الدكتور «أحمد عبد العزيز النجار» هو أحد أبرز الروّاد والمؤسسين والمنظّرين للمصرفية الإسلامية، ويطلق عليه بعض الباحثين «أبو المصرفية الإسلامية»، ومنهم من يعدّون تجربته المتميزة المعروفة بـ«بنوك الادخار المحلية» أولى المحاولات لتأسيس مصرف يقوم على المبادئ الإسلامية، التي بدأت عام 1963 في قرية (ميت غمر) في محافظة الدقهلية في جمهورية مصر العربية. وعلى الرغم من النجاحات الكبيرة التي حققتها التجربة في بداياتها، فإنها أُجهضت ووُئدت في مهدها عام 1967، لكنها تركت آثاراً طيبة شهد لها القاصي والداني كما سيأتي.

سعى النجار في هذه التجربة إلى تحقيق جملة من الأهداف منها: تعبئة الجماهير الإسلامية لتشارك مشاركة إيجابية فعّالة في عملية تكوين رأس المال، وإقامة مؤسسة مالية تقوم بدور إيجابي في مسألة التنمية، وتلتزم فعلاً بالتكاليف والتعاليم الإسلامية التي وردت في الكتاب الكريم والسنة الشريفة، واستعادة الهوية الإسلامية في الفكر والعمل والتطبيق، وإقامة العمل المالي والاقتصادي على قاعدة من القيم والأخلاق، والالتحام بالقاعدة الشعبية لتوعيتها من أجل أن تستعيد ثقتها في دينها وتراثها، والإبقاء على وهج العقيدة في النفوس من خلال رؤيتهم بالعين واطلاعهم بالحواس على إمكان قيام أجهزة مالية تلتزم بكل معطيات وأصول الفكر الإسلامي، وتؤكد بالدليل العملي إمكان الاستغناء عن عنصر سعر الفائدة والتخلص من الربا.

وقد استفاد الدكتور النجار من إقامته في ألمانيا للتحضير لبحثه للدكتوراه في الاطلاع على بنوك الادخار الألمانية التي لعبت دوراً مهماً في إعمار البلاد عقب الحرب العالمية الثانية، فاستلهم منها أهمية فكرة الادخار ودوره في تحقيق التنمية.

ومما أعان د. النجار على إقامة هذا النموذج جملة من الأمور المهمة منها: نظرته الفكرية والفلسفية، ورؤيته الإصلاحية الشاملة، وأنه صاحب تجربة عملية رائدة ومسيرة متميّزة، بحيث لم تظل أفكاره حبيسة الكتب، بل وجدت طريقها إلى شعاب الحياة، وكان النجار هو نفسه المشرف على تنزيلها على أرض الواقع. كما كان النجار على اطلاع عميق على الفكر الاقتصادي الغربي، وتعمّق هذه المعرفة خلال إقامته في ألمانيا ومراقبته لعمل بنوك الادخار الألمانية عن قرب.

ويُضاف إلى ذلك أن النجار كان ذا فكر استراتيجي بعيد المدى، حيث كان يراقب تجارب الإصلاح الحكومية بأناة قبل الانطلاق في تجربته، ويحاول تقويمها والوقوف على أسباب فشلها، واكتشاف مكامن الخطأ والتقصير فيها. كما أنه كان يجمع أهل القرى ويجلس معهم، ويسأل عن مشكلاتهم وطموحاتهم، ويسمع اقتراحاتهم، ويدرس أحوالهم عن قرب، وغير ذلك من الجهود التي لا نحيط بها إلا بنوع من الإشارة إليها.

الأسس التي قامت عليها التجربة

قامت تجربة بنوك الادخار على أسس فكرية وفلسفية من ناحية، وأسس عملية تؤطر عملية تنزيل الفكرة على أرض الواقع من ناحية أخرى. وإن كان النجار لم يصرّح بها كاملة ما سترد فيما يلي، إلا أنه يمكن استنباطها من كتاباته والاطلاع على تجربته وآرائه.

الأسس الفكرية:

أمّا الأسس الفكرية التي قام النموذج عليها، وهي المبادئ الجوهرية التي حكمت حركة الدكتور النجار وتفكيره، يمكن اختصارها بالنقاط التالية:

1. الإسلام هو روح التجربة ومنطلقها: إن توجيه سلوك الأفراد من أجل زيادة فاعلية التنمية وتحقيقها لأهدافها لا يتم إلا بإيجاد المحرك المناسب، يقول الدكتور موضحاً هذه الفكرة: «فإذا أدركنا أن التركيب النفسي للمسلمين يُشكِّل بفعل الرسالة المحمدية تشكيلاً عميقاً، فإنه من العبث أن نلزم الشعوب الإسلامية بفلسفة تغاير ترکيبهم الحضاري، أو بمعنى آخر تخالف مفاهيم شريعتهم، ولكن إذا أردنا أن نقدم لإنسان هذا العالم الإسلامي ما يثير حماسه وعواطفه وأشواقه، لنضمن مشاركته الإيجابية، فلا بد أن يكون ذلك نابعاً من تعاليم الدين، ومستمدة من الشريعة الغراء».

