تعرف نظرية الردع في الاستراتيجية باختصار على أنها استخدام الأدوات العسكرية والسياسيات اللازمة من قبل طرف لمنع خصمه من القيام بأي إجراءات من خلال التلويح بالقوة من دون استخدامها، أي من دون القيام بأعمال عسكرية مباشرة، أو مواجهات مباشرة وبالأخص الحرب المفتوحة.

هذا تعريف مختصر للردع، أي يتم تحقيق الهدف الاستراتيجي بتجنب الحرب من خلال التهديد بها دون السعي لخوضها والانتصار فيها، ويكون ذلك برفع كلفة أي عمل عسكري للخصم سواء ماديا أو سياسيا، ويكون ذلك بإقناع الخصم بأن أي عمل عسكري يؤدي لنتائج جسيمة وكارثية على الخصم نفسه لا توازن أي مكسب عسكري. كان أول من كتب في  هذه النظرية هو برنارد برودي في سنة 1964 في خضم الحرب الباردة لشرح نظرية الردع النووي.

وقد لجأت إسرائيل لخيار الردع الاستراتيجي ضد حماس وحركات المقاومة في غزة، وكذلك حزب الله في لبنان، ونجحت بشكل كبير لسنوات في تجنب حروب شاملة على كافة الجبهات مع إبقاء أهدافها الاستراتيجية العليا ومنع المقاومة من تحقيق أي مكاسب سياسية مطلقاً بشتى الوسائل. فكانت حماس لا تتخطى حاجز  إطلاق صواريخ من دون رؤوس متفجرة على مناطق مفتوحة خالية من السكان مع أضرار مادية محدودة وبشرية تكاد تكون معدومة كأقصى رد فعل مسموح به؛ حتى في حالة الرد على أعمال عسكرية إسرائيلية، كالاغتيالات أو استهداف بنية المقاومة من منصات صواريخ أو أنفاق من وقت لآخر. ويكون ذلك من خلال اتفاقات هدن طويلة الأمد بضمانات من قوى دولية وإقليمية. كما بقت جبهة حزب الله هادئة تماماً منذ حرب 2006 دون أي تهديد يذكر.

الهدف السياسي لهذه النظرية هو إبقاء الوضع الراهن وتحييد قدرات المقاومة مع عزلها إقليميا، وإضعاف صورتها ومصداقيتها أمام شعبها، مما يمهد الطريق أمام انشقاقات وتمرد داخل المقاومة من أجنحة متطرفة، مما يؤدي لتفتيت المقاومة داخليا أو بثورة شعبية ضد حكم خماس في غزة مثلا.

وقد حاولت المقاومة أيضا بناء توازن ردع برفع كلفة أي عملية نوعية أو استهداف لقادتها من خلال تنويع العمليات العسكرية كما في حرب 2014 بعمليات في العمق من خلال الأنفاق أو أسر جنود. لكن بقي هذا الخيار محدودا، وبقيت كلفة أي عمل عسكري عالية بلا شك.

كل هذا إلى أن جاء «طوفان الأقصى» وأصاب منظومة الردع الإسرائيلية في مقتل، وأثبت فشلها تماما. وفي خلال ساعات قليلة، كانت إسرائيل تخسر معركة الردع في حماية أمنها القومي، فقد كان «طوفان الأقصى» خارج أي حدود أو خطوط حمراء لمنظومة الردع الاستراتيجي التي كلفت إسرائيل مليارات الدولارات. العملية من هذه الناحية تشبه الإنجاز العسكري العظيم الذي حققه الجيش المصري في العبور سنة 1973، من خلال كسر منظومة الأمن القومي الإسرائيلي وتحطيم كل موازين الردع الاستراتيجي لديها.

أيام ما قبل الطوفان

منذ أيام قليلة، فاجأ الأمير محمد بن سلمان المجتمع العربي والدولي بالحديث لأول مرة عن مفاوضات التطبيع مع الكيان الصهيوني. لم تكن المفاجأة بالطبع في وجود المفاوضات، وإنما حديث رأس السلطة في المملكة العربية السعودية بمنتهى الأريحية وبلهجة ذات مغزى خطير وواضح، فقد صرح ولي العهد السعودي: «لدينا مفاوضات جيدة مستمرة، ونأمل أن نصل إلى مكان يسهل حياة الفلسطينيين ويجعل إسرائيل لاعبا في الشرق الأوسط، ونقترب من ذلك كل يوم أكثر، سنرى كيف ستسير الأمور».

كان هذا التصريح كاشفا لمستقبل القضية الفلسطينية التي بات واضحا أنها تمضي إلى طريق مجهول في حال تجاهل النظام السعودي المطالب الرئيسية للشعب الفلسطيني، أو الحد الأدنى منها على الأقل، ومضى في سلام وتطبيع ومن ثم تحالفات واتفاقات وشراكات كما هو الحال بالنسبة لنظيره الإماراتي. يضع هذا ضغطا كبيرا على الفلسطينيين بفقدان كل مصادر القوة والتأثير، وغلق كافة منافذ المناورة السياسية. كل هذا مثل تحديا كبيرا ووجوديا للمقاومة الفلسطينية، ووضعها أمام خيارات محدودة، فكان عليها إما أن تستلم للأمر الواقع أو تحاول أن تفجر الوضع الراهن وتقلب الموازين رأسا على عقب.

ما بعد الطوفان

إلى الآن، حجم الخسائر البشرية والمادية فضلا عن المعنوية فوق احتمال النظام السياسي الإسرائيلي الحالي أو لأي نظام سياسي مرّ على إسرائيل. نحن نتحدث عن مئات القتلى والجرحى وعشرات الأسرى قد يكون منهم قائد فرقة العمق، ما يمثل انهيارا شاملا وكاملا لكافة هياكل الدفاع والأمن، على حد وصف المتحدث السابق لجيش الاحتلال. وبالتالي، وبلا شك، تحتاج إسرائيل لحرب شاملة من أجل صد العدوان أولا، والبحث ثانيا عن خيارات عسكرية واستراتيجية لبناء منظومة أمنية ودفاعية جديدة غير منظومة الردع .

ولا أظن أن هناك خيارات كثيرة متاحة، فصانع القرار الصهيوني يعلم جيدا أن القضاء على حركة مقاومة متجذرة شعبيا من خلال ضربات جوية هو ضرب من الخيال. فالخيارات المتاحة حاليا أن تلجأ إسرائيل ببساطة إلى احتلال قطاع غزة مجددا من خلال حرب برية كبيرة، على أن تنسحب منها بعد اتفاق سياسي إقليمي واسع وشامل يضمن أمن اسرائيل، أو عمل عسكري بري واسع النطاق ضد المقاومة يستمر لفترات طويلة يستهدف بشكل كامل وحاسم بنية المقاومة العسكرية.

في كل الأحوال، لا بديل عن حرب برية، ولكن السؤال الذي سيبقى عالقاً في حسابات الإسرائيلي والمقاومة ودول الجوار والأمريكي: ما هي كلفة هذا العمل وتداعياته الإقليمية والدولية في ظل حرب روسية أوكرانية تستقطب فيها روسيا الحلفاء، بخاصة مع وجود روسي نشط في سوريا؟ يأتي ذلك أيضا في خضم أزمة سياسية عاصفة بين نتنياهو وحلفائه من اليمين المتطرف والمعارضة، بشكل يهدد مستقبل وبنية النظام الاجتماعي والسياسي الإسرائيلي نفسه بشكل عميق. كل هذا يطرح تساؤلا حساسا عن كلفة الحرب الشاملة وتداعياتها إقليمياً ودولياً وإسرائيلياً أيضاً.