أهداني العلَّامةُ عبد الحميد مدكور، أمين عام مجمع اللغة العربية بالقاهرة، ظهر يوم الإثنين 5 يونيو/حزيران 2023، نسخة من «موسوعة المصطلحات الزراعية المصورة». حاولت القبض عليها بيدٍ واحدة فما استطعت؛ إذ هي تقع في زهاء ألف ومائتي صفحة في سفرٍ واحد، وهي مُجلّدة تجليداً قوياً يزيدها بهاءً في شكلها وضخامة في حجمها.

سرَّني هذا المغنم الكبير والجميل؛ ليس فقط لأنه هدية من أمين عام مجمع اللغة العربية، فهو معروف برسوخ القدم في العلم والكرم، وإنَّما لأنَّ هذه «الموسوعة» تتناول: الزراعة والمزروعات، والتربة والمحاصيل، وتربية الحيوانات، وجودة الأغذية، وأنواع النباتات والطيور، وغير ذلك مما لست متخصصاً فيه، ولكني شغوف أشد الشغف بمعرفته؛ لأنه يدخل في موضوعات «العلم النافع». ومثل هذا العلم يجب أن تنزلَ المعرفة به في وقتنا هذا منزلة الضروريات عند عموم المصريين كثقافة عامة، وعند نخبهم المثقفة، أو التي تحاولُ أن تكون مثقفةً؛ كمجال اهتمام لا يجوز الجهل به، وعند مسئوليهم وصنّاع القرار ومنْ بيدهم الحل والعقد في شئون السياسات والمصالح العامة.

هذه الموسوعة الزراعية المُلهمة صنعها عالمان من أكابر علماء مصر الراسخين في علمهما وهما: الأستاذ الدكتور عبد الوهاب عبد الحافظ أستاذ الميكروبولوجيا المتفرغ بكلية الزراعة/ جامعة عين شمس، والقائم بأعمال رئيس مجمع اللغة العربية حالياً، والأستاذ الدكتور محمد علي أحمد أستاذ الفطريات وأمراض النبات المتفرغ بكلية الزراعة/جامعة عين شمس، والخبير بمجمع اللغة العربية. ولا يهمُّ أن هذين العالِمين العلَمين لا يعرفهما إلا قلة قليلة من الباحثين وطلاب العلم والمعرفة النافعة، وحسبهما أن تكون جهودهما في إنتاج مثل هذا النوع من العلم والمعرفة في ميزان حسناتهما. وقد كان أقل واجب نحوهما أن تكون أعمالهما ملء السمع والبصر في بلدنا التي أشرق فيها فجر الحضارة الإنسانية بالزراعة والاستقرار على ضفاف النيل.

بحثتُ -قبل كتابة هذا المقال- عمّا يكون قد انعقدَ حول هذه الموسوعة من: ندوات ومؤتمرات وبرامج ومقالات متخصصة في علوم الزراعة، أو معنية بشئون الثقافة وبناء الوعي الجماعي عند المصريين بصفة عامة. ولكن للأسف لم أجد سوى بعض الأخبار المقتضبة والمتناثرة التي نشرتها صحف يومية عقب صدور الموسوعة في سنة 2022. ومضت سنة وبضعة أشهر بعد صدورها، وكأنها صدرت في فراغ: لا مؤتمر، ولا ندوة، ولا برنامج، ولا مقالات متخصصة تناقش محتوياتها، أو توضح طرق الإفادة منها، كما جرت العادة -في المجتمعات المتحضرة- في مثل هذه المناسبة.

كنت أظن أن ظهورَ مرجع موسوعي رفيع المستوى في «الزراعة» سيعتبره المعنيون في بلدنا حدثاً علمياً ذا شأن، ولكن لم يحدث شيء من هذا، كما لم يحدث ما كنت أتوقعه من أن يصبحَ هذا الإنجاز مادة ذات أولوية في مختلف وسائل الإعلام، إلى جانب إدراجه على قمة اهتمامات فعاليات علمية وثقافية تقوم بها الدوائر المتخصصة وتضعه وتضع غيره من المراجع والمؤلفات الزراعية في بؤرة اهتمام الخبراء في هذا المجال أولاً، وتضعه -في الوقت عينه- وسائل الإعلام وبرامجها المختلفة في بؤرة اهتمام الرأي العام لينشغل بما هو مفيد ونافع، وتوضح له كيف يستفيد عمليًا بمثل هذه الأعمال العلمية، وكيف يتحول مجتمعنا إلى «مجتمع المعرفة» بحق، وليس مجرد شعار فارغ المضمون، وكيف يستثمر الشباب وقتهم وجهدهم فيما يعود عليهم وعلى مجتمعهم بما هو نافع ومفيد؛ بدلًا من تركهم فريسة لمهلكة برامج «الكورة» وحواديت سواقط الفنانين واللاعبين وأمثالهم. لم يحدث شيء مما ظننته ولا مما توقعته، وهذا من مفارقات الواقع ومن عجائب الوقائع.

