مع تدفق الشتات اليهودي إلى فلسطين في القرن التاسع عشر سكنوا في البداية في القرى والبلدات الفلسطينية، فقد كانت أعدادهم قليلة جدًّا، وبينما كانت الشعوب العربية غافلة عما يحاك لها تسلل اليهود الأجانب إلى القدس ومدن الساحل رويدًا رويدًا، حتى وصلوا إلى أن أصبحوا عددًا لا يستهان به في سبعينيات القرن التاسع عشر، دون أن يلفت ذلك الأمر الأنظار إليهم؛ لأن العملية تمت بشكل بطيء، ولم تثر اهتمامًا من أصحاب الأرض.

وفي ذلك الوقت انطلقت محاولات صهيونية لتأسيس مستوطنات مستقلة تكون بمثابة مجتمعات يهودية مصغرة تمهيدًا لبناء وطن ليهود العالم أجمع، ونشطوا في شراء الأراضي لهذا الغرض، فلا وطن بدون أرض، واهتموا بإنشاء المدارس الزراعية لعدة أسباب، منها تزويد المستوطنين اليهود بالخبرة الزراعية وضمان الأمن الغذائي للمجتمع اليهودي، وكذلك ربط المهاجرين الأغراب بالأرض وغرسهم فيها، وتوسعوا بعد ذلك في شراء الأراضي لاستقبال المزيد من اليهود المهاجرين، لا سيما من الدول الأوروبية، حيث كانوا يعيشون منبوذين من شعوبها.

ومن خلال كتابه «السعي إلى صهيون» دعا الكاتب اليهودي هيرش كاليشر، إلى عدم انتظار الخلاص على يد المسيح المنتظر، بل الاعتماد على المجهود البشري لتحسين أوضاع اليهود، وحث على اختيار فلسطين كوطن قومي وبناء مجتمع يهودي وربطه بأرض يزرعها، وأقدم كاليشر على خطوات عملية في هذا الصدد، وطلب من أثرياء اليهود المساعدة على إنشاء جمعية لتشجيع اليهود الأوروبيين على الهجرة إلى فلسطين، وبالفعل نجح في تأسيس جمعية «استثمار أرض إسرائيل» عام 1864، وأُقيمت أول مدرسة زراعية يهودية في فلسطين عند مدخل مدينة يافا سنة 1870، مما أثار معارضة الفلاحين الفلسطينيين لوجود مؤسسة أجنبية وسط قراهم.

وفي عام 1872 أُنشئت شركة «استصلاح الأراضي وخلاص البلاد» في القدس بهدف إنشاء أول مستوطنة زراعية باسم «بيتاح تكفاه»، وانطلقت الشركة في إجراءات شراء أراضي في منطقة أريحا، وجنوب مدينة يافا، لكن السلطات العثمانية رفضت السماح بعمليات البيع وحُلَّت الشركة، إلا أن موشيه مونتيفيوري، زعيم الجماعة اليهودية في إنجلترا، ساهم في تأسيس صندوق لدعم الاستيطان عام 1874، وزار فلسطين في العام التالي ليُعاد تأسيس شركة «استصلاح الأراضي وخلاص البلاد» في القدس.

وشهد عام 1878 حدثًا مهمًّا؛ إذ أُنشئت أول مستوطنتين زراعيتين في الأراضي الفلسطينية، ففي شمالها أُنشئت مستوطنة «جاي أوني» شرق مدينة الصفد في الجليل، وفي الجنوب انتقل بعض اليهود من القدس ليبنوا مستوطنة «بيتاح تكفاه».

ويذكر مردخاي نانور في كتابه «الصهيونية في مائة عام» أن مستوطني جاي أوني هجروها عقب تأسيسهم لها بقليل، وهُجِرت بيتاح تكفاه بعد ٣ سنوات، ورغم فشل هاتين المحاولتين، فإن المحاولات لتأسيس مستوطنات مستقرة تستقطب سكانًا دائمين للعيش بها لم تنتهِ.

كان هجر المستوطنين الأوائل لبيتاح تكفاه بعد اشتعال مشاكل مع عرب المنطقة وانتشار حمى الملاريا بسبب مياه المستنقعات المحيطة، ويفسر اليهود سبب سماح السلطات العثمانية لهم باستيطان تلك الأرض تحديدًا بأنها كانت منطقة مستنقعات موبوءة، لكن تبرعات وصلت من البارون اليهودي الفرنسي إدموند دي روتشيلد عام 1883، مكنت المستوطنين من تجفيف المستنقعات وإعادة سكنى المنطقة من جديد، والتي صار يُطلَق عليها أم المستوطنات اليهودية، فقد أعقب تأسيسها إنشاء مستوطنات زراعية أخرى على السهل الساحلي الفلسطيني، وأصبحت بيتاح تكفاه ملجأ يهود المدن الساحلية في الحرب العالمية الأولى حين أجلاهم العثمانيون، وتوسعت المستوطنة وصارت من الوجهات البارزة للمهاجرين اليهود، واشتُهِرت بزراعة العنب والحمضيات كالبرتقال.

وشهد عقد الثمانينيات من القرن التاسع عشر توسعًا في بناء المستوطنات، ففي عام 1882 أُنشئت ثلاث مستوطنات، هي: روش بينا، وطريشون ليتسيون، وزخرون يعقوب، وفي العام التالي أُنشئت مستوطنتا عفرون ويسود همعليه، وفي العام الذي يليه أُنشئت مستوطنة جديرا، مما استفز الفلاحين الفلسطينيين، فهاجموا روش بينا سنة 1883، وبيتاح تكفاه في 1886، وجديرا عام 1888، وتكررت تلك الهجمات على مستوطنات أخرى دون أن تنجح في وقف الاستيطان أو منع تمدده.

ظلت الزراعة ركيزة أساسية في المشروع الصهيوني ومرتبطة بالاستيطان وتوسيع حدود دولة الاحتلال حتى اليوم، فميزانية وزارة الزراعة الإسرائيلية تُنفَق في دعم البؤر الاستيطانية وضم مساحات جديدة من أراضي الفلسطينيين في الضفة الغربية، ويحظى منصب وزارة الزراعة بأهمية كبرى في دولة الاحتلال، وكثير ممن تولوا هذه الحقيبة صاروا من أبرز القادة المؤثرين في إسرائيل، مثل موشيه دايان وزير الدفاع الإسرائيلي الأسبق، وبنحاس لافون الذي سبقه في هذا المنصب، وعدد من رؤساء الحكومات مثل إيهود باراك وأرئيل شارون وليفي إشكول، وغيرهم.

ويستغل الإسرائيليون الأعياد وتجمع أعداد كبيرة منهم للاحتفال، فيقضون أوقاتهم في المزارع الفلسطينية التي استُولِي عليها حديثًا، ويهاجمون المزارع الفلسطينية، ويحتفل الإسرائيليون سنويًّا في اليوم الأخير من شهر يناير/ كانون الثاني بعيد الشجرة اليهودية، حيث يزرعون الأشجار في الضفة الغربية، وبعد غرس الأشجار يُستَولَى على الأرض ويُوسَّع نطاقها تدريجيًّا لإنشاء مستوطنات جديدة.

وتصدِّر المستوطنات المحاصيل الزراعية إلى الخارج بصفتها منتجات «إسرائيلية»، كالحمضيات والتمور والخضروات، وقد نُظِّمت حملات عديدة لمقاطعتها كوسيلة لمعاقبة الاحتلال الذي يمنع أصحاب الأرض من حصاد محاصيلهم، ويتكسَّب من أراضيهم المسروقة.