ووفر مظلة لتدخل الولايات المتحدة عسكريًا وإقامة عدد كبير من القواعد قرب مناطق إنتاج النفط في البادية السورية، بذريعة مكافحة داعش.

وبمرور الوقت ظهرت شواهد عدة تشير لتوظيف السياسة الأميركية –بطريقة أو بأخرى- لداعش من أجل خدمة أهدافها، وهو ما أكدته تحليلات وتقارير – ليست غربية بالطبع- لاسيما بعد تسرب وثيقة من وكالة استخبارات الدفاع المعروفة اختصارًا باسم «DIA» والتي تضم 4 أجهزة مخابرات عسكرية تتخصص أساسًا في مجال التجسس البشري. تثبت هذه الوثيقة التي قيل إنها تسربت من مبنى القنصلية الأمريكية في مدينة بنغازي الليبية عام 2012 وأُفرج عنها بأمر قضائي، أن واشنطن كانت تأمل في تأسيس تنظيم على غرار داعش في شرق سوريا وغرب العراق، إذ تقول الوثيقة إنه «في حالة انهيار الموقف، هناك إمكانية لإقامة إمارة سلفية معلنة أو غير معلنة في شرق سوريا (الحسكة ودير الزور)».

لم يستطع مسئولو الاستخبارات الأمريكية نفي صحة الوثيقة، التي يرجع تاريخها إلى ما قبل ظهور تنظيم داعش بعامين، وفق ما نشره مركز «جلوبال» الأمريكى للأبحاث. وهو يتوافق مع ما أعلنه ضابط الاستخبارات الأميركي السابق إدوارد سنودن، واتهامات عضو مجلس الشيوخ الأمريكي لولاية كنتاكي، راندال هاوارد بول، حكومة بلاده، بتقديم دعم غير مباشر لداعش في سوريا.

من جهته أكد منير أديب، الخبير في شئون الحركات والتنظيمات الإرهابية، أنه من الواضح أن أجهزة استخبارات غربية تستغل تنظيم داعش لتحقيق أهدافها ومصالحها، مبينًا وجود شواهد عديدة على هذا الأمر بداية من ظروف نشأته وحتى طريقة اختفاء دولته المزعومة. وتساءل أديب في حديثه لـ«إضاءات» قائلًا: «أين ذهب 50 ألف داعشي كانوا في سوريا تم نقلهم بباصات أمريكية ولم يعثر لهم على أثر ولا رأينا جثثًا لهم، ومن قبل كيف تحرك أبوبكر البغدادي بموكب مهيب من مدينة الرقة السورية إلى الموصل في العراق ليلقي خطبته الشهيرة دون أن يعترض طريقه أحد؟».

وتحدثت تقارير عديدة تفصيليًا عن اختراق الأجهزة الأمنية الإسرائيلية للتنظيم التكفيري المتطرف، الذي – للمفارقة- يحمل أحد فروعه اسم «جماعة أنصار بيت المقدس»، والذي ناصب حركات المقاومة الفلسطينية العداء، و قدم اعتذارًا لتل أبيب عندما عبرت قذيفة بالخطأ إلى الأراضي المحتلة في الجولان.

ولا يتسع المقام لمناقشة شواهد عديدة أكثر من أن تحصى على تماهي المصالح الأمريكية مع التأثيرات التي يحدثها داعش على الأرض في أي مكان يحط فيه، مما يعزز من فرضية استخدامه ذريعة لتوفير الأرضية لتدخل القوات الأمريكية في مناطق النزاع عبر الإعلان عن استعدادها لتقديم المساعدة الأمنية لمواجهة هذا الخطر الإرهابي.


إلى سيرلانكا مجددًا

نعود إلى سيرلانكا التي كانت محط أنظار المحللين الغربيين طيلة الفترة الماضية، بعدما أعطت حصة هائلة في مشروع ميناء هامبانتوتا إلى الصين بعد عجزها عن سداد ديونها المستحقة لبكين، وأصبحت شريكًا رئيسيًا في مبادرة «الحزام والطريق»، مما يؤمّن للصين موطئ قدم في هذه المنطقة الحيوية المهمة.