يعرفُ طلاب السنة الأولى بكليات التجارة والاقتصاد أن «الزراعة» هي الميزة النسبية الكبرى لمصر في الاقتصاد الدولي. وقد طفتُ وطاف كثيرون غيري معظم بلاد العالم؛ في شماله وجنوبه، فلم أجد مثل جودة وتميز المنتجات الزراعية والحيوانية المصرية؛ رغم كل ما أصابها من جراء تخبط المسئولين عنها على مدى نصف قرن مضى على الأقل. والسؤال المؤلم هنا هو: لماذا نمشي عكس المنطق وضد الرشادة والعقلانية التي تقضي بتعظيم الميزة النسبية التي تتمتع بها بلادنا؟ ولماذا لا نفعل كما تفعل كل دولة لتعظيم ما تملكه من ميزات نسبية اقتصادية؟

إن من البديهيات التي لا تحتاج إلى شرح أو بيان: أن كل دولة تضع ميزتها النسبية في أولوية متقدمة على جدول اهتمامها العلمي والإعلامي وحتى الفني والثقافي العام. فألمانيا مثلاً لها ميزة نسبية في مجال الصناعة في أربعة مجالات رئيسية هي: السيارات، والماكينات، والكيماويات، والكهربائيات. وتنعكس هذه الميزة بشكل مباشر في مختلف مستويات التنئشة والتعليم والتدريب والتثقيف والدعاية والإعلام وبالطبع في أولويات صناع القرار ومتخذيه، أمّا بقية المجالات فتأتي في مرتبة تالية، وبخاصة كل ما يتعلق بالألعاب وبرامج الترفيه، ولا يخصص لها إلا ما يكفي لتحقيق غرض التسلية أو الترفيه في أوقات الفراغ لا أكثر. وبهذا تحتل ألمانيا المرتبة الأولى كأقوى اقتصاد في القارة الأوروبية، وقس على ذلك بقية الدول المتقدمة التي تبني سياساتها العامة على أساس ما تتمتع به من مزايا نسبية لا تنافسها فيها غيرها إلا بصعوبة بالغة.

أمّا أن تكون «الزراعة» هي الميزة النسبية لبلدنا، ثم تضعها الحكومة وصناع القرار في أولوية تالية لقطاع مثل «السياحة» مثلاً؛ الذي تزيد نفقاته على إيراداته! أو لقطاع «الرياضة» مثلاً؛ الذي لا يأتي إلا بالخسائر والخراب على مختلف المستويات، فأمرٌ يعجز جهابذةُ «علم الاقتصاد» عن وصفه، ويستعصِي عليهم وعلينا فهمه.

لا أعرفُ هل لدى المسئولين اليوم «ثقافة زراعية» تكافئ أهمية هذا القطاع المركزي من قطاعات الاقتصاد المصري أم لا؟ لكن ما أعرفه أن المسئولين في حكومات العهد الملكي كانت لديهم معرفة عميقة ومتنوعة عن هذا القطاع من مختلف جوانبه، حتى ولو كانوا غير متخصصين علمياً في هذا المجال.

وأضرب لك مثلاً برئيس وزراء مصر «محمد توفيق نسيم باشا»، الذي تولّى رئاسة مجلس الوزراء ثلاث مرات في عهد السلطان فؤاد، في الفترة 1920-1921، و1922-1923، و1934-1936. وقد كان في مكتبته الخاصة عشرات المراجع من الكتب والمعاجم والموسوعات والتقارير الزراعية بالعربية والإنجليزية والفرنسية. وإليك نماذج منها نقلتُها بأرقامها المسجلة بها بحسب ترقيم محتويات مكتبته ومنها الكتب الآتية:

