يبدو أن الأندلس سلبت عقول محبيها منذ قديم الأزل، ينحسر طيفها العربي عن كل مقصر نحوها، ويقبل على كل طالب لها. غرناطة بجمالها الأخّاذ وأشجارها الباسقة التي تلتف حول قصورها، وحبات الرمان المنفرطة كالياقوت في جنبات طرقاتها. قرطبة بمساجدها العامرة، تلتمع أحجارها كالزبرجد كأنما سُقيت لتوها بزيت زيتون مبارك. طليطلة بجسورها وسدودها العتيقة التي تكاد تنطق من فرط سحرها. صورة طُبعت في خيال من لم يرها، فما حيلة من زارها؟

يقدم لنا الأديب السوري، محمد كرد، الذي لطالما عُرف بشدة اعتداده باللغة العربية وأهلها، كتابًا أفرده في أخبار الأندلس: «غابر الأندلس وحاضرها»، حيث تتجلى قوميته بوضوح لكل ما هو عربي، تكاد تحسب من كلامه أنه يسرد أمراً يخصه هو، وليس أمته. كان كرد قد سافر إلى بعض مدن إسبانيا عام 1922، وكتب إليه أصحابه طالبين أن يحدثهم عن أخبارها.

فتح الأندلس

توسعت فتوح الدولة الأموية حتى طالت غربي شمال أفريقيا، وتاقت نفوس الأمراء لما خلف البحر، فبعث موسى بن النصير (والي أفريقيا آنذاك) مولاه طارق بن زياد باثني عشر ألف جندي معظمهم من البربر والموالي وقليل من العرب، وكان ذلك سنة 92 هجريًا، ففتح خمس مدن أندلسية من بينهم قرطبة وغرناطة، ثم تبعه موسى بن النصير في السنة التالية ففتح خمس مدن أخرى من بينهم أشبيلية.

لمّا فتح العرب الأندلس، أمّنوا النصارى واليهود من الأسبان والبرتغاليين على حياتهم وأملاكهم بشرط دفع الجزية، ولم يُكرهوا أحدًا على اعتناق الإسلام، بل أنهم تركوا لهم حرية التبشير، فكان المبشرون يقفون على أبواب المساجد عقب الصلوات، يدعون المسلمين إلى المسيحية. وانتعشت تجارة اليهود في الدولة المسلمة، حتى أن غرناطة كانت تُسمى بمدينة اليهود في القرن العاشر، لكثرة تعداد اليهود ورواج تجارتهم بها. فتعلّق أهل الأندلس من الأسبان والبرتغاليين باللغة العربية وتعلموها وزهدوا في اللغة اللاتينية. وبمرور نصف قرن فقط، أصبحت العربية لغتهم الرسمية في البيع والعقود حتى امتدت إلى صلواتهم في الكنائس.

مدينة يوتوبية

يصف كرد كيف انتعشت الأندلس بعد فتح المسلمين لها، بعدما كانت موبئة ونالت من عصور أوروبا المظلمة ما نالت. لقد برع العرب الأندلسيون في البناء والعمران، وبنوا الدور والقصور على الطراز العربي الدمشقي، فجعلوا لكل دار فناء تتوسطه بركة ماء، وتزينت حدائق كل بيت بأشجار الفستق والكروم. وامتدت عنايتهم إلى المساجد والقباب والحمامات والأسواق حتى أنهم استجلبوا بعض مواد البناء من الأعمدة وغيرها من جنوبي فرنسا وإيطاليا وأفريقيا والأستانة، على الرغم من قلة عتادهم آنذاك في النقل برًا وبحرًا، وكانوا أول من قاموا بتبليط المدن وإنارة طرقها ليلًا.

عني العرب بالزراعة أيمّا عناية، فنقلوا من الشام إلى الأندلس من الأشجار والغراس والبقول وساعدهم في ذلك خصوبة الإقليم وتوافر المياه، حتى قيل إنهم كانوا يحصدون ثلاث مرات سنويًا، ثم نقلوا هذه الأشجار والغراس من جنة الأندلس إلى جميع أصقاع أوروبا. واشتهروا بصناعة السيوف والأقمشة ودبغ الجلود، وتفنّنت كل مدينة في صناعة على حدة، فتفردت مدينة «مالقة» بصنع الفخار المذهب، وكانت أجود أنواع الحرير لا تخرج إلا من «إشبيلية».

