لقد ارتبط منشأ المسجد الأقصى المبارك بالسماء منذ أول الحياة الدنيا، فكان بناؤه أمرًا ربانيًا لسيدنا آدم (عليه الصلاة والسلام) بعد أربعين سنة من بناء البيت العتيق في مكة. إن ثاني المساجد على الأرض له من المكانة والقداسة الخاصة بأن أفرده الله بفيضان البركة عما حوله، فهو مبارك فيه ومبارك ما يرتبط به زمانًا ومكانًا وعملًا، وخصّه بأن جعل منه منطلقًا لإمامة حملة الحق المبين من الأنبياء والمرسلين على العالمين على مر الأزمنة والقرون.

للمسجد الأقصى المبارك مكانة عظيمة في وجدان المسلمين، نتاج ربط روحي مقدس من خلال كتاب الله الهدى للعالمين وسنة رسول الله الرحمة للعالمين

فمنه كان سيدنا إبراهيم إمامًا على الناس، وبعد أن جدد سيدنا سليمان (عليه السلام) المسجد الأقصى آتاه الله الملك الفريد والحكم التليد والحكمة البالغة والفهم الدقيق والنبوة العظيمة. لقد حق لهذا المسجد أن يكون بداية الاستخلاف للمسلمين في نهاية الزمان، وتحققت له المكانة العظيمة بإسراء رسول الله إليه وتسلمه القيادة والولاية على الحق والمقدسات في جمع مبارك؛ بركة المكان وبركة المجتمعين من خيرة خلق الله.

للمسجد الأقصى المبارك مكانة عظيمة في وجدان المسلمين، نتاج ربط روحي مقدس من خلال كتاب الله الهدى للعالمين وسنة رسول الله الرحمة للعالمين. لقد كان للربط النبوي الروحي بالمسجد الأقصى المبارك الدلالات العظيمة بعدها في درب تحرير المسجد الأقصى وتعلق الصحابة بهذا المسجد المبارك، نلمس ذلك لكثرة أحاديث رسول الله عن بيت المقدس وفضائله وأيضًا لجعل الصحابة من بيت المقدس مادة حوارية وغاية تعبدية؛ فرضًا كان من خلال القبلة الأولى أو نافلةً من خلال الزيارة وإيفاء النذور.

لقد بقي المسجد الأقصى المبارك بعد تحريره، في عهد أمير المؤمنين الفاروق عمر بن الخطاب، قبلة تعبدية ومنارة حضارية للإسلام بعد تعاقب الشعوب والدول المحتلة العداد عليها.

لقد بقيت الأخطار تحدق بالمسجد الأقصى المبارك منذ تحرير الأول، لكن الخطر الأكبر لم يكن يوم سقوطه في يد الصليبين الذين لم يدم بقاؤهم حتى خرج العلماء الأفذاذ المجاهدون يعدون الرجال ليوم الحسم. العلماء الذين خرجوا جيلًا ربانيًا أعاد القدس إلى حاضنتها الطبيعية إلى أمة الحق. لم يكن هذا هو الخطر الأكبر وإنما الخطر العظيم كان يوم سقطت القدس في أيدي الصهاينة سنة 1967م، من هنا بدأ سلسلة التهويد الممنهج للمسجد الأقصى وبيت المقدس!

إن المسجد الأقصى المبارك ظل هدفًا للحركة الصهيونية منذ نشأتها الأولى، وبقيت على قدر من الأهمية في جدول أولويات الكيان الصهيوني منذ نشأته رغم الطابع الأيديولجي اليساري الذي ساد السياسة الصهيونية في بداياتها. ذلك الهدف الذي عبّر عنه رئيس وزراء الاحتلال الأول دافيد بن غوريون بمقولته المشهورة «لا معنى لإسرائيل بدون أورشليم ولامعنى لأورشليم بدون المعبد [الهيكل]!»

إلا أن هذا الخطر التهويدي تعالى وتضاعف بمئات المرات بعد صعود نجم الفكر اليميني المتطرف ووصوله للحكم سنة 1996م، الذي منذ ذلك الحين بدأ في تطبيق سياسات التهويد بطريقة مجنونة، كانت الحادثة المفجرة للوضع بعد فشل الصهاينة في تحويل المصلى المرواني كنيسًا؛ ما أدى إلى الزيارة المشؤومة للمجرم الصهيوني «آرييل شارون» سنة 2001م وانفجار انتفاضة الأقصى التي جمدت مشروع التهويد.

إن هيمنة التيار الصهيوني اليميني المتطرف على الحكومة الصهيونية في العشرية الأخيرة سرّع من وتيرة التهويد على مستوياته المتعددة؛ سواء تهويد المسجد الأقصى المبارك بالعمل على تطبيق مشروع التقسيم الزمني والمكاني والعمل على إحاطة المسجد الأقصى المبارك بالكنس اليهودية، أو تهويد المدينة تمهيدًا للسيطرة التامة من خلال مشاريع تهويدية كبرى أهمها مشروع القدس أولًا.

سنركز كل التركيز على الأخطار المحدقة بالمسجد الأقصى المبارك في هذه السنة التي عرفت انتفاضة شعبية كبيرة كانت كنتيجة طبيعية لسياسات التهويد المتسارعة من أجل فرض واقع جديد في المسجد الأقصى المبارك، محاولين مناقشة مقاربة تهويد المسجد الأقصى المبارك من أربعة جوانب رئيسية:

  • أولاً: تطور فكرة الوجود اليهودي في المسجد الأقصى على المستوى السياسي والديني والقانوني.
  • ثانيًا: الكشف عن مرامي الحفريات والإنشاءات المصادرة تحت المسجد الأقصى المبارك وفي محيطه.
  • ثالثًا: معرفة مقدار الوجود البشري اليهودي في المسجد الأقصى المبارك من خلال سياسة الاقتحامات وعمل الصهاينة على تغليب الوجود اليهودي على الوجود الإسلامي، من خلال تحجيم الوجود الإسلامي بممارسات الإبعاد ومنع الدخول والتضييف على حراس المسجد الأقصى المبارك.
  • رابعًا: رصد مشاريع الصمود وإبراز الدور الهام الواجب على المؤسسات الإسلامية في شتى الأقطار القيام به حيال هذا الواقع التهويدي المتسارع.

أولًا: تطور فكرة الوجود اليهودي في المسجد الأقصى

على المستوى السياسي

حددت انتفاضة القدس أطر الموقف السياسي من الوجود اليهودي في الأقصى على ضوء ما تقتضيه الظروف الأمنية (الهاجس والعقدة الصهيونية الدائمة). كانت «تفاهمات كيري» بين الكيان الصهيوني والأردن -الوصية على المسجد الأقصى – محاولة لمنع تطور العمليات التي أخذت منحى تصاعديًا منذ بداية أكتوبر/تشرين أول 2015م والتي لم تتوقف إلى يومنا هذا.

أعاد نتنياهو خلال مدة الرصد تأكيد التمسك بالوضع القائم في الأقصى وإظهار أنه مستعد للتنازل والتراجع حفاظًا على مكتسبات المرحلة وخوفًا من انفجار الوضع الأمني مثل ما حدث في انتفاضة الأقصى سنة 2001م، وتجلت التراجعات من خلال منع أعضاء «الكنيست» من اقتحام المسجد الأقصى، لكن اقتحاماتهم تتناقض مع تصريحات نتنياهو الداعي لتهدئة الوضع. مع كل ذلك تتعالى تصريحات الحاخام يهودا غليك بعد دخوله إلى «الكنيست» من خلال عزمه الحثيث على التحرك السياسي لتحقيق رؤيته تجاه الأقصى المتمثلة في بناء المعبد وتقسيم الأقصى زمانيًا ومكانيًا.

على المستوى الأمني

يعتمد المستوى الأمني في رؤيته للوجود اليهودي في المسجد الأقصى على أن الأقصى والتطورات فيه تشكل عاملاً دافعًا لانفجار الوضع الأمني في القدس وسائر الأراضي الفلسطينية المحتلة، وهذا ما كان واضحًا في كلام رئيس «الشاباك» في انتفاضة القدس. لقد وصل الاحتلال إلى يقين بأن زيادة التصعيد في المسجد الأقصى سيكون دونه ثمن أمني باهظ وهذا يكفي الحكومة لمواجهة مؤسسات «المعبد» الداعية لحق اليهود في الصلاة والعمل على رفع سقف المطالبات.

يعمل الكيان الصهيوني عبر وزير الجيش على تقليص الوجود الإسلامي في المسجد من خلال قرارات مجنونة من خلال اعتبار المرابطين والمرابطات تنظيمين خارجين عن القانون، وكذلك حظر الحركة الإسلامية بجناحها الشمالي و«القائمة الذهبية» التي وضعتها شرطة الاحتلال للمبعدين عن المسجد الأقصى.

بالتالي نتج عن انتفاضة القدس وضع أمني مفخخ قابل للانفجار في أي لحظة، هذا الذي دفع بالكيان الصهيوني إلى توخي الحذر من خلال الموازنة بين تطبيق مشاريع التهويد تحت ضغط منضمات الهيكل وعدم التهور في تطبيق خطوات أكبر تهدد بانفجار الوضع الأمني.

على المستوى الديني

مقارنة بالمستويين الأمني والسياسي، كان تطور الموقف الديني ملحوظًا بشكل ظاهر بعد دعوة الحاخام الرئيس للأشكنار إلى بناء المعبد في القدس بعدما كان قد وقّع مع الحاخام الرئيس للسفارد بالإضافة لـ100 حاخام فتوى تحريم زيارة المعبد خوفًا من دخول منطقة قدس الأقداس وحلول العقوبة الإلهية. يعتبر هذا التطور الخطير ضغطًا مباشرًا على الحكومة الصهيونية في المضي قدمًا في تهويد المسجد الأقصى كليًا دون الرضوخ للأوضاع الأمنية والتوازنات السياسة.


ثانيًا: الحفريات وأعمال البناء والمصادرة أسفل الأقصى وفي محيطه

يعمل الصهاينة بشتى وسائل التهويد الممكنة على إضفاء صبغة يهودية على القدس والمسجد الأقصى مسخرين آلاته المتعددة لتحقيق الهدف المركزي «بناء المعبد». من الممارسات التي يمضي فيها الصهاينة بنسق سريع هي مصادرة الأراضي المحيطة بالمسجد الأقصى تجاوزًا لعقدة طبيعة العمران والمعالم التي يبقى شاهدًا على عروبة وإسلامية المسجد الأقصى المبارك وتمهيدًا لبناء بنى تحتية لتسهيل ولوج الصهاينة للمسجد الأقصى بهدف تقوية الوجود اليهودي. في حين تهدف الحفريات إلى تزوير الحقائق التاريخية من خلال ادعاء البحث عن الآثار التاريخية اليهودية؛ الخطوات التي كشف العديد من علماء الآثار اليهود عدم جدواها وبحثها عن السراب.

لقد وسع الصهاينة من نطاقات الحفريات التي وصلت في شهر يوليو/تموز 2016م إلى 63 حفرية ونفق تحت المسجد الأقصى المبارك، الأنفاق المتعددة التي تستخدم ككنس في جزئية وفي متاحف يهودية مزيفة للتاريخ في جزئيات أخرى.

تتوزع الحفريات على الشكل الآتي:

  • حفريات الجهة الجنوبية: 25 حفرية.
  • حفريات الجهة الغربية: 31 حفرية.
  • حفريات الجهة الشمالية: 6 حفريات.
  • حفريات الجهة الشرقية: حفرية واحدة.

ثالثًا: تحقيق الوجود اليهودي داخل الأقصى والتدخل المباشر في إدارته

  • الاقتحامات: يهدف الكيان الصهيوني إلى فرض سياسة الأمر الواقع بتطبيع الوجود اليهودي داخل المسجد الأقصى المبارك، من خلال تكثيف الاقتحامات التي تقودها منظمات دينية متطرفة بهدف فرض تقسيم زمني ومكاني بين اليهود والمسلمين ومحاكاة ما يحدث في المسجد الإبراهيمي على واقع المسجد الأقصى المبارك.

لقد كان من بين شرارات انفجار انتفاضة القدس نية الحكومة الصهيونية تطبيق التقسيم الزمني والمكاني من خلال مشاركة شخصيات رسمية من وزراء وأعضاء «كنيست» في اقتحامات المسجد الأقصى، وهي الخطوة التي جمّدتها وألغتها الانتفاضة الشعبية المباركة؛ الأمر الذي أدى بالحكومة إلى منع دخول أعضاء «الكنيست»، في حين لم تتوانَ المنظمات الدينية اليهودية عن تكثيف اقتحاماتها خاصة في أيام الأعياد اليهودية!.

  • التدخل المباشر في إدارة المسجد الأقصى المبارك.

تعتبر وزارة الأوقاف الأردنية الوصية الوحيدة على المسجد الأقصى المبارك والعمل على إدارته، لكن هذا ما لا تحترمه الإدارة الصهيونية التي تعمل يوميًا على التدخل في شؤون تسيير وإدارة المسجد الأقصى المبارك من خلال:

  • منع أي ترميم في المسجد الأقصى المبارك وتعطيل المشاريع المهمة فيه.
  • التضييق على حراس وعمال المسجد الأقصى المبارك من خلال الاعتداء عليهم واعتقالهم ومساءلتهم وبل إبعادهم عن المسجد الأقصى لمدد زمنية متفاوتة.

في ظل هذه السياسة التهويدية المتسارعة وفي ظرف عربي وإقليمي مضطرب، أعلى مستويات تفاعله مع الأخطار المحدقة بالمسجد الأقصى المبارك الشجب والاستنكار والتنديد وحتى في بعض الأحيان الوقوف مع الصهاينة، يبقى للموقف الشعبي المؤسساتي الدور الكبير في صناعة رأي عام ضاغط على الاحتلال داعم للانتفاضة الشعبية القوية في ربوع فلسطين الحبيبة ومساند لمشروع المقاومة الهادف لتحرير المسجد الأقصى المبارك والدفاع عن المقدسات.

هذا الدور الشعبي الذي يجب تفعيله أكثر خاصة في الأقطار العربية المتأخرة وتثمينه وتطويره في الأقطار العربية والإسلامية التي تحقق تطورًا مشرفًا ورافعًا للرأس في مواجهة الكيان الصهيوني خاصة الجزائر التي تلعب دورًا رائدًا مبادرًا في قيادة الدعم المباشر للقضية الفلسطينية المركزية.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.