(1)

رفع رأسه ينظر نحو بيتهم، أعلى الطريق المتعرج شديد الانحدار. واصل خطاه ببطءٍ، يُقيّد قلبُه المثقل ساقيه عن المشي. عادةً ما يمشي هذا المقطع سريعاً، ليتغلّب على صعوبة صعوده.

أشرقت الشمس كدأبها، وارتفعت ببطء ودلال. لم ينتبه، لم ينتبه أنها غربت في الأمس، ولا أنها عادت تتفقّدهم في الفجر. إذ أنارت مشاعل أهل المدينة أرضهم وسماءهم. هرج ومرج وصراخ أصم، وهم ينتشلون الأحياء والأموات تباعًا من تحت أنقاض البيوت المهدمة. لم يتوقفوا ولو للحظة، بعض من حوله سقط من هول المنظر أو عند رؤية قريب أو حبيب أو معرفة، وكل من في نابلس قريب أو حبيب أو معرفة. لم ينجزوا… هم لم ينجزوا شيئاً، فقد غطاهم الركام جميعاً.

وصل باب بيتهم، تحسّس المفتاح في جيب قمبازه المتسخ والمعقود حول خاصرته، ثم تذكر أنه لم يأخذ المفتاح قبل أن يهرع نازلاً درجات بيته، ليتفقد أمه وأباه وأخته حسنه في الأسفل. وجد الصبية أمام الباب حاسرة الرأس ترتجف، فغمرها بحضنه مقبلًا جبهتها:

– أنت بخير؟ أبوك وأمك؟

برز أبوه وأمه من خلف الباب بوجوه شاحبة، فعانقهما بقوة وهو يصرخ:

– الحمد لله… الحمد لله… أنتم بخير وعائشة بخير، بقيت مرتاحة في السرير. بعض الأشياء تكسّرت، ربنا يعوّض.

لم يردوا عليه، تعلّقت عيونهم بشيء ما خلفه، فاستدار ليرى ما شدّهم… وخرجت منه شهقة قوية فتحت باب الصراخ والعويل. لم يكن ما يراه يشبه بلدته التي يطل عليها من دارهم على الجبل. من خلف الغبار الكثيف بأن مشهداً لا يشبه الصورة المحفوظة في رأسه، تلك التي رأها كل يوم من سنواته الثلاثين، كل يوم.

أين المآذن؟ أين أزقة السوق؟ وأين البيوت المتنافرة بعلوها وانخفاضها؟ أين نابلس التي يعرف؟

تعالى صوت البكاء والصراخ بانضمام صباح ورقيّة زوجات أخوته وأولادهن.

– ما هذا؟ ما هذا يا عمي؟ ماذا نفعل؟ صادق ومحمود لم يعودا إلى البيت بعد صلاة الظهر، بقيا في الدكان.

تحوّل نظر الجميع إلى حيث يقبع دكان القماش العائليّ قرب جامع النصر، يبحثون بأبصارهم من خلال الغبار عن المئذنة المألوفة لعيونهم، كانت هناك لكنها لم تكن في مكانها، تهافتت إلى الأسفل ومعها قلوبهم.

(2)

– لا أعرف ماذا أفعل….

تمتم السيد «حسن صادق العلي»، تاجر القماش الستيني، وتهاوى جالساً على الأرض، بينما بقي نظره سارحاً في فضاء المدينة.

– أولادي يا حسن، أولادي!! وبناتي في بيوتهن… أريد أن أراهم.

– اهدئي أمي! اهدئي! أنا نازل إلى البلد وسأبعث من يطمئنك على صادق ومحمود.

– وعلى أخواتك وعيالهن.

تسلّق درجات بيته لينتعل حذاءه، وجد عائشة تقف عند الباب تبكي وهي تنظر إلى حيث تركهم ينظرون:

– يا الله… يا الله… زلزال… ضربنا زلزال يا حاتم… أريد أن أطمئن على أهلي.

– عائشة، أرجعي إلى سريرك، سأبعث لك بالخبر، لا تخافي.

