بالقرون الوسطى؛ وهي تلك القرون الممتدة من القرن الخامس الميلادي حتى القرن الخامس عشر الميلادي، دأب جغرافيو أوروبا على كتابة تلك العبارة بنهاية خرائطهم «بعد تلك الحدود توجد تنانين»، هل كنت تتوقع من قبل أن الجغرافيين الأوربيين يذيلون خرائطهم بتلك العبارة؟ بل هل أمكنك تخيل أن تلك القارة المتقدمة المتحضرة الآن؛ كانت تطفو فوق تاريخ من الخرافة قرابة العشرة قرون؟ بحين أن المسلمين؛ على نفس القارة، بشبه جزيرة أيبيريا، أو ما كانت تعرف قديمًا إسبانيا والبرتغال، كانوا يختبرون المحاولات الأولى للطيران بنجاح، بحين أن المسلمين على نفس القارة خرج من بين ظهرانيهم أول سوبر مان حقيقي عبر التاريخ.

بحين أن المسلمين كان بينهم عالم أمازيغي مسلم موسوعي جليل، استطاع عبر البحث العلمي لقرابة الثلاثة عشر عامًا، أن يطور تجربة الطيران على الإنسان، وأن يستطيع الطيران بنفسه لفترة زمنية تتجاوز العشر دقائق، وأن يعيش طويلاً بعد تلك التجربة برضوض أصابت جسده من تلك التجربة.

الحضارة الإسلامية؛ بحقيقتها، حضارة عرقية، من قبل أن تتبنى الولايات المتحدة الأمريكية بقرون مفهوم التنوع العرقي

كما أنه صاحب أول أوان و كئوس مصنوعة من الزجاج، عبر تعريض الرمال لدرجات حرارة شديدة وصهرها وتشكيلها، بعد أن كان السائد هو تناول الشراب والطعام بأوان خشبية أو معدنية، ثم صنع بعد ذلك النظارات، أو عدسات النظارات.

هل تعلم أن وكالة ناسا الأمريكية لأبحاث وعلوم الفضاء قد أطلقت اسمه على فوهة عظيمة فوق سطح القمر، لأنه صنع ذات الحلق، وهي سلسلة من الحلقات تمثل محاكاة لحركة الكواكب والنجوم، هل تعلم لماذا تعمدت أن أصفه بالعالم الأمازيغي المسلم الجليل؟ دعني أخبرك لماذا فعلت.

الحضارة الإسلامية؛ بحقيقتها، حضارة عرقية، من قبل أن تتبنى الولايات المتحدة بقرون مفهوم التنوع العرقي، الحضارة الإسلامية، حضارة قامت على مفهوم التعدد العرقي، بناء على مفاهيم دينية روحية إنسانية – ليس لعربي فضل على أعجمي – والأعجمي هو من ينطق بلسان غير عربي، أو ينتمي لعرق غير العرق العربي – وبناء على ذلك المفهوم الثري، رحبت الحضارة الإسلامية باندماج كل الجنسيات أو العرقيات، فهمت الحضارة الإسلامية، واستوعبت تمامًا قوة التنوع العرقي، حرصت عبر تاريخها، على اختلاف خلفائها، وتباين حواضر خلافتها واتساعها وامتدادها، على تبني ذلك المفهوم العالمي السابق لعصره.

لك أن تعرف على سبيل المثال لا الحصر أن وزير السلطان الناصر صلاح الدين الأيوبي كان ابن ميمون اليهودي – وهو ما زال على يهوديته – وأن المهندس الذي صمم وأشرف على بناء مسجد أحمد بن طولون كان مهندس مسيحي يدعى سعيد ابن كاتب الفرجاني، وأن الفاطميين كانوا يحتفلون بأعياد النيروز الزرادشتية، إلى جانب احتفالهم بأعياد المسيحيين واليهود، في مساحة من الحرية والتسامح والتفاهم وقبول الآخر سابقة لأوانها بقرون.

لتلك الحرية ولذلك التفهم والتفاهم والاستيعاب وقبول الآخر، تعمدت أن أصف العالم الجليل عباس بن فرناس بالأمازيغي، حتى نفهم ونعي وندرك، أن الحضارة الإسلامية استوعبت كل العرقيات، حتى نفهم ونعي وندرك أن الحضارة الإسلامية حضارة غير إقصائية على الإطلاق، وأن السبب الرئيس، أو أحد أهم الأسباب الرئيسة لبقائها واستمرارها قرابة الثلاثة عشر قرنًا – وهي أطول فترة زمنية امتدت بها حضارة عبر كل تاريخ الأرض – وأطول فترة زمنية تم بها السماح للنابهين أو النابغين أو المتفوقين بالحصول على منح دراسية كاملة، برعاية الدولة أو الخليفة شخصيًا.

يكفي أن نعرف أن بيت الحكمة كان عبارة عن مؤسسة علمية في بغداد، وهو إحدى المؤسسات التي حازت على لقب «أول جامعة في التاريخ» ولقد أنشئ بيت الحكمة في العصر العباسي، وازدهر في عهد الخليفة العباسي المأمون وأحدث وقتها نقلة نوعية في الترجمة تمهيدًا للعصر الذهبي للحضارة الإسلامية في بداية القرن التاسع الميلادي.

بيت الحكمة كان عبارة عن مؤسسة علمية في بغداد، وهو إحدى المؤسسات التي حازت على لقب «أول جامعة في التاريخ»

وكان بيت الحكمة يضم بيوتًا للطلاب والمعلمين وساحة جامعية بالإضافة إلى مطعم لتزويد رواده بالغذاء، ويتكون من طابقين، الطابق السفلي يضم قاعات خاصة بخزائن الكتب وأقسام الترجمة والنسخ والتأليف والتجليد والمطالعة والدراسة في كل مجال من مجالات المعرفة والعلوم والآداب.

أما قاعات الطابق العلوي فكانت خاصة بإقامة المؤلفين والمترجمين والدارسين والعاملين وغيرهم، وأغلبية العلماء الذين عملوا وترجموا في بيت الحكمة كانوا من المسيحيين الشرقيين والفرس، وكانوا جزءًا مهمًا من هذه المؤسسة البحثية والتعليمية، وهذا يدل على الانفتاح على معظم الحضارات في وقتها.

يكفي أن نعرف أيضًا أن البيمارستان الإسلامي؛ يعد أول مجمع خدمات طبية متكاملة بالتاريخ الإنساني، وبيمارستان كلمة فارسية، تعني محل المريض أو مستشفى أو دارًا للعلاج و الاستشفاء، وكان يتم به علاج المرضى في زمن الخلافة الإسلامية، وتدريس الطب بنفس الوقت، وكانت البيمارستانات مستشفيات عامة تعالج فيها الأمراض الباطنية والرمدية والعقلية وتمارس فيها العمليات الجراحية، ويتم العلاج فيها عن طريق طاقم طبي متخصص‫.

وكان الأطباء المسلمون هم أول من فرق بين المستشفى العام ودور العجزة والمصحات التي يعزل فيها المجانين وأصحاب الأمراض الخطيرة مثل الجذام‫، ويعتبر البيمارستان هو الأساس الحقيقي للمستشفيات المعاصرة‫، ويرجع الفضل في تأسيس المصحات النفسية والمستشفيات العامة والمدارس والجامعات الطبية للأطباء المسلمين في العصور الوسطى‫.

ويعتبر البيمارستان الأموي؛ الذي بناه الوليد بن عبد الملك، الخليفة الأموي بدمشق، أول بيمارستان في تاريخ الخلافة الإسلامية، وكان العلاج فيه بالمجان، وكان يتقاضى به المرضى بدل معاش، أو ما يمكن اعتباره بدل تفرغ، أو بدل إصابة عمل، لأنهم مرضى وليس بإمكانهم القدرة على العمل، والأطباء فيه مرتباتهم كانت مرتفعة، لأن مهنة الطب كانت مهنة محترمة ومقدسة، ومن المهم جدًا أن يحصل الطبيب على راتب أو معاش محترم، يضمن له حياة كريمة، وقدرة على التفرغ للبحث العلمي؛ كل ذلك من أكثر من 1300 عام.

كما أنشأ أحمد بن طولون؛ مؤسس الدولة الطولونية في مصر بيمارستان – مستشفى – لمعالجة المرضى مجانًا دون تمييز بين الطبقات والأديان، وجعل العلاج فيه دون مقابل، وألحق به صيدلية لصرف الأدوية، فإذا دخل المريض المستشفى تنزع عنه ثيابه وتقدَّم له ثيابٌ نظيفة، ويودع ما معه من المال عند أمين المارستان، ويظل المريض تحت العلاج حتى يتم شفاؤه.

وكان ابن طولون يتفقد المستشفى، ويتابع علاج الأطباء، ويتأكد من شفاء المرضى، وكان يتم تغيير فراش الأسرّة كل يوم، وتغيير ملابس المريض بملابس نظيفة كل يوم، ويتم علاجه بالأدوية مجانا، ويتم تقديم وجبات ساخنة صحية للمريض مجانًا، وكان المستشفى يضم مكتبة طبية تحتوي على 100 ألف مجلد في سائر العلوم؛ وعيادات خارجية أيضًا.

وهناك أيضًا البيمارستان المنصوري؛ أو مستشفى السلطان قلاوون في مصر، كل مريض فيه كان يقوم على خدمته شخصان، كما أن المرضى المصابين بالأرق كانوا ينقلون إلى قاعات منفصلة حيث يستمعون إلى عزف جيد الإيقاع، أو يتولى رواة متمرنون تسليتهم بالحكايات، وفور أن يسترد المريض صحته يتم عزله عن بقية المرضى، ويمنح عند مغادرته للبيمارستان خمس قطع ذهبية لمساعدته على استرداد عافيته والعودة لعمله.

وكانت في البيمارستان المنصوري أقسام للرمد والجراحة والأمراض الباطنية، كما كانت فيه قاعة للأمراض العقلية ملحق بها حجرات لعزل الحالات الخطرة، وكان ينقسم إلى جناحين أحدهما للنساء فيه كل ما في جناح الرجال، وكان فيه مدرسة للطب فيها صالة محاضرات زودت بمكتبة ضخمة.

حواضر تعني بلغة العصر الحديث، المدن العملاقة، وهو مفهوم آخر متطور استحدثته وتبنته وطورته الحضارة الإسلامية

وقد كان البيمارستان ينقسم إلى قسمين: أحدهما للذكور والآخر للإناث وكل قسم مقسم إلى عدة أقسام فهناك قسم للأمراض الباطنية وآخر للجراحة وقسم للكحالة (أمراض العيون) وقسم للتجبير، كما كان لكل مريض فرش كامل خاص به، وقال عنه محمود الحاج قاسم في كتابه «الطب عند العرب والمسلمين» أنه كان آية من آيات الدنيا في الدقَّة والنظام والنظافة، وكان من الضخامة بحيث إنه كان يُعَالِجُ في اليوم الواحد أكثر من أربعة آلاف مريض.

كل ذلك حدث بالفعل عبر كل تاريخ الحضارة الإسلامية؛ على امتداد كل حواضر الخلافة الإسلامية، وحواضر تعني بلغة العصر الحديث، المدن العملاقة، وهو مفهوم آخر متطور استحدثته وتبنته وطورته الحضارة الإسلامية، بدءًا من بغداد مرورًا بالقاهرة وصولاً لقرطبة، مفاهيم كتلك Mega Cities and Urban Planning لم يكن يدركها حتى العالم المتحضر حينها – باستثناء الحضارة الرومانية – والتي لم تكن تعنى بمفاهيم التنوع العرقي أو تكافؤ الفرص أو حقوق المساواة والضمان الاجتماعي والرعاية الصحية للجميع.

كل ذلك حدث بالفعل عبر كل تاريخ الحضارة الإسلامية وحواضرها؛ وعلى مرمى حجر كان الأوروبيون ما زالوا يكتبون بنهايات خرائطهم «بعد تلك الحدود توجد تنانين» بحين يطير عباس بن فرناس عشر دقائق كاملة، ويصنع الجزري المحرك، ويصنع الزهراوي خيوطًا وآلات الجراحة ويكتشف الحمل المنتبذ ويعالج حصوات الكلى، وتصنع مريم الاسطرلابية الاسطرلاب المجسم او المعقد، أو أول قمر صناعي وجهاز GPS بتاريخ البشرية.

كل هؤلاء العلماء المسلمين الأجلاء وغيرهم المئات، كانوا يدرسون ويبحثون ويطورن ويترجمون للحفاظ على تراث البشرية من الضياع، حتى أن أغلب المصادر اليونانية غير موجودة بلغتها الأصلية، وموجود فقط أصلها باللغة العربية التي تم الترجمة إليها، لأن أغلبها ضاع أو سرق أو حرق، أي أن العلماء المسلمين – على اختلاف عرقياتهم – حافظوا على تراث البشرية وترجموه وطوروه ونقلوه، في نقلة نوعية ربما هي الثانية من نوعها – بعد الإغريق أو اليونان – حتى تستحق القرون الوسطى الإسلامية عن جدارة لقب القرون الذهبية.

ويبدو أن الأوربيين بشكل ما كانوا محقين؛ فرؤية إنسان طائر على حدودهم، ربما تجعلهم يؤمنون أنه توجد هناك تنانين، ويبدو أقرب أن التنانين الحقيقيين كانوا هم المسلمين.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.

المراجع
  1. تاريخ ضائع – جورج هاملتون مورجان
  2. حضارة العرب – جوستاف لوبون
  3. شمس العرب تشرق على الغرب – زيجريد هونكه