2. إصلاح الإنسان أولاً: لعل أكثر ما ركز عليه د. النجار في كتاباته وفي عمله هو الاستثمار في الإنسان، وجعل تغيير سلوكه هدفاً وشرطاً لنجاح العملية الاقتصادية. ولقد صرف جهوداً كبيرة في سبيل رفع الوعي، وتصحيح ثقافة التعامل مع المال، إنفاقاً وادخاراً واستثماراً. فالإصلاح الاقتصادي عنده يبدأ بإصلاح الإنسان. يقول د. النجار في بيان تعلق التنمية بالسلوك الإنساني: «عامل أساسي يشكل جوهر مشكلة التنمية، هذا العامل هو: سلوك الأفراد، فالادخار بمعنى إيجاد الطاقة، والاستثمار بمعنى استخدام الطاقة والقدرة على الربط بينهما. كل هذا يعتمد على سلوك بشري، قبل أن يرجع لعوامل مادية. في ضوء هذا الفهم، لا تمثل قلة الموارد المالية عقبة في سبيل التنمية، فكل مجتمع يمتلك حداً أدنى من الموارد المادية والبشرية، وعلى سلوك الأفراد تتوقف إمكانية زيادة هذه الطاقات، واستخدامها الأمثل، ومن هذا السلوك تتحقق تلقائياً عمليات التغيير الاجتماعي والاقتصادي اللازمة لمراحل التنمية المختلفة».

3. ارتباط الاقتصاد بالقيم: يقول د. النجار «ولعل مناط التفريق بين النظام الذي تطرحه هذه البنوك، وغيرها، أنها تقوم -تعبيراً عن الإسلام- بربط الحياة الاقتصادية بالحياة الخلقية والحياة الاجتماعية بالحياة الدينية، ذلك أن الخطأ الأكبر الذي تقع فيه المؤسسات الاقتصادية المشابهة، أنها تنظر -متساوية مع النظريات الاقتصادية الغربية- إلى الإنسان على أنه مجرد حيوان اقتصادي».

4. اعتبار التقليد أكبر الأخطار: يظهر ذلك في قوله «لعل التحدي الأعظم الذي نواجهه هو تسليم الكثير صراحة أو ضمنا بأن المسلمين لكي يسايروا الرقي العالمي، ويلحقوا بعجلة التقدم فإنه لا بد وأن يأخذوا بالمنهج الاجتماعي والاقتصادي الذي أقرته الأمم التي سبقته على هذا الطريق، سواء في الشرق أو في الغرب، وأن تقليد هذه المدنيات هو السبيل الوحيد للخروج من مظاهر التخلف واللحاق بالأمم المتقدمة. ولست أرى أن التحدي الأعظم يتمثل في الصراع بين الأيديولوجيات أو المذاهب، إنما هو في تقبل فكرة التقليد، لأن مجرد القبول بفكرة التقليد، يعني أن الرصيد الذاتي قد اهتز، وأن مقومات هذا الرصيد غير موثوق فيها. إن قبول المسلمين بتقليد غيرهم هو بلا ريب أكبر الأخطار. إن ذلك يعني منذ البداية موقفاً مستسلماً قانطاً».

الأسس العملية التي يستند إليها النموذج:

1. اللامركزية: اكتشاف الطاقات البشرية والمادية المهملة وتوظيفها، وبالتالي الحد من النزوح من الأرياف إلى المدن. كما يعين هذا المبدأ على التعرف على ظروف كل منطقة، وخصوصيتها، والدوافع والأنماط السائدة فيها، ثم الاستفادة من ذلك في التوعية المطلوبة عند إنشاء المشاريع الجديدة، والتربية وترشيد السلوك، ومتابعة القروض الممنوحة وضمان سدادها وحسن استخدامها، وتحقيق صلات دافئة مع أهالي المناطق وبناء الثقة المتبادلة.

2. المشاركة: وهي أقرب إلى العدالة المنشودة من الربا، بحيث يشترك الطرفان في العائد، سواء تضاعفت الأرباح أو انخفضت، كما أن المشاركة تؤدي إلى مضاعفة القوة الإنتاجية، واستفادة العميل من خبرة البنك، وبمقتضاها ينظر البنك إلى جدوى المشروعات التنموية والاجتماعية وفائدتها للمنطقة لا إلى الضمانات المادية فحسب.