تعد سريلانكا إحدى جبهات المنافسة الاستراتيجية بين بكين وواشنطن، إذ اضطرت الأخيرة لرفع حظر التعاون العسكري مع كولومبو، وأعلنت، مؤخرًا، أنها ستمنحها تمويلًا عسكريًا بقيمة 39 مليون دولار لتعزيز أمنها البحري، في محاولة لاحتوائها ومنافسة النفوذ الصيني المتصاعد بقوة.

قد يرد التساؤل هنا عن سر الأهمية الاستراتيجية لجزيرة تقع في المحيط الهندي، على بعد آلاف الأميال من كل من الولايات المتحدة والصين، والإجابة تكمن في النظريات الجيوبوليتيكية التي تعتمدها كل من القوتين العظميين، والتي تشكل الخطوط العريضة في سياساتهما الخارجية اللتين تتبعانها مع دول العالم. فوفقًا لإيمانويل ولارشتاين، فإنه لا يمكن فهم التحولات في مجتمع ما بمعزل عن «النظام العالمي» باعتباره الإطار الأوسع الذي تحدث فيه هذه التحولات.

تقع سيرلانكا في جنوب آسيا ضمن ما يُعرف جيوبوليتيكيًا بـ«منطقة الحافة»، وهي منطقة الاصطدام بين القوى العظمى، وتضم أكثر أماكن ينشط فيها تنظيم داعش على وجه الأرض – على سبيل المصادفة البحتة.

تنص نظرية المفكر الأمريكي، نيكولاس سبيكمان بشكل دقيق على أن الخطر الحقيقي على مصالح الولايات المتحدة هو نجاح إحدى القوى في السيطرة على منطقة الحافة (جنوب وشرق آسيا وشرق العالم العربي ومعظم أوروبا). ويتلخص القانون الجيوبوليتيكي لسبيكمان الملقب بأبي علم الاحتواء في عبارتين:

  • من يسيطر على منطقة الحافة يسيطر على أوراسيا (أوروبا وآسيا).
  • من يسيطر على أوراسيا يسيطر على العالم.

ويعد قانون سبيكمان من أهم النظريات التي شكلت السياسة الخارجية للولايات المتحدة والتي ساعدتها في بسط هيمنتها على العالم. وقد استُخدِمت هذه النظرية في احتواء الاتحاد السوفيتي، خلال فترة الحرب الباردة، ووفقًا لها يمكن تفسير الغزو الأمريكي لفيتنام وكوريا وأفغانستان. وتكافح الولايات المتحدة للحفاظ على نظامها العالمي أحادي القطب، الآخذ في التراجع، عبر منع أي قوة كبرى من السيطرة على منطقة الحافة، وتحاول إفشال استراتيجية الصين لتحقيق هذا الهدف.


تفجير عقد اللآلئ

في المقابل تتبع الصين سياسة صارمة لتوسيع نفوذها في جنوب آسيا، فيما يُعرف غربيًا بنظرية «عقد اللآلئ»، والتي تعني السيطرة على موانئ دول المنطقة المطلة على المحيط الهندي، ضمن مبادرة الحزام والطريق الاقتصادية العالمية. لكن عددًا من تلك الدول شهدت منذ إطلاق الصين مبادرتها العالمية عام 2013، تفجر أعمال عنف بشكل متزامن وكأن يدًا خفية تتعمد إشعال الحرائق أينما حط الصينيون رحالهم، بشكل متكرر يصعب تصور حدوثه بطريق الصدفة.

فبجانب سيرلانكا، وضعت الصين يدها على عدد من الموانئ الهامة كميناء جوادر في إقليم بلوشستان باكستان، والذي يعد جزءًا من خطة «الممر الاقتصادي» بتكلفة نحو 60 مليار دولار. وتصادف بدء الصينيين العمل في ميناء جوادر مع تصاعد العنف في بلوشستان بشكل غير مسبوق وزادت وتيرة الهجمات التي تشنها الحركات المطالبة باستقلال الإقليم، لاسيما بعدما تحدثت تقارير غربية عن تدشين قاعدة عسكرية صينية غرب الميناء في خليج جيواني.

