هل يستحق الدكتور أحمد خالد توفيق كل هذه الضجة وكل هذا الحزن؟ لماذا كل هذا التدافع لنعيه وإظهار هذا القدر من الرثاء الممزوج بالأسى والألم الحقيقي من تلك الشرائح العريضة مختلفة التوجهات، والتي تمتد لجيلين كاملين وربما أكثر؟ هل تمثل كتاباته وأدبه هذا الوزن المكافئ لرد الفعل على وفاته؟ وهل قلمه بهذا العمق حتى توازيها عمق الحالة المصاحبة للوفاة؟

كانت تلك الأسئلة المسيطرة على خلفية رحيل الرجل المفاجئ لملايين من محبيه في مصر وحول العالم العربي، ورغم وجاهة كثير منها بغض النظر عن نوايا سائليها، فإن كثيرًا منها كان يبحث عن أسباب مادية متماسكة لذلك، وتوقفت عند حدود محتوى النصوص التي نشرها الرجل، وعما إذا كانت تستحق هذا الالتفاف حولها أم لا، وهل للرجل مواقف نضالية أو كان قائدًا في لحظة ما، وهي كلها عوامل تندرج فيما يُعد ماديًا.

لذا فإن ما هو معنوي غاب عن التفسير، لاسيما من لم يتعاملوا أو يعرفوا الرجل عن قرب، سواء بصفة شخصية أو من خلال ما يكتب، سواء فيما هو روائي أو سياسي واجتماعي في مقالاته، أو وقفوا عند حدود النص دون الشعور بما يسعى أن يقدمه الرجل من قيمة أو معنى ظاهرًا أو ضمنيًا.

من هنا، فإن استعراض الأسباب التي دفعت الشباب إلى كل هذا القدر من الحب ربما يمكن الكثيرين من فهم ما جرى.

كان خالد توفيق يتميز بالصدق فيما يعتقد أو يطرح، لم يكن يظهر في أي موضع متكلفًا أو متصنعًا أو مبالغًا، كان بسيطًا ومتواضعًا، يسعى للاقتراب من الآخرين وفهمهم، هذا على الرغم من من كونه ذا حظ من شهرة ومعرفة في أوساط الشباب منذ فترات طويلة، لكن تواضعه الذي جعله دائمًا في موضع الرعاية لا الوصاية، ترك هذا الأثر البالغ، فالرجل ليس استعلائيًا بل دمث الخلق عف اللسان حتى مع مخالفيه في الرأي، لذا فلا ريب أن ينتزع احترام كل من تعاملوا معه، سواء إنسانيًا أو فكريًا، فكم من كاتب حافظ على صدقه مع الناس ولاسيما مع الشباب الذين يتم المتاجرة بهم ليل نهار منذ القدم.

فات على الكثيرين من المندهشين أن أصعب شيء أن تظل صادقًا فيما تعتقد أو تقول، وتكون صادقًا حينما تغير قناعتك أو تحول مسارك، لأن الموهبة الفنية والقدرة الأدبية يمكن أن تكون لدى الكثيرين، ويمكن أن يرفع التدريب وتراكب الخبرات مهاراتك فيها، لكن الصدق أو الإيمان بما ترى أو تتحول إليه أو تتراجع عنه، لابد أن يكون نابعًا من داخلك فقط.

لذلك جاء فقدان دكتور أحمد خالد توفيق بمثابة صدمة، ذلك أن الناس شعرت أنها فقدت جزءًا من الحقيقة والصدق المحيط بها في زمن يتزيف فيه كل شيء ويسود القبح فيه، وتعتبر البراءة فيه جزءًا من البلاهة لدى الكثيرين، والبساطة ضعفًا.

كان الرجل بسيطًا، حتى في كتاباته يركن للسلاسة، وهو ما جعله رائدًا لمدرسة جذبت أجيالًا عديدة لطريقته، وفتحت لهم آفاقًا كبيرة في عالم القراءة والمعرفة.

يذكرني الدكتور بالراحلين «حسام تمام» و«محمد يسري سلامة» في قربهما من الشباب، واستعدادهما الدائم للمساعدة، ووجود بوصلة أخلاقية واضحة لديهما، وصدقهما فيما يعتقدانه، سواء اختلف الناس معهما أو اتفقا.

إضافة إلى ما سبق فإن خالد توفيق كان شخصًا «عاديًا»، وكان يمتلك فضيلة «الاستغناء» كما سماها الفيلسوف الراحل «زكي نجيب محمود».

لم يكن الرجل فقط قريبًا للشباب لأنه كان متواضعًا، لكنه أيضًا كان يعيش حياة «عادية» ويرتبط بمكانه الأصلي طنطا، ويلبس ويتحدث بلغة عادية، ولم يشعر أحد أنه يمارس حياة مختلفة عن حياة آلاف أو ملايين من الشباب المتابعين له، حتى طريقة لبسه واجتماعاته كانت عادية، ومن ثم تشعر أنك قريب منه بلا تكلف أو تصنع، وتشعر أنه يمثلك وأنه ليس استثناء في نمط حياته.

فكرة «العادية» غير القائمة على التصنع والادعاء على طريقة تصوير الرؤساء مع الفقراء وقت شرب الشاي، هي فكرة مركزية برأيي في حب الناس لكثير من المبدعين، وأحمد خالد توفيق تحديدًا، ومن خلال المتابعة للصحف والمواقع التي كتب معها ولها؛ ستجد أن الشهادات تتحدث عن رجل موهوب أو رجل له شعبيته الكبيرة بين الشباب لكنه كان يتعامل بطريقة «عادية».

أما فضيلة الاستغناء فهي فضيلة كبرى، لأنها هي ما تجعلك «عاديًا» لا تخشى أن تفقد شيئًا ماديًا من أجل الحفاظ على هالة تحيط بك، أو منصبًا أو جاهًا أو مالًا حصلت عليه من شهرتك أو عملك، فالأصل لديك هو عدم وجود الأشياء واستغناؤك عنها، ومعرفتك أنك من تصنع المال والشهرة وليس هما ما يصنعانك، ومن ثم يستوي عندك الامتلاك والفقد، طالما تفعل ما تريد وتعتقده بصدق، وهذا هو جوهر ما جعل الشباب وكثير من الناس تشعر بفضيلتي الصدق والتواضع لدى الرجل.

لتلك الأسباب اقترب الشباب من توفيق، واتخذوه قدوة في عالم القراءة، معتبرين أنه أبوهم الروحي الذي فتح لهم آفاق القراءة العالمية، وربطهم بشخصيات تحمل قيمًا معنوية تميل للحق والعدل والخير دون تصنع أو زيف، مبسطًا لهم الصعب في الفلسفة في الأدب العالمي، مقتربًا من حيواتهم الشخصية مختلطًا معهم ذاتيًا ومعنويًا، كان أبًا روحيًا وأخًا أكبر بلا وصاية لكثير منهم.

هي أمور كلها لا ترتبط مباشرة بعمل سياسي نضالي فاقع اللون أو صاخب الحركة، يخمد بعد فترة قصيرة، أو قدرات أدبية تقارن بشاعر أو بالأدب الروسي أو غيره، بل بقدرات إنسانية تحمل قدرًا غير يسير من السواء النفسي والإخلاص والصدق وعدم التلون والخداع، وهي أمور أشق وأصعب بكثير من النضال السياسي أو ادعاء العمق بالتكلف.

لهذا أحب الشباب خالد توفيق وصدقوه وافتقدوه، لأنه مثل لهم كل تلك القيم المعنوية التي لا يمكن أن تشترى، ويكفي أن غالبيتهم يؤمنون في داخلهم بأنه هو من جعلهم «يقرءون».