طريقة عمل النموذج

1. الخطوات العملية:

  • قيام بنوك الادخار في المدن والقرى على أسس محلية، وتستثمر الودائع في نفس المنطقة المحلية تحت سمع وبصر الأهالي.
  • تدريب العاملين بالبنك تدريباً خاصاً يؤهلهم لحمل تلك المسئولية.
  • تكوين ثقافة مالية واعية: وذلك عن طريق التربية الادخارية والتربية الائتمانية التي تقوم بها هذه البنوك، والحث على التعاون والعمل الجماعي، ونبذ فكرة الانطواء على الذات والأنانية.
  • تقديم التسهيلات الائتمانية للمواطنين المحليين، خاصة للمشاريع الصغيرة والمتوسطة.
  • بناء علاقات قوية ومتينة مع السلطات المحلية بالمنطقة.

2. واجبات بنوك الادخار:

  • التربية الادخارية: وتعني إرشاد الأفراد إلى طرق إنفاق مداخيلهم بما يعود عليهم بالنفع وعلى المجتمع أيضاً، حيث تبين أن الفلاحين مثلاً يدخرون بطرق تقليدية لا تفيد المنطقة التي يعيشون فيها، ويأخذ ادخارهم غالباً صورة الاكتناز عن طريق شراء الذهب وتخزينه، وينفقون أموالاً طائلة على الأعراس والجنائز والمناسبات الاجتماعية المختلفة.
  • التربية الائتمانية: ويُراد بها تدريب المواطنين على أسس سليمة لطلب القروض واستخدامها لتحقق إنتاجاً أكبر، إذ إن كثيراً منهم يقترضون على أسس خطأ، فيصبحون بذلك عرضة للاستغلال والظلم من قبل المرابين.
  • التغلب على أي صعوبات تعترض نشاط الاستثمار، حيث لا يكفي فقط -في عملية تكوين رأس المال- تجميع المدخرات وإعطاء الائتمان والقروض للاستثمار، فلا بد لهذه المؤسسات أن تعمل أيضاً كمراكز للتربية الاقتصادية، وكعامل وسيط نشيط وفعال في القضاء على الأسباب والصعوبات التي تعترض تكوين رأس المال.

نتائج التجربة ومصيرها

حققت التجربة فعلاً نجاحات ملموسة، إذ أقبل الناس على البنك إقبالاً كبيراً، وتزايد عدد المودعين بشكل غير متوقع، حيث بلغ عددهم أربعة آلاف عميل في شهر واحد، ثم وصل عددهم إلى 18 ألف عميل في فبراير 1963، وافتُتحت للبنك أفرع جديدة في نفس المحافظة، وانهالت على د. النجار رسائل من كل مكان مطالبة بافتتاح مزيد من الأفرع في مناطق مختلفة. كما ذكر «أن نظام البنوك التي تتعامل دون فوائد ربوية قد تناوله بالبحث عديد من أساطين الفكر الاقتصادي والفكر الاجتماعي في العالم، وأجمعوا على سلامة هذا النظام وصحة الأسس التي يقوم عليها، وقد حدا ذلك ببعض الجامعات إلى التفكير في إنشاء معهد دولي يتولى تقديم المشورة في تصدير هذا النظام إلى الدول النامية وعلى الأخص العالم الإسلامي».

وكخلاصة لنتائج التجربة قال: «من وجهة نظري لقد حققت التجربة -بفضل الله ونعمته- أعظم ما كان يرجى منها في زمن قياسي، في مناخ رديء».

وبذلك شهد د. جمال الدين عطية وعبد الرحيم حمدي اللذان قالا: «وبقدر ما كانت تلك التجربة محدودة بقدر ما أثبتت نجاحها في وقت قصير، ولكن الظروف السياسية المحيطة ناخت عليها بثقلها وأنهتها في مهدها».

وفي هذه الظروف الصعبة التي عملت فيها التجربة فإن كل نجاح حققته يكون نجاحاً له معناه، ويكون نجاحاً يصل إلى حد المعجزة، لكن الإنجاز الأبرز الذي حققته التجربة أنها كانت فاتحة لتطبيق أحكام الشرع في المال وإنشاء البوك الإسلامية كما يوضح ذلك د. النجار بقوله: «يكفي التجربة نجاحاً في تقديرنا وتقدير المنصفين كذلك أنها شقت قنوات التطبيق لمبادئ الشريعة الإسلامية الخالدة وأحكامها في مجال المال والمعاملات. وذلك قول ليس فيه شطط ولا مبالغة، ذلك أنه بعد سبع سنين فقط من بدء هذه التجربة تعالت أصوات عديد من الدول مطالبة بالتفكير في إنشاء بنك إسلامي دولي. وتم إنشاء هذا البنك الذي اعتمدت دراسات إنشائه على تجربة ميت غمر بعد مرور عشر سنين من بدء التجربة، وتتابع إنشاء البنوك الإسلامية بعد ذلك بنكاً إثر بنك».