لقد بدت الأندلس مدينة يوتوبية بجدارة مقارنة بما حولها من بلاد الإفرنج. لم يبنِ العرب عمرانًا خربًا، بل اعتنوا بكل ضروب المعرفة. في الوقت الذي كان فيه عوام أوروبا أُميين، لا يعرفون القراءة والكتابة، حيث كان طلب العلم مُقتصرًا على القساوسة وبعض الشمامسة في الكنائس. أصبحت الأندلس منارة للعلم، يحجّ إليها الطلاب من إنجلترا وفرنسا وسويسرا ليتلقوا المعرفة، فبرعوا في علم الهندسة وعلم العدد والحساب والطب والفلسفة والمنطق وعلم الكيمياء والفلك والنجوم وعلوم الفقة واللغة، واخترعوا الموشحات وعُرفوا بها بين أهل الشرق، ولم يخل بيت من شاعر أو أديب، حتى أبسط البسطاء كانوا يقرضون الشعر.

تداعي الأندلس

ضعفت الدولة الإسلامية، وتشتتت أهواء أمرائها، وركنوا إلى الدعة، وأصبحوا يتشبهون بالإفرنج في لباسهم وعاداتهم، وامتلأت ليالي إشبيلية بالحفلات والرقص والسرور، وزهدوا في الحياة العسكرية، ولمّا كثر التناحر بين الأمراء على الزعامة قسّموا كل مدينة إلى مدن، ليكن على كل دويلة صغيرة أمير من الأمراء وخليفة من خلفاء المسلمين، حتى أن ابن حزم الأندلسي كتب في ذلك قولًا شهيرًا:

فضيحة لم يقع في الدهر مثلها: أربعة رجال في مسافة ثلاثة أيام يسمى كل واحد منهم بأمير المؤمنين، ويخطب لهم في زمن واحد، أحدهم في إشبيلية، والثاني بالجزيرة الخضراء، والثالث بمالقة، والرابع بالسبتة، وأصبح العرب والبربر في خصام مستديم، والجميع في خلاف مع أهل المغرب الأقصى من الجنوب، وفي حروب مع بقايا الأمم الإسبانية والبرتغالية من الشمال والغرب.

إبان هذا الضعف للأندلس، قويت شوكة الأسبان، بعد زواج ملكة قشتالة بملك الأراغون، وهما مملكتان تحدان الأندلس من الشمال، وبالتحام المملكتين القويتين تداعت الأندلس، وظلت تسقط مدينة تلو الأخرى، حتى هرب أهل قرطبة وإشبيلية لجوءًا إلى آخر مدينة للمسلمين، غرناطة، وظلت الأخيرة محاصرة لشهور، إلى أن سقطت عام 1492.

بعد سقوط الأندلس، بقي من بقي من المسلمين وغادر من غادر، إلا أن الأسبان والبرتغاليين لم يتركوا المسلمين على أرضهم، وكانت حملات التنصير قصرية للمسلمين واليهود على حد سواء، ومن لم يمتثل للكنيسة كان يُعذب ويُقتل أو يُحرق هو ومنزله وأولاده.

إن العرب الذين أنشئوا من العدم مدينة الأندلس، وقاموا في عصور الظلمات بأعمال لا يكاد يصدق الناظر إليها أنها بنت قرائحهم، وثمرة عقولهم، لو لم تتناصر على ذلك أصدق الروايات، لا يعجزهم اليوم -والعصر عصر النور- أن يقوموا بمثل ما عمله أجدادهم، لو نفس خناقهم، وملكوا زمنًا قياد أنفسهم.

لقد كتب كرد كتابه ليكون عبرة للعرب في كل زمان، ليعلموا أن كل ركون إلى الدعة هو انتقاص من أرضهم اليوم، وكل طلب علم وعمران، هو بلا شك استرداد لكل مسلوب كان في غابر الزمان أو حاضره.