تسبب تحذير الملياردرير الأمريكي، إيلون ماسك، من أن اليابان ستختفي من الوجود بسبب انخفاض معدل المواليد، وسيتسبب ذلك في خسارة كبيرة للعالم، في تسليط الضوء على ظاهرة الانهيار السكاني العالمي، بسبب شيخوخة الدول المتقدمة على وجه الخصوص، وتمثل اليابان التجلي الأكثر وضوحًا لهذه الظاهرة.

ويواصل عدد سكان اليابان الانخفاض بمعدلات كبيرة؛ ففي العام الماضي فقط انخفض الرقم بمقدار 644 ألف نسمة، ليصل إلى 125.5 مليون، بعد عشر سنوات من التراجع المتواصل، وأصدر صندوق النقد الدولي تحذيرًا من أن الاقتصاد الياباني عرضة لأن ينكمش بنسبة تفوق 25% خلال السنوات الأربعين المقبلة بسبب شيخوخة المواطنين.

وكانت اليابان شهدت طفرة مواليد بعد الحرب العالمية الثانية مباشرة بين عامي 1947 و1949، وما زال التكوين السكاني متأثرًا حتى اليوم بهذه الطفرة، لكن مع انطلاق مشروع النهضة الحالي انخفضت معدلات المواليد بشكل ضخم لأسباب عديدة منها الانشغال الشديد بالعمل وتأخرت سن الزواج أو العزوف عنه تمامًا وعدم قدرة النساء على الجمع بين الوظيفة والأمومة.

واليوم يتخطى جميع مواليد فترة طفرة المواليد سن السبعين عامًا وتتزايد الشيخوخة المجتمع بشكل سريع، ومنذ عام 2016 بدأت نسبة المواليد تقل عن مليون نسمة بينما تبلغ الوفيات حوالى مليون وثلث سنويًا، وصار واضحًا أن اليابان أصبحت نموذجًا لم يعرفه العالم من قبل في أي بلد.

وتغير شكل المجتمع مع استشراء الشيخوخة فتزايدت أعداد من يعانون من أمراض الزهايمر وغيرها مما يرتبط بهذه المرحلة العمرية، وزادت الحاجة إلى الوظائف الخاصة بالمُسنين من الرعاية التمريضية والخدمات الطبية وغيرها، فأصدرت الحكومة في 2018 قرارًا برفع سن التقاعد من 65 إلى 70 عامًا ونشطت الجهود في مجال الروبوتات والتكنولوجيا لتعويض النقص البشري، وأصبح الشغل الشاغل لليابان إطالة «سنوات الحياة الصحية» أي المدة التي يستطيع فيها المواطن الاعتماد على نفسه قبل أن تداهمه الإعاقات الجسدية والعقلية مع تقدم العمر، وتتضح أهمية هذا المشروع بالنظر إلى أن المجتمعات تُصاب بالشيخوخة إن تجاوزت نسبة المواطنين المسنين 14% من إجمالي السكان، وقد تجاوزت اليابان ضعف هذه النسبة ويُتوقع أن تواصل الارتفاع بشكل مستمر.

الصين

أما الصين التي مثلت إلهامًا للعالم في محاربة الزيادة السكانية عندما قررت سياسة الطفل الواحد منذ عام 1979، فوجئت بعد ذلك بأن الجيل الذي طبق هذه السياسة يقود البلاد نحو الهرم، فمع التطبيق الصارم لسياسة إبطاء النمو السكاني، وتعرض الأسر المخالفة لعقوبات مؤلمة، وأحياناً عمليات إجهاض قسري، باتت الدولة تعاني من تناقص نسبة الأيدي العاملة مقابل تزايد نسب المسنين بشكل غير مسبوق، كما حدث اختلال بين نسب الجنسين بسبب حرص الأسر على أن يكون طفلها الوحيد ذكرًا لأنها لن تحصل على فرصة أخرى للإنجاب بخاصة في المدن، فتم قتل ملايين الإناث في المهد أو إجهاضهن وهن أجنة، مما سبب أزمة لملايين الشباب الذكور في إيجاد زوجات ولجأ البعض لخطف آلاف الفتيات من دول مجاورة كميانمار، ونشأ الملايين من المواليد غير المسجلين رسميًا، وفي النهاية أثبتت سياسة الطفل الواحد فشلها واستبدلت بطفلين عام 2015، ثم السماح بثلاثة أطفال عام 2021.

لكن هذا الإصلاح فشل في عكس اتجاه انخفاض معدل المواليد في البلاد، فتخفيف القيود الإنجابية أتى بعد أن تعود المجتمع على شكل الأسرة التي تتكون من 3 أفراد فقط، وأغلب الشباب لم يتقبلوا فكرة تحمل نفقات أكثر من طفل بعد عقود من العيش في مجتمع الطفل الواحد، كما أن الباحثين الصينيين رصدوا وجود انخفاض حاد في عدد الفتيات في سن الإنجاب.

وواصلت أعداد المواليد تراجعها، حتى أنه في عام 2018 وصلت الصين لأدنى مستوى للإنجاب منذ تأسيسها بتعداد يبلغ 15.2 مليونًا، وفي عام 2019 قال المكتب الوطني للإحصاء، إن معدل المواليد بلغ 10.48 لكل ألف، وفي عام 2020 بلغ 8.52، وفي 2021 وصلت النسبة إلى 7.52 ولادة لكل ألف شخص.

وحذر الخبراء من عواقب مجتمعية سلبية تنتظر الصين خلال المرحلة المقبلة؛ فقد لاحظوا أن تغير تركيب الأسرة أضعف المشاعر والمسؤولية بين المسنين وأبنائهم، وانهارت التقاليد الأسرية المتوارثة، ولم تعد الأسرة المصدر الرئيسي لسعادة الفرد، وتراجع الوعي بالمسؤولية الأسرية التقليدية ولم يعد السكان يؤمنون بالحكمة القديمة القائلة بأن «أبناء أكثر تعني سعادة أكبر».

وبدأت ظاهرة الأسر التي يعيش فيها المسنون وحدهم في الانتشار، وتدريجيًا يزيد العبء الواقع على أبناء جيل الطفل الواحد الذين يتأففون من أنه بات عليهم بعد عودتهم من العمل أن يعملوا كممرضين لوالديهم، وهناك توقعات بأنه عندما يصل هذا الجيل إلى مرحلة الشيخوخة، بعد أقل من 30 سنة ستشهد الدولة فترة عصيبة وستتراجع اقتصاديًا بشكل كبير.

روسيا

لا تقتصر المشكلة في روسيا على نقص المواليد، بل تتسبب هجرة المواطنين للخارج في مضاعفة الأزمة، وتفيد تقديرات شعبة السكان التابعة للأمم المتحدة بأن عدد السكان سينخفض إلى 132 مليون نسمة بحلول عام 2050، وتبعًا للتعداد السكاني الذي تم إجراؤه مؤخرًا بلغ عدد سكان روسيا 147 مليونًا اعتبارًا من مطلع أكتوبر /تشرين الأول 2021.

وتتأثر معدلات الخصوبة في روسيا سلبيا بتدهور الاقتصاد ففي التسعينيات انخفض الإنجاب بعد انهيار الاتحاد السوفيتي وما تبع ذلك من تدهور الأوضاع المعيشية، وبالترافق مع انكماش الاقتصاد في عام 2009، عادت المعدلات إلى الانخفاض بمقدار الثلث تقريبًا وارتفعت معدلات الهجرة، ومنذ عام 2012 بعد أن بدأ بوتين فترة ولايته الرئاسية الثالثة تفاقم الوضع، ومع بدء الحرب في أوكرانيا في فبراير الماضي غادر الروس بلادهم بأعداد هائلة، ومن المتوقع أن تظل الهجرة مرتفعة مع استمرار تدهور الوضع الاقتصادي.

وأطلقت موسكو في عام 2018 مشروعًا قوميًا هدفه زيادة عدد السكان ضمن خطة للنهضة بتكلفة أربعة تريليونات روبل، وتعثرت الخطة بسبب جائحة فيروس كورونا في عام 2020، وشهدت نكبة أخرى بعد أن جمدت العقوبات الغربية أموال البلاد بعد غزو أوكرانيا.

وتعد مساحة أكبر دولة في العالم نقطة ضعف في ظل نقص السكان، فهناك مخاوف من أن تلتهم الصين أراضي الشرق الروسي ديموغرافيًا وإلى الآن لم تجد موسكو حلًا جذريًا لهذه المعضلة.

الغرب

لطالما شرعت الولايات المتحدة أبوابها أمام المهاجرين لتجديد شبابها باستمرار واجتذبت أصحاب الكفاءات والطموحين من كافة أرجاء العالم، لكن في السنوات الأخيرة انخفضت معدلات الخصوبة وتراجعت معدلات الهجرة، وزادت هذه الظاهرة في عهد الرئيس السابق دونالد ترامب الذي اتبع سياسة معادية للمهاجرين، وهو ما تحاول إدارة بايدن عكسه عن طريق تخفيف قيود الهجرة وسن تشريعات تهدف إلى تخفيف الأعباء المادية عن الأسر الأمريكية المعيلة للأطفال؛ فالولايات المتحدة تدرك أنها إن لم تعالج هذه الظاهرة ستتجه إلى نموذج اليابان، لذلك تحاول اللحاق بنموذج كندا التي أصبحت جنة للمهاجرين وحققت نجاحًا مبهرًا جراء ذلك.

وكذلك لجأت العديد من الدول الأوروبية إلى الترحيب باللاجئين تحت لافتات إنسانية وأخلاقية لكن الحقيقة أنها هي التي تحتاج بشدة إلى سواعد وعقول هؤلاء المهاجرين لضخ الدماء في أوردتها قبل أن تجف بسبب نقص الخصوبة، وقررت برامج لتعليم القادمين الجدد إليها لغتها وثقافتها لصبغهم بصبغتها، ومع ذلك فقد أدى تدفق المهاجرين لانتعاش جماعات وتيارات التيار اليميني المتطرف المعادي للأجانب ولعب على وتر الخوف من التغيير الديموغرافي واستنفار النزعة العنصرية لدى المواطنين مما جعل هذه الدول بين نارين: إما الاستسلام لليمين المتطرف أو لزحف الشيخوخة.

وتعد ألمانيا النموذج الأشهر في ذلك فرغم كونها من أكثر الدول الأوروبية سكانًا، فإنها أيضًا من أقلها خصوبة، مما جعلها تستقبل الملايين من اللاجئين من سوريا والدول العربية وشرق أوروبا وغيرها من أجل الحفاظ على مكانتها الاقتصادية.

التراجع العالمي

ذكرت الأمم المتحدة أن عدد المسنين في العالم زاد على عدد الأطفال الصغار للمرة الأولى في التاريخ، وذلك بحلول نهاية عام 2018، إذ زاد من تجاوزت أعمارهم 65 سنة على من هم دون الخامسة، مع تغير أنماط الحياة على كوكب الأرض وارتفاع سن الزواج، وبالتالي تأخر فترة الإنجاب.

وبخلاف الدول المتقدمة فإن الدول الأكثر خصوبة معظمها دول آسيوية وأفريقية وكثير منها ذات غالبية مسلمة، ولا تكاد توجد دول إسلامية ضمن الدول الأكثر معاناة من هذه الظاهرة، بينما تأتي هذه الدول في قائمة الدول الأكثر شبابًا، لكنها تمضي أيضاً في طريق اللحاق بالدول المتقدمة في ظل اتجاه دولي عام للتحوُّل إلى الأسر الصغيرة، فقد شهدت معدلات الخصوبة هبوطًا هائلاً خلال العقدين الماضيين في الدول الإسلامية، بعد أن كانت تشتهر بارتفاع معدلات المواليد لأسباب دينية، فإندونيسيا مثلاً تسعى لتخفيض النمو السكاني بينما تعمل النمور الآسيوية من حولها كسنغافورة وتايوان في عكس الاتجاه.

ولا يبدو أن الدول النامية استفادت من أخطاء الدول المتقدمة وطورت نهجًا مستقلًا يتلافاها، وما زالت تثق في نفس الوصفة القائمة على فكرة أن تقليل الخصوبة هو سبيل الغنى والتقدم، وقد تحتاج إلى زمن طويل كي تدرك أن العنصر البشري هو أغلى الثروات التي تملكها، وهي حقيقة تبدو شديدة الوضوح في النموذج الياباني حيث لم يكن فقر الموارد الطبيعية عائقًا عن الوصول لأعلى درجات التقدم والازدهار بسبب حسن استغلال الموارد البشرية، ولم يعد استمرار صعودها الاقتصادي سهلاً بسبب تراجع حصتها من هذه الموارد الثمينة، أو نموذج البرتغال قديمًا التي كانت أعتى القوى الاستعمارية الأوروبية لكنها ما لبثت أن فقدت مكانتها بسبب ضآلة عدد سكانها.