بعد هذه النجاحات حظي المشروع باهتمام إعلامي كبير من وسائل الإعلام، فالتفتت الأنظار إليه، واستشعر النظام الاشتراكي الذي كان حاكماً في ذلك الوقت بخطورة هذه التجربة على حكمه، ومناقضة فكرته الجوهرية للأسس الفكرية والاقتصادية التي يقوم عليها هذا النظام الشمولي. وقد تكاثر خصوم التجربة من أعداء النجاح، والسياسيين الطامعين، وأنصار النظام المرتزقة، وأعداء النظام الإسلامي، وبعض المنتفعين والقائمين على النظام المصرفي الربوي السائد. وفي أجواء رديئة وغير ملائمة لاستمرار التجربة تم إجهاضها عام 1976 بسلسلة من الإجراءات الإدارية والقانونية، ثم أُدمجت بنوك الادخار في البنوك الربوية لتقلد بـ«طفولة» ما تفعله تلك البنوك دون أي قيمة تُضاف للمجتمع.

صدى التجربة خارج العالم الإسلامي

شهد بعض المختصين في عالم الاقتصاد من خارج العالم الإسلامي لما حققته التجربة من نجاحات عملية، منهم البروفسور (ر. ك. ريدي)، وهو أحد العلماء في المجال الاجتماعي ومدير المعهد الدولي للعلوم السلوكية بواشنطن، الذي قال: «ولقد قمت بتحليل مشروع بنوك الادخار العربية بشيء من الإسهاب والاستيعاب لأسباب مهمة: أولها- أن هذا المشروع فريد في نوعه؛ وثانيها- أنه بعيد الأغوار وأصيل؛ وثالثها- أن بناءه الفني تام الإحكام؛ ورابعها- أنه مشروع خلاّق ومتجدد الحيوية، بمعنى أنه يجد الخطى نحو ألوان جديدة من المشاكل مما يتطلب مهارات وقدرات إبداعية خلاقة لمعالجتها، وهذا ما يجعل المشروع -كما رأيته- آية ونموذجاً من أروع النماذج التي تتصدى لعلاج مشكلات التنمية. رأيت في المشروع نموذجاً فذاً لكيفية إشراك المواطنين المحليين، وذلك ما يتمشّى تماماً مع أنجع وسائل التنمية الاقتصادية لتحقيق التنمية بالفعل، فالتنمية الصحيحة لا يتنسى لها أن تتحقق إلا بالمشاركة المحلية».

وقال أيضاً: «وإن المشروع ليبدو في الوقت الحاضر ناجحا، كما أن خطوات النجاح فيه تتلاحق إذ إن النجاح يولد نجاحاً». وأضاف: «وإن إنشاء نظام بنوك الادخار المحلية ليعد بحق تجربة رائدة تصلح لأن تكون نموذجاً يحتذى في كافة الدول النامية».

خاتمة

وفي النهاية لا بد من تقرير أن تجربة الدكتور أحمد النجار شمسٌ مضيئة في سماء قصة التمويل الإسلامي والمصرفية الإسلامية، ما يجعلنا لا نتردد في وضع د. النجار في عداد عظماء العلماء المعاصرين العاملين. وما أشد اللوعة من تجاهل الأمة لمسيرة هؤلاء، وإبراز جهودهم، وتقصيرها في حقهم والإفادة من أفكارهم وأعمالهم. نعم، هذه هي السيَر التي تستحق تحبير الصحائف، وهي الجديرة بإلهام الأجيال القادمة وتعليمهم معاني الصدق، والصبر على العمل الدؤوب ووصل الليل بالنهار، والتحرّق لرفعة الإسلام وعزّته، والشفقة على المسلمين والتألّم لما حل بهم.

وهذه المعاني قادرة على الترقي بهم ليستشعروا حرارة الدعوة، ونور اليقظة، وثقل همّ إقامة الإسلام ونصرته. والعقل له نصيبه في الاقتباس من أنوارها، والتتلمذ على أبطالها: فليرشف هنا من لذة المعرفة العميقة بفلسفة التشريع وأسراره، وليتقوّم بالدراية بالواقع المالي وتحدياته وآثاره، ويتعلم من الحنكة المتجاوزة للطاقة في مداراة التوازنات السياسية، والتفلّت من لهيب وساوس النفوس الدنيّة، فما أوسع البون بين جهود المؤسسين الأوائل وجهادهم، وكثير ممن آلت إليهم راية القيادة في المصارف الإسلامية برضاهم المشي على حافة الربا، وغرقهم في ابتكار أدوات الانحدار بما ينذر بسوء العاقبة وحلول الخراب والدمار.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.