منذ الرابع عشر من يوليو/تموز الجاري يمضي الفلسطينيون قُدمًا في حراكهم لا يثنيهم سقوط أحدهم شهيدًا أو مُصابًا بفعل بطش الاحتلال، الذي يُريد أن يُغير واقع الأقصى التاريخي ويُنهي معالمه الدينية والإسلامية بنشر البوابات الإلكترونية في ساحاته والكاميرات الذكية في سمائه. المقدسيون بصمودهم في الساحات خارج حدود المسجد الأقصى والطرقات المؤدية إليه أماطوا اللثام عن وهم قوة الردع الإسرائيلية، وأكدوا أنهم قادرون على فرض معادلة جديدة، لا يتجرعون فيها الألم وحدهم، بل يُذيقونه للاحتلال أيضًا برعبٍ كبير يُربك حساباته الأمنية والسياسية، البداية كانت مع ثلاثية الشباب المُحمدية من آل جبارين في بلدة أم الفحم بالأراضي المحتلة عام 48، الذين ردوا بطريقتهم المُثلى على إجراءات الاحتلال الإسرائيلي في منعهم من ممارسة حقهم في العبادة والاعتكاف في المسجد الأقصى وقالوا بأسلوبهم:

إن ممارسات التهويد وتغيير الواقع التاريخي في القدس والأراضي الفلسطينية بشكلٍ عام لن تمر.
ومثّلت العملية التي وقعت صباح الجمعة 14 يوليو/تموز الجاري، نقطة انطلاق لإجراءات أكثر شراسة من قبل الاحتلال بإغلاق المسجد الأقصى ومنع إقامة صلاة الجمعة فيه لأول مرة منذ عام 1969 حتى يوم الأحد 16 يوليو/تموز، وما إن فُتحت أبواب الأقصى حتى كانت البوابات الإلكترونية آخذة في الانتشار على كل مداخل المسجد الأقصى، فثار المقدسيون رافضين العبور إلى محرابهم ومكان عبادتهم تحت سوط الإجراءات الأمنية التي ادعاها المُحتل، لم يمض إلا وقت قصير على الاحتجاجات الفلسطينية السلمية ومع رفض الاحتلال إزالة البوابات الإلكترونية دعوا إلى «جمعة الغضب من أجل الأقصى» في الحادي والعشرين من الشهر نفسه. يومها كان الحراك الشعبي على أشده ومع استمرار حالة القمع والبطش التحم الشباب المقدسي مع جنود الاحتلال فسقط منهم كوكبة محمدية أُخرى هم (محمد شرف من بلدة رأس العامود، ومحمد لافي من بلدة أبو ديس، وآخرهم محمد غنّام من بلدة الطور الذي شيع جثمانه تهريبا من على أسوار مستشفى المقاصد قبل أن تحتجزه سلطات الاحتلال).
الأقصى، يوليو 2017
كما اعتدت جنود الاحتلال على المرابطات وأصابت المئات من الشباب برصاص معدني وآخرين برصاص مطاطي لتُنهي أي محاولة للوصول إلى المسجد الأقصى إلا وفق إجراءاتها وإرادتها. أثخنت هذه المشاهد الجُرح لدى «عمر العبد»، وحولته سريعًا إلى فدائي مُقاوم، فاستل سكينه المسنون ومضى يحمل روحه على كفه في مستوطنة «حلميش» غرب رام الله، هناك قتل ثلاثة مستوطنين وأصاب رابعًا بعد أن نجح في التسلل إلى منزلهم، لكن قدّر الله ألا يستشهد، فأُصيب بطلقٍ ناري في البطن نُقل على إثره إلى المستشفى وقبل أن يتعافى أُعيد إلى السجن وغرف التحقيق. يُخبرنا والده «عبد الجليل محمد العبد» أن عمر ثأر لشرف المسلمين بعد أن انتهك الاحتلال رمز شرفه وعزته «المسجد الأقصى» ودنسه ومنع أن يُذكر فيه اسم الله بإغلاقه يوم الجمعة وزرع البوابات الإلكترونية على مداخله وأبوابه الـ 15.