وجد أباه في انتظاره عند الباب، لم يجادله وهرولا سوياً نحو جامع النصر. على مسافة قريبة من بيتهما بدأ يتجلّى لهما مشهد مهول لبنايات رُدمت بكاملها أو سقط بعضها فاختلطت طوابقها، هوت حيطان كشفت دواخل البيوت دون استئذان من أهلها، وأصوات تتداخل مع الغبار وتتطاير في كل اتجاه، رجال ونساء يركضون مثلهم، كلما أبطأ حاتم شدّه الشيخ.

– نرى إخوتك ونعود لنساعد الجميع، المصيبة كبيرة يا ولدي.

وكانت المصيبة تكبر كلما تقدما باتجاه الدكان، شقّا طريقهما بسرعة فوق الحطام وعبر الفوضى، حتى وصلا مدخل الحارة، وهنا توقف الاثنان أمام منظر جامع النصر المهدم، توقفا للحظة حتى صرخ الشيخ حسن:

– أين أخواك يا حاتم؟

لم يجب وإنما ركض ومن خلفه أبوه باتجاه الدكان في الزقاق غربي المسجد. لم يعرفاه، قادتهما الأرجل التي تعرف الطريق أكثر منهما، وتوقّفا أمام ما كان باب الدكان الخشبي، تهاوى المدخل وتهاوى بعض السقف عليه فسده تماماً.

– ولداي… صادق… محمود…

لم يُميّز حاتم إن كان أبوه ينادي أم يُولول، لكنه انضم له منادياً وهو يحرّك الحجارة عن باب الدكان.

– صادق… محمود… صادق… محمود…

(3)

-الحذر يا حاتم الحذر… قد تُحرّك حجارة فتهيل أخرى أكبر وأخطر.

عرف حاتم صوت صديق عمره الأستاذ أسعد دون أن يلتفت نحوه، لكنه توقّف. اقترب منهما أسعد حتى حاذاهما:

– أتبحثان عن أحد يا عمي؟

فردّ حاتم ويداه تمتدان نحو الحجارة تمسك بها من جديد.

– صادق ومحمود كانا في الدكان.

وضع أسعد يده على يد رفيق الصبا.

– تروّى يا حاتم، لحظة يا أخي، فلننادي أولاً ونحاول أن نسمع…

ثم استدرك خافضاً صوته:

– إذا كانا تحت الردم فلنحاول تحديد مكانهما أولاً، ونحاول أن نصغي في هذا الضجيج.

رفع حاتم رأسه نحو صديقه، لم يفاجئه وجود أسعد بجانبه في السوق ولا الهدوء الذي يدير به حديثه، هذا هو أسعد يحكّم عقله وعقله يحكمه، فلا يؤثّر به حتى زلزال.

خلف أسعد، رأى الناس قد بدأت تتجمّع حول الركام، منهم من يقف مثلهم أمام ملك متداعٍ، ومنهم من أتى ليقدّم المساعدة… تعلو الهمهمات وتنخفض. سمع صوت أبيه يردّد أسماء أشقائه، ثم يصمت عملاً بنصيحة أسعد.

– سمعت صوتاً… هنا… هنا… خلّي عنك يا عمي… أعنّي يا حاتم…

أزاحا حجراً فوجدا من تحته ذراعاً لا تتحرك، وضع أسعد يده حول الرسغ، ونكس رأسه ناظراً نحو حاتم دون الشيخ:

– فلنبحث هنا بحذر… نادي يا عمي… من مكانك يا عمي… لا تقترب…

اتبع حاتم تعليمات أسعد وانضم لهما بعض الشباب، شكّلوا سلسلة عفوية يتناقلون الأحجار ويبعدونها عن مكان البحث. ومع كل حجر يُزال، يصبح الصوت المجيب من خلف الركام أوضح، يكبر كما تكبر أجزاء الجسد الموصول بالذراع. الصوت صوت محمود، والجسد جسد صادق.

توقّف حاتم عندما انكشف جسد أخيه البكر ملقى على عتبة الباب، ميتاً، رأسه مغطى بدم أحمر من جرح عميق ظهر في جبهته. التفت أسعد نحوه وهمس له بصوت مشفق ولكن بحزم:

– فلنخرج محمود يا حاتم… الصبر يا أخي.

خلّصوا جثة صادق وحملوها أمام أعين أبيه وأخيه، وانضم رهط آخر يساعد في إزالة الركام وهم ينادون على محمود وهو يردّ بصوت ضعيف، جلس الشيخ قرب جثة ولده وعاد حاتم يساعد في تخليص أخيه.

– اصمد يا محمود… سنخرجك لا تتحرّك.

استمرت الأيدي العارية بالعمل جانب مسجد النصر وفي كل نابلس، عارية إلا من قلوب هلعة تبحث عن نفسها بين الحجارة.

(4)

نُقل محمود إلى المستشفى الوطني، ونُقل صادق برفقة أبيه إلى البيت، وأصرّ حاتم أن يبقى مع أسعد وباقي الأهالي. شرعوا جميعًا في مساعدة أصحاب البيوت والمحال المتضرّرة. لا شيء يقدمه في البيت الآن… أجّل حزنه. فما معنى الحزن في مثل هذه المهالك؟ هل لصراخ أمه وزوجة أخيه وأخواته، إن يكن سالمات، صدى؟ لا صدى في الدمار المفتوح.

خجل من نفسه، من قلقه على عائشة وعلى ابنه او ابنته في بطنها. عشر سنوات انتظار تحوّلت فجأة إلى لا شيء، حتى الساعة كان يظن نفسه مبتلىً بالفقدان، يشفق على نفسه حتى أكثر مما يشفق على عائشة، التي طرحت ستة أجنة في عشر سنين. بل يعدّ نفسه بطلاً يستحق التهليل لصبره عليها. هذا الحمل استمر أطول من كل المرات السابقة، وامتلأوا جميعاً بأمل حذر. ولكنه الآن يفهم معنى الفقدان، فقدان الموجود لا فقدان الغيب، لا يقدر أن يرى وجه أمه.

بعد ساعات من الهزة وصلت رسالة من حكومة الانتداب تُوصي بخروج الناس من بيوتهم، لم يصل منهم شيء آخر. وفي ساعات الليل المتأخرة شعروا جميعاً بهزّة أخرى أخف من الأولى، قسم من الناس خرجوا من بيوتهم يحملون بعض ما يسترهم وبعض ما يبقيهم. أخرج أسعد أهله من دارهم إلى الساحة قرب المطحنة، وذهب حاتم ليطمئن على محمود. وجده معصوب الرجل واليد، يجلس بصمت على كرسي في طرف الغرفة، سانداً رأسه إلى الحائط وقد تجمّد الدم على مواقع مختلفة من جسده. وضع حاتم يده على رأس أخيه:

– موجوع يا أخي؟

= راح صادق؟ راح.

لم ينوِ أن يجيب، وساعده على هذا أن قاطعهم شاب يعرفه حاتم جيداً، طالب طب في بيروت.

– لا تتحرك من مكانك. رجله مكسورة، دكتور سمير سيجبرها… قريباً…

دفع حاتم الباب ودخل متلمّساً طريقه إلى بيت أهله، حيث توقّع أن يكونوا جميعاً حول صادق. علا الصراخ من جديد بدخوله، نظر إلى أخيه، غطوا الجسد وأبقوا رأسه المجروح مكشوفاً يكلمونه، تحاشى النظر إلى البقية، ولمح أولاد صادق عند رأس أبيهم. انتظر بضع دقائق صامتاً ثم توجّه نحو أبيه:

– علينا الخروج جميعاً من البيت، الناس تخرج من البيوت خوفاً من استمرار الهزات، لن تتحمل البيوت أكثر.

لم يسمع رداً، فاستمر في قول ما خطّط له طوال الطريق:

– سنأخذ صادق معنا، أنا سأحمله إلى حيث يجمع الناس المَوْ… وأنتم اذهبوا إلى الخلة، قد تجمّع الناس هناك.

لم يعترض أحد، والتقت عيناه بعيني عائشة حزينتين متعبتين خائفتين. أراد أن يكلّمها… أن يشكو لها وأن يبكي معها… أن يضمها ليحميها… لكنه لم يفعل… لا وقت لأي شيء الآن. تفرّقوا، وفي الطريق شعروا بهزة أخرى، تلفتوا نحو البيت، ووجدوه واقفاً كما هو.

(5)

يقع بيتهم في طرف البلد الشرقي، حوله بيوت قليلة متناثرة. ولم يخط حاتم خطوة واحدة خارج الباب حتى انضم له ثلاثة من جيرانهم يشاركونه حمل صادق. لم يكن يعرف ماذا يفعل؟ سقطت طقوس الموت، واحتاجوا لإيجاد مراسيم جديدة.

جثة صادق كانت الأولى من بين ثلاث أخرجت من تحت الردم في منطقة السوق فقط، رجل وامرأة وطفلة. لم يعد صادق وحده، لن تكون له جنازته ولن يحظى بنصيبه من الحزن. أيكبر حزن الفرد في الكوارث أم يصغر؟ أيكبر القلب فيحتوي كميات حزن مضاعفة أم ينشطر إلى أحزان صغيرة فتضيع كلها؟ إنه الخراب يا صادق يطال الضحايا كما يطال الناجين. عبثت الأفكار برأس حاتم وهو يراقب أحد الشباب يركض ليأتي بغطاء لجثة المرأة والطفلة، بعفوية فوضوية بدأ الناس يتقاسمون المهام.

رآه أحد المارة وهو يقود جنازة أخيه الصغيرة فأوقفه:

– الله يرحمه ويصبّركم. قرّرت البلدية أن تجمع الجثث في المستشفيات إلى أن تُرتَب أمور الدفن، ستكون أياماً طويلة.

(6)

ولدت عائشة، في يوم حار من أغسطس/آب بعد شهر من الهزة، حياتهم أصبحت تُقسَّم إلى ما قبل الهزة وما بعدها. بدأ الطلق مبكراً في نصف شهرها الثامن. أراد أن يأخذها إلى المستشفى الإنجيلي لتلد هناك. ألِف المشافي وأحب ساكنيها في الأسابيع الأخيرة، إذ تردد كثيرًا بين المصابين وأهلهم ولجنة الإغاثة. أصرّت عائشة أن تلد في البيت مع أمها وحماتها والداية، لديهم بيت فلماذا يتركونه؟

بقي ينتظر خارج الباب يطل على المدينة. تتمدد نابلس بسرعة، فراغات متناثرة في قلبها، وخيم غريبة في أطرافها. فبعد أن دفنت أبناءها وبناتها، بدأت تعيد ترتيب نفسها وشكلها. مرت بهم أسابيع مثل الحلم أو مثل الكابوس، وصلت معونات من فلسطين ومن خارجها. النكبات كاشفة للخير وللشر كما قال له أسعد، وهم مجتمعون في البلدية مع وجهاء البلد يخططون لهدم البنايات الآيلة للسقوط.

رأى حاتم الاثنين، الخير والشر، في كل الوجوه وعلى كل الألسن، كثرت المفاجآت وكثرت خيبات الأمل. يومها أردف أسعد هامساً: حكومة الإنجليز تحكمنا، أما في المصائب فهي تساعدنا على لمّ المعونات وتتصرف كالغريبة، لأنها غريبة، لنا الله.

– أدخل يا حاتم، أدخل… ولدت عائشة.

سمع صوتـاً ضعيفـاً لجسم يتحرك فوق صدر عائشة. قبّلته أمه بعيون دامعة وهمست:

– الحمد لله، ولد يا حاتم.

– سنسميه صادق.

نظرت إليه عائشة مشفقة.

– وإذا لم يعش؟

– لن يموت يا عائشة، هذه المرة لن يموت.

تمت…