وبالطبع كانت حركة داعش حاضرةً منذ البداية، لكن اللافت هنا أيضًا أن الحركات البلوشية المسلحة التي كانت تعتنق الفكر الاشتراكي بدأت تتبع أساليب هجومية عنيفة، كانت مقتصرة على التنظيمات الجهادية كالهجمات الانتحارية، بشكل اعتبره أهالي الإقليم «لم يكن ليخطر في البال ولا يمكن تصوره». وجرى اعتبار التنين الأصفر كأبرز الأعداء، في العقيدة القتالية لتلك التنظيمات البلوشية، التي اقتحمت القنصلية الصينية في كراتشي في نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، وشنت هجمات عديدة استهدفت أماكن إقامة من اعتبرتهم «المحتلين الجدد».

وفي أفغانستان في الجوار تقاتل حركة طالبان ضد الولايات المتحدة منذ عام 2001، وترفض طلباتها المتكررة للتفاوض، في الوقت الذي تربطها علاقات جيدة ببكين، التي تشاركها في رفض وجود القوات الأمريكية إلى جوارها. لكن ظهور داعش في أفغانستان قلب الطاولة على طالبان، نجحت داعش في شق صفوف طالبان وأفتت بردتها عن الإسلام، واستطاعت في فترة قليلة انتزاع معاقل مهمة فشلت الولايات المتحدة منذ 2001 في بسط سيطرتها عليها.

إذ يعتمد داعش سياسة الضم القسري لأفراد الجماعات الجهادية تحت ذريعة فقهية منتحلة تقول بأنه يُمثل دولة الخلافة وبالتالي لا يجوز وجود الجماعات خارج إطار الخلافة المزعومة. ووجدت طالبان نفسها مضطرة للتفاوض مع الأمريكيين بعد سنوات طويلة من الممانعة، بعدما أصبحت مهددة في معاقلها بسبب الزحف الداعشي.

وكشف محافظ ولاية «بكتيكا» وجود تعاون بين الحكومة الأفغانية الموالية لواشنطن وتنظيم داعش لمحاربة طالبان، وهو التصريح الذي تسبب في إقالته.

أما في الفلبين، ففي عام 2016، توجهت البلاد شرقًا وعقدت صفقات كبيرة مع بكين، وأمر الرئيس رودريغو دوتيرتي بوقف المناورات العسكرية مع القوات الأمريكية تفاديًا لإغضاب الصين. لكن في العام التالي، ظهر إرهابيو داعش فجأة، واجتاحوا المدينة الإسلامية الوحيدة في البلاد، «ماراوي»، وأعلنوها ولاية تابعة لهم، مما استدعى تدخل الجيش الأمريكي في القتال.

كانت النتيجة تدمير ماراوي وتشريد مئات الآلاف من الأقلية المسلمة، وتعزيز التعاون الأمني والعسكري مع واشنطن التي أثبتت جدارةً في أداء دور رجل الإطفاء ببراعة، واستمرت المناورات التي نُظمت إحداها منذ أيام قليلة. وهناك أمثلة أخرى مشابهة لما سبق كاستهداف الدواعش لبنغلاديش بعد وصول بكين لميناء «شيتاجونج»، أكبر مرافئها، ووصول داعش لإندونيسيا بعد توسع الاستثمارات الصينية بها بشكل كبير.

بالإضافة إلى تفجير الوضع في ميانمار (بورما) عبر ظهور ميليشيا جيش أراكان البوذية في الولاية التي تحمل الاسم نفسه وتضم مشروع ميناء «كيوك فيو» الصيني المتنفس الجيوبوليتيكي لبكين على المحيط الهندي، وتغيير العقيدة القتالية للميليشيا منذ عام 2014 ليصبح هدفها الاستقلال بالولاية، بعد حصولها على تمويلات طائلة وأسلحة حديثة من مصادر غير معروفة على وجه التحديد.

ناهيك عن اشتعال المذابح في أراكان أيضًا بعد هجمات غامضة في أغسطس/ آب 2017، ليتم قتل واغتصاب الآلاف من أبناء الأقلية المسلمة في ولاية أراكان وتهجير قرابة المليون منهم، على أيدي جيش ميانمار والرهبان المتعصبين.

وبما أن ميانمار ليست دولة طرفًا في نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، فإن الانتهاكات الجسيمة التي تحدث داخل حدودها لا تقع عادة ضمن الولاية القضائية الإقليمية للمحكمة، مما يحظر قبول سلطات ميانمار الولاية القضائية للمحكمة الدولية، أو الإحالة إلى مجلس الأمن، لكن حدوث التهجير الجماعي للمسلمين إلى بنغلاديش (وهي طرف في المحكمة الجنائية الدولية)،أعطى المحكمة ولاية قضائية على جريمة التهجير كجريمة ضد الإنسانية، باعتبارها جزءًا من جريمة اكتمل ارتكابها على أراضي بنغلاديش.

وفي النهاية ليس من الضروري أن يوفر التدخل الدولي – حال وجوده- أي حماية للأقليات المضطهدة، حرصًا على استمرار المأساة التي تعطي الذريعة لاستمرار هذا التدخل، على غرار ما حدث في مجزرة سربرينيتشا عام 1995 التي قُتل فيها قرابة 8 آلاف مسلم بوسني على مرأى ومسمع قوات الأمم المتحدة التي انحصر دورها في نزع سلاح البوسنيين المسلمين بذريعة حفظ السلام!

وبعدها أدانت الأمم المتحدة المجزرة، ونفذ حلف الناتو حملة قصفًا جويًا مكثفًا ضد الصرب ونشر قوات حفظ السلام بتكليف من الأمم المتحدة، في منطقة كانت حتى وقت قريب معقلًا للمعسكر الشرقي، ضمن استراتيجية غربية تمخضت عن تفكيك يوغوسلافيا إلى سبع دول، وامتداد النفوذ الأمريكي إلى أعماق المنطقة، بفضل دماء الضحايا البوسنيين.


كلمة حق ولكن!

داعش, العراق, مذابح داعش, أسرى داعش
داعش, العراق, مذابح داعش, أسرى داعش

تجدر الإشارة هنا إلى أن الاضطهاد الذي يعانيه مسلمو ميانمار (بورما) على أيدي المتشددين البوذيين يفوق الوصف، وهو ليس جديدًا، بل الجديد هو الاهتمام الغربي، فمنذ عشرات السنين والعنف يتجدد كل فترة ضدهم، تمامًا مثل أوضاع المسلمين الإيجور في الصين الذين يعانون من أقسى أنواع التعذيب والاضطهاد، والذين لا يحظون باهتمام الغرب إلا في فترات توتر علاقات واشنطن مع بكين.

وليس المقصود هنا هو انتقاد تفاعل الغرب أحيانًا مع قضايا اضطهاد الأقليات المسلمة أيًا ما كان هدفه، بل تسليط الضوء على الدور الغربي المفترض في تعميق جراح هذه الأقليات، ودعم حركات إرهابية لهذا الغرض، بما يشبه عملية إلقاء عود ثقاب على برميل بارود، ليقوم الغرب بدور رجل الإطفاء ويعيد تشكيل المشهد وفق مصالحه.

ففي علم الجيوبوليتيك المبررات هي سند الهيمنة، أي أن القوى الكبرى ترفع شعارات من نوعية «نشر الحرية»، و«الحرب على الإرهاب»، و«التدخل لأسباب إنسانية»، وغيرها من كلمات الحق، في حين لا يكون تدخل هذه القوى في أي أزمة إلا لمصالحها وفقط!