  • كتاب (رقم 8) حسن الصناعة في علم الزراعة.
  • (رقم 9) حسن البراعة في علم الزراعة.
  • (رقم 10) مراقي الفلاح.
  • (رقم 24) التعاون الزراعي.
  • (رقم 109) ملاحظات على قانون النقابات الزراعية.
  • (رقم 115) تربية دودة القز.
  • (رقم 116) المتاحف الزراعية.
  • (رقم 117) معجم أسماء النبات.
  • (رقم 151) تزيين أسواق الخضار.
  • (رقم 95) المجلة الزراعية، ثلاثة مجلدات.
  • (رقم 205) زراعة الكتان.
  • (رقم 207) مقالات مختلفة في ثلاثة مجالات من وزارة الزراعة.
  • (رقم 232) مجلة التجارة والصناعة والزراعة، أربعة مجلدات.
  • (رقم 234) أعمال المؤتمر الزراعي الدولي.
  • (رقم 238) النشرة البيطرية، مجلدان.
  • (رقم 240) زميل الفلاح.
  • (رقم 272) محاضرة عن دودة القز.
  • (رقم 310) حدائق القاهرة.
  • (رقم 316) المحاصيل الشعرية والليفية والوبرية.
  • (رقم 348) سماد نترات الجير.
  • (رقم 555) مؤتمر القطن الدولي International Cotton Congress.
  • (رقم 269) قانون الغابات Code Forrestier.
  • (رقم 585) الزراعة الكبرى في العالم Les Grands cultures du Monde.
  • (رقم 596) روح النباتات L’Esprit des Plants.
  • (رقم 603) ذكاء الحيوان L’Intelligences Des Animaux.
  • (رقم 604) حيوانات البلدان Animal of the Countries.
  • (رقم 605) حيوانات المنزل المستأنسة.
  • (رقم 653) دودة القز Vers a Soie.

تلك مراجع وكتب في شئون الزراعة جمعها رئيس وزراء مصر في العهد الملكي، وكان رجل قانون ولم يكن رجل زراعة، ولكنه وجد أن مسئوليته الرسمية كرئيس للحكومة تحتم عليه أن يكون على دراية كافية بهذا القطاع الرئيسي من قطاعات الاقتصاد المصري. وقد آلت هذه الكتب والمراجع إلى مكتبة جامعة القاهرة ضمن بقية محتويات مكتبته التي وقفها بموجب حجة وقف خيري صادرة من محكمة مصر الشرعية الكبرى بتاريخ 5 من شعبان 1353هـ/ 13 نوفمبر 1934م.

نعود إلى «موسوعة المصطلحات الزراعية المصورة» (1200 صفحة)، فنجدها تقدم مجموعة كبيرة من المصطلحات العلمية (خمسة آلاف مصطلح وثلاثة آلاف صورة توضيحية) في المسائل الزراعية وما يرتبط بها من معارف، وتستوعب أيضاً ما احتوته معاجم وقواميس سبقتها في موضوعها، مع إضافات ثقافية وتاريخية وحضارية لا غنى عنها في بناء الوعي بهذا الفرع من فروع المعرفة التي ارتبطت بها نشأة الحضارة الإنسانية، واعتمد عليها الاستقرار الاجتماعي منذ أحقاب موغلة في القدم.

وتتميز هذه الموسوعة كذلك باستنادها إلى التراث العربي الإسلامي العريق في هذا الميدان بحسب ما ورد في التصدير الذي كتبه د. صلاح فضل رئيس المجمع الراحل (رحمه الله). وهذه الموسوعة تُضاف إلى جهود «مجمع اللغة العربية» في هذا الميدان؛ حيث سبقها «معجم البيولوجيا في علوم الأحياء والزراعة» في جزأين يحتويان على عشرة آلاف مصطلح، ولم يكن حظ هذا المعجم من الاهتمام أفضل من حظ هذه الموسوعة.

وقد يكون من المفيد التنويه هنا إلى كتاب صدر قبل أن تصدر هذه الموسوعة الرائعة بعام واحد عنوانه: Dinner with Darwin، لمؤلفه Jonathan Silvertown، ومُترجمه الأستاذ سامر حميد. وهو كتاب في «فن الطبخ التطوري»، أو في «فن الزراعة والطبخ»، معاً عبر تاريخ البشرية. وقد لا يشير عنوان الكتاب إلى ارتباطه الوثيق بموضوع «الموسوعة» التي نتحدث عنها. ولكنه في حقيقته عبارة عن رحلة مثيرة وشائقة في تاريخ الزراعة واستئناس الحيوانات والطيور، وكيف تطورت خبرات الإنسانية عبر آلاف القرون حتى وصلت إلى ما هي عليه اليوم.

في رأيي أن قراءة «موسوعة المصطلحات الزراعية المصورة» ستكون فائدتها مضاعفة إذا قرأنا معها، أو بعدها هذا الكتاب القيّم الذي ترجمه سامر حميد. والموسوعة والكتاب يثبتان العلاقة الوثيقة بين اللغة والزراعة والحضارة، ويبرهنان بالأدلة التجريبية على أن كل فنون الزراعة تنتهي حتماً إلى فن الطبخ الذي هو أعظم اكتشاف حققه البشر بعد اللُّغة.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.