يسير «ماتاسيدو» هائمًا داخل ضواحي مدينته المتهالكة، بحثًا عن نسمة هواء تنعش رئتيه بعد ما باتت ناطحات السحاب تخنق أنفاسه وتُحاصر البنايات العالية جسده النحيل المنهك من كل اتجاه. هذا البطل المهزوم لا يسعى لامتلاك سيارة فارهة أو شقة في طابق علوي، فأحلامه لا تتعدى وجبة ساخنة وغرفة صغيرة تحميه من مدينة أشبه بغابة موحشة، ولكنها آمال مُحرَّمة في بلد لا يسرق سوى أحلام الفقراء.

في شريطه الروائي الطويل الأول «Air Conditioner»، الفائز بجائزة لجنة التحكيم بمهرجان الأقصر للسينما الأفريقية هذا العام (2021)، يعود المخرج «فراديك» إلى مسقط رأسه في العاصمة الأنجولية لواندا، ليأخذنا في رحلة سريالية أشبه بالحلم داخل شوارع المدينة الضبابية الرطبة، نعاين خلالها حياة مجموعة من الشخصيات المُهمَّشة التي تعيش وسط أنقاض الحاضر وذكريات الماضي المؤلمة.

سيناريو سريالي

في أحد أيام الصيف الحارقة، بدأت القطع الخارجية من مكيفات الهواء تتساقط بشكل غامض على المارة في الشوارع ما تسبب- في بعض الأحيان- في حدوث إصابات أو وفيات. لا نعرف السبب وراء تلك الحوادث الغريبة، لكننا نرافق ماتاسيدو (خوسيه كيتيكولو)، حارس الأمن في أحد المجمعات السكنية، في مهمته برفقة عاملة التنظيف زيزينيا (فيلومينا مانويل)، لاستعادة مكيف الهواء الخاص برب عملهما الغاضب من ورشة لإصلاح الأجهزة الكهربائية يديرها مينو (ديفيد كاراكول)، وهو شخص غريب الأطوار يقوم سرًا بالتقاط قطع المكيفات المتساقطة من المبان لتجميع آلة معقدة لاسترجاع الذاكرة.

إحدى مشاهد فيلم «Air Conditioner».

يتابع السيناريو الذي تتخذ حبكته شكلًا سرياليًا، الروتين اليومي لماتاسيدو داخل مبناه الأشبه بالمتاهة، فهو كغيره من المباني الأخرى من مُخلّفات الفترة الاستعمارية خلال فترة الخمسينيات، بات متداعيًا كحال شوارع المدينة وسكانها، وتحوّلت ساحته الخلفية إلى مستودعات لمولدات الطاقة وخزانات ومضخات المياه وأنابيب وأسلاك كهربائية متشابكة. نتجول وراء بطلنا تارة داخل ممرات الطوابق السفلية المظلمة والتي تأوي غرفها المُصممة لساكن واحد، عائلات متكدسة بأكملها، وأخري في الأدوار العليا حيث يعيش الأغنياء في مساحات أرحب بعيدًا عن ضجيج القاع.

إنها بناية أشبه بفكرة المدينة الرأسية على غرار أدب «الديستوبيا» في روايات، مثل: «البناية الشاهقة» لـ«جيمس جراهام بالارد»، و«العالم في الداخل» لـ«روبرت سيلفربرج»، حيث يعيش الناس داخلها وفقًا لطبقتهم الاجتماعية، الفقراء والكادحون في الأدوار السفلى، في حين يسكن الأغنياء وأصحاب السلطة -كمدير ماتاسيدو- في أعلى المبنى. ولكن ما علاقة مكيفات الهواء بهذه القصة، وما اللغز وراء سقوطها؟

عندما يتسلل ماتاسيدو وزيزينيا إلى تلك الورشة الغامضة يجدان أن مينو يقوم بتجميع تلك القطع المتناثرة لاسترجاع ذكريات الناس المفقودة. تأخذهما مغامرتهما لاكتشاف اختراع آخر داخل إحدى الغرف السرية، عبارة عن بقايا أجهزة تكييف متصلة بهيكل سيارة دون محرك قادرة على إنتاج الهواء وبعض من النباتات المزروعة التي انقرضت تمامًا من المدينة.

يقود الفقراء الثلاثة سيارة مكيفة الهواء، قطعة خردة لا تسير، لكنهم يحاولون- على الأقل- الهروب بها إلى خيالهم كي تنقلهم نحو المدينة الفاضلة التي ينكرها الأغنياء، قبل أن يستيقظوا في نهاية الحلم على واقعهم المؤلم مجدداً.

إحدى مشاهد فيلم «Air Conditioner».

جماليات الواقعية الجديدة

يأخذ الفيلم نظرة تعاطفية وانتقادية للتفاوتات الاجتماعية في لواندا؛ فقبل الاستعمار البرتغالي، كان نسيم البحر يصل بشكل متساو للجميع. أمّا الآن ومع انتشار مظاهر الحداثة، طغت ناطحات السحاب على الأخضر، وتحولت المدن إلى كتل مشتعلة من الحرارة. ولكن الفقراء هم من يحصلون على نصيب المعاناة أكثر من غيرهم. فبينما يعيش الأغنياء في الطوابق العليا، حيث تهب الرياح أكثر، ويبقى الفقراء عند أقدام المباني يلتقطون أنفاسهم بصعوبة.

إن مكيف الهواء هو مجرد رمز واستعارة لتباين ذلك التفاوت في مجتمع رأسمالي كهذا، فالبعض لا يمتلك حتى الأساسيات، في حين يريد البعض الآخر أكثر وأفضل مما لديهم بالفعل. يسعى الأغنياء وراء شراء وسائل الترف كالمكيف، أمّا الفقراء، إضافة إلى عدم قدرتهم على الشراء، لا يزالون بحاجة إلى توخي الحذر من سقوط تلك الأجهزة فوق رؤوسهم، وهنا تكون الاستعارة أكثر وضوحًا: إن عدم المساواة تقتل.

لم يعتمد السيناريو الذي صاغه «فراديك» رفقة مصور الفيلم «إيري كلافر»، على مشاهد حوارية طويلة لكنه وظّف لغته السينمائية مُعتمدًا على لقطات مُقرّبة لتلك لشخصيات غير مرئية في حياتنا اليومية، وهو ما برز خلال افتتاحية الفيلم التي ركّز فيها على صور لأشخاص عاديين.

ابتعد الفيلم أيضًا عن استخدام اللقطات العلوية من السماء للمدينة، وفضَّل أن يكون على مقربة من أبطاله الثلاثة، من خلال تأطير ماتاسيدو وسط المباني الخانقة، وكأنه شخص مُحاصَر غير قادر على التقاط أنفاسه. كما وظّف عددًا من الألوان لتتماشى مع حالة كل مشهد، فاستخدم اللونين الأصفر والبرتقالي كي يعكسا وهج وحرارة المدينة، والأزرق في تسلسل مشهد الحلم حيث يزداد انفصال الأبطال عن واقعهم. وعزّزت الموسيقي التصويرية لـ«ألين فرازاو»، أحد عناصر الفيلم القوية، العالم النابض للشخصيات بصخبه وهدوئه، لتنقلنا بإيقاعها داخل شوارع لواندا دون أن نحرك ساكنًا.

إحدى مشاهد فيلم «Air Conditioner».

حافظ «فراديك» في شريطه على جماليات الواقعية الجديدة، باستخدام أسلوب سردي يمزج ما بين الروائي والتسجيلي، حيث قام بالتصوير في مبنى حقيقي يقع في أحد شوارع موتامبا في قلب لواندا، واعتمد على ممثلين غير محترفين مثل «خوسيه كيتيكولو» الذي لعب دور ماتاسيدو، ليضفي على السرد لمسة سحرية على غرار أفلام الإيطالية «أليس رورفاكر».

رغم أن العمل لديه كثير من الأفكار الجريئة والأصيلة ليعرضها، من نقده للأوضاع الاجتماعية والرأسمالية التي رسخها الاستعمار وأزمة الزحف العمراني والاحتباس الحراري، فإنه عجز عن إيجاد توازن مناسب للقصة، ما جعله يتحدث عن كل شيء ولا نتلقّى إلا القليل.

تسبّبت بعض القرارات المتعلقة بالحوار والسرد المتلقي بعض الإرباك، بخاصة في المشاهد التي اعتمد الحوار فيها على طريقة التخاطر الذهني، فأخفقت في خلق اتصال عاطفي حقيقي مع الشخصيات.

يُعالج «Air Conditioner» تدهور الوضع الاقتصادي والاجتماعي لمدينة لم يعد من الممكن فيها التنفس، مدينة تفتقر إلى الهواء، نسمات الريح الطبيعية المقبلة من البحر وليست تلك الصناعية الناتجة عن المكيفات، كما تقول أحد الشخصيات. مدينة تخنقها المباني المليئة بالذكريات الأليمة لمجتمع يحاول إعادة بناء نفسه بعد حرب أهلية مريرة.

يُذكِّرنا «فراديك» في صورته الفريدة بأن المدينة تتكون من أشخاص وذكريات، وليست ناطحات سحاب زجاجية فارغة.