رعب الاحتلال من نموذج «عمر العبد»

لم تكن كلمات «عمر العبد» منفذ عملية حلميش التي ضمنها على عُجالة وبأخطاءٍ إملائية وصيته، إلا سهامًا اخترقت حدود الحبر والورق إلى خاصرة مُحتليه، ليُعيدوا النظر في تعاملهم مع الشباب الفلسطيني. وهو ما حذَر منه «جدعون ليفي» الصحفي الإسرائيلي في صحيفة هآرتس، فقال في إحدى كتاباته إن كل ما تقوم به سلطات الاحتلال الإسرائيلي من اغتيالات واعتقالات وهدمٍ للمنازل في القدس والأراضي الفلسطينية عمومًا تؤجج وتيرة الحصاد من قبل الفلسطينيين، وتُعجّل من فرص انتصارهم لحقوقهم، وبيّن أن «عمر العبد» لم يكن إلا واحدًا من الفلسطينيين الذين انتفضوا بدمائهم من أجل الأقصى، كما حذر من تكرار نموذجه في الضفة المحتلة وغزة اللتين لا تقل معاناتهما عن القدس. فيما تخشى «عميره هاس» الخبيرة الإسرائيلية في الشئون الفلسطينية من حضور البعد الديني في هبّة الشباب المقدسي للدفاع عن الأقصى، وشددت على أن الأحداث الأخيرة أظهرت حالة من المقاومة الشعبية ضد إسرائيل، وأشعلت جبهة تأييد كاملة وشاملة للأوقاف الإسلامية وكل المرجعيات الإسلامية هناك، لم تكن لتصل إليها إلا بقوة الإيمان الديني لدى الشباب بأن الأقصى إسلامي فلسطيني بحت لا حق لإسرائيل بذرة من ترابه. إن ما يُقلق إسرائيل فعلًا الدافعية الدينية والعقائدية التي يبدو عليها الشباب المقدسي والفلسطيني عمومًا، والتي أدخلتهم في حيز المواجهة المباشرة مع المحتل بالوسيلة التي يرونها مناسبة، وفي الوقت والمكان المناسبين، بعيدًا عن تنظيم سياسي أو انتماء فصائلي، كما يقول «آساف غيبور» الخبير الإسرائيلي في الشئون العربية بموقع «أن آر جي» العبري:

إن أخطر ما تواجهه في الصراع القائم في المسجد الأقصى دخول شبان صغار إلى دائرته يُريدون التحول إلى شهداء من خلال قتل اليهود.

خط الدفاع الأول عن الأقصى

مِثلُ المحمدين الستة وسابعهم «عمر العبد» كثيرون، لم تُحركهم الأحزاب ولا الفصائل، بل فلسطين وقضيتها العادلة فأخذوا زمام المبادرة، عند أبواب الأقصى الـ 15 كانوا بالآلاف يُدافعون عن الأقصى بصدورهم العارية لا يخشون بطش آلة المحتل، مما شكّل مُفاجأة سارة للمقدسيين أنفسهم والفلسطينيين عمومًا في أرجاء الوطن، فالكل يُجمع على أن الشباب المقدسي آخذٌ في التغير ومُصرٌ على الوعي وعدم التفريط بحقهم في الصلاة والدخول إلى رحاب وساحات المسجد الأقصى أحرارًا بلا بوابات إلكترونية وبلا سطوة التجسس عبر أجهزة المراقبة المختلفة. هنا شاب اكتفى بالتعريف باسمه الأول «عامر» يقول:

لم أكن مُلتزمًا بأداء فرائض الصلاة جميعها في المسجد الأقصى رغم قرب المكان، لكنني اليوم أفعل رفضًا للبوابات الإلكترونية التي تهدف إلى تغيير الوضع التاريخي القائم فيه.
وكشف لـ «إضاءات» أن انتهاك حُرمة الأقصى وحدت صفوف الشباب، حتى أن أحد أصدقائه لم يكن ملتزمًا تمام الالتزام بالصلاة، لكنه منذ 14 يوليو/تموز الجاري انتفض على ضعف إيمانه ولازم الرباط معه على أبواب الأقصى.
الأقصى، يوليو 2017
بدورها «سميحة شاهين»، إحدى المرابطات بجوار الأقصى، أخبرت «إضاءات» أنها لا تكل من الرباط عند باب المجلس، فهو الأقرب إلى بيتها الذي لا تعود إليه إلا قليلًا جدًا، قالت: «نحن أصحاب حق ونُدافع عن عقيدة وآية في كتاب الله»، هذه السيدة لم تترك المسجد الأقصى أبدًا باستثناء سويعات قليلة من نهار يوم 25 يوليو/تموز ذهبت خلالها إلى مستشفى المقاصد لتتلقى جرعة الكيماوي، ومن ثمّ عادت إلى محيط مسجدها عند باب المجلس تتحامل على أنين وألم جسدها علّه يشفع لها حين الانتصار. ولا يختلف عنّها الشاب «محمد سليمان»، فهو يخرج يوميًا من بيته في منطقة باب الغوانمة ليؤدي صلