الحديث عن الثورة التونسيّة اليوم يشهد تغيرًا كبيرًا مع مرور الأشهر والسنوات. سُمّيت بثورة الياسمين، غير أن الياسمين أو بياضَه كانا غائبيْن.بتاريخ 17 ديسمبر 2010، شابّ تونسيّ له شبه مورد رزق، محبطٌ ناقمٌ على وضعه يدعى (بوعزيزي) أقدم، كردة فعلٍ على شجار مع عون وظيفة عموميّة، على اتخاذ القرار المصيري الذي غيّر مسار تونس، إن لم نعتبره مسار بقيّة الدول العربيّة وبعض البلدان الأخرى التي اتخذت موقف المساندة؛ شابّ قرّر حرق نفسه، ومن هذا القرار وُلدت الثورة، أو الانتفاضة التونسيّة، أو تونس جديدة.


منذ الاستقلال، لم تعش تونس قرارات مصيريّة وجذريّة

لم يشهد تراب تونس مثل تلك اللُّحمة والمساندة والمحبّة التي كان يشعر بها كل مواطنٍ تونسيّ تجاه الآخر و تجاه وطنه؛ إذ أنّ الإحساس بالانتماء كان منعدمًا. نادت تونس بصوتٍ واحد بالتغيير والمساواة والحقّ في العيش، نادت بصوتٍ واحدٍ لحماية حقوق جميع التونسيّين على حدّ سواء، نادت بصوتٍ واحدٍ بعد محاولات ترهيبٍ لتغيير الحكومة أو بالأحرى نادت تونس بصوتٍ واحدٍ عالٍ لم تعتريه ذرّة تراجع أو تردّد بإسقاط آل بن علي والطرابلسية وما يتبعهم من خليّات فساد.وبتاريخ 14 يناير 2011، تخلّى الرئيس السابق بن علي عن منصبه وغادر الأراضي التونسيّة دون رجعةٍ أو تحمّل المسؤولية. الفرحة التي اعترتنا كتونسيين في ذلك اليوم كانت في أعلى درجاتها، لقد آمنّا بأنّ اللّحمة والنداء بصوتٍ واحدٍ هم نجاتنا.مرّ الشعب التونسيّ بالعديد من الضغوطات والتهديدات التي ما لبثت أن جعلت منه أقوى وأكثر اتحادًا نحو المطالبة بتمثيلٍ سياسيّ له. تمت الاستجابة لهذا المطلب وتم تكوين المجلس الوطني التأسيسيّ، ومن هنا بدأت تجربة التغيير الفعلي في تونس.بالنسبة للجيش التونسي، وهو ما يتضارب كليًّا مع الجيش في مصر، فهو قد كان مغيّبًا لمدة سنوات ما قبل الثورة، فكأنه يحتلّ منصبًا عاجيًّا يراقب منه عن بعد ما تعيشه البلاد، وإن تدخّل الجيش يومًا برأيٍ أو موقفٍ فالكل يعيره اهتمامًا ويتعامل مع تدخّله بجدّية وأغلب الوقت بموافقة. بعد الثورة تغير موقف الجيش وقرّر الظهور، ومنذ البداية انحاز للشعب وكالعادة كان الشعب منحازًا له ورافضًا، إن لم نقل مقاطعًا، للشرطة ولجهاز الداخلية ككل.يبقى الوضع بعد الثورة مباشرة والوضع الحالي مختلفيْن، التوقعات والأحلام المنتظرة من ثورةٍ بعد سنواتٍ من القمع والتحكم، منذ زمن بن علي وبورقيبة حتى والاستعمار قبلهما، مازالت على قائمة الانتظار كي لا نتشاءم ونعتبر أن الثورة قد فشلت.تم تحقيق المطلب الأساسي وهو الحرية، فقد أصبحنا أحرارًا، لك حرية التعبير والمطالبة والحديث عن السياسة والساسة والمشاكل الاجتماعية والحكام بأسمائهم في أي مكانٍ كان؛ لكن في ما لا يتجاوز بعض الحدود؛ فحرية التعبير في تونس تعتبر تهمةً وذلك في ما يخالف القانون والدستور، السجون والإيقاف شاهدان على هذه الحرية المحدودة بمعنى أن تونس من مناصري (أحرار لكن بحدود).الواقع التونسيّ، بعد الثورة والحرية المباحة، أصبح أكثر شفافيةً، بمعنى أن الفساد على الصعيد الاقتصاديّ والماليّ والاجتماعيّ والأمنيّ لم يتغير أو على الأقل لم يشهد تحسنًا، غير أن المؤكد منه أنه أصبح مسموحًا لك الحديث عنه، فكل المشاكل تقريبا تصل للمواطن. سابقًا كانت الحياة في تونس وردية وذلك ما يتحسّر عليه بعض التونسيين اليوم، فهم يظنّون حقًّا بكماليّة الحياة سابقًا، غير أن بن علي كرئيسٍ حينئذ كان متّبعًا لسياسة إخفاء العيوب وإظهار الإنجازات، ومبتغاه قد تحقق متأخّرًا، فهم يرون أن العيوب كانت منعدمة والظلم الذي يتذمر منه الكثير ليس إلا عقابًا لمخالف القانون والقواعد والعرف.بالعودة لإنجازات ما بعد الثورة، فالأعداد والتاريخ هم الشواهد. تمّ اغتيال قائديْن سياسييْن بأبشع الطرق والبحث مازال جاريًا؛ فالمتهم قد اختفى والمتوقع أن يبقى مختفيًا، كما هو حال قضية سعد الحريري التي لن يتم البتّ فيها أبدًا، مع ترك احتمالية التفاؤل والمعجزات.تمّ قتل العديد من الجنود ورجال الشرطة، تمّ قتل العديد من المواطنين، تمّ ترهيب العديد من العائلات المترصدة، إنجازات الثورة اليوم هي تعيين حكومةٍ قائمةٍ على معايير حزبيّة فاشلةٍ وشخصيّة تافهة.ومن إنجازات الثورة حق الشعب في انتخاباتٍ حرةٍ نزيهة شفافة، وكذلك انتخاب رئيس جمهورية يبلغ من العمر تسعين عامًا، بغض النظر عن قيادته لحزب بورقيبي، فكل الشرائع الاجتماعية والعلمية تتضارب مع مثل هذا الاختيار، والواقع شاهدٌ على ذلك.فلا ترى تدخّلاً رئاسيًّا إلا لإلقاء خطابٍ لا يخلو من التفاهة أو بالأحرى لا يخلو من تقزيمٍ للسامع، فحتى تقنيات إلقاء الخطابات السياسية من طرف رئيس جمهوريةٍ منعدمة، والاستماع لخطاب رئيس جمهورية تونس لا يبتعد كثيرًا عن حديث مسنّيْن يزعمان انتماءهما للنّخبة المثقفة العارفة.ولإعطاء كل ذي حقّ حقه، فرئيس جمهورية تونس له حسٌّ عالٍ من الإنسانية والأُخوة، فتونس على رأس قائمة الدول في إرسال برقيات التهنئة والعزاء والزيارات المساندة. أما في ما يخص مساندة عائلات الشهداء وضحايا تونس، مناقشة الحضور تستوجب اجتماعاتٍ لمدة يومين على الأقل، مع العلم أن تسمياتِ: شهيدٍ أو ضحيةٍ أو قتيلٍ حتى قد حازت اهتمامًا كبيرًا من مناقشات رجال السياسة في الإعلام والصحافة وحتى المواطن التونسي، وهذه من نتائج الثورة التونسية مع الحفاظ على مجالٍ للتفاؤل والمعجزات.ولكن من السّمات التي يتحلّى بها الشعب التونسي اليوم رغم هذه العراقيل، أمله في غدٍ أفضل يتحقق مع شبابٍ مؤمنٍ ومُصرّ على التغيير وامتلاك أرضه والحفاظ عليها.لكن هل للأمل حيّزٌ في عقولٍ خائفةٍ وعيونٍ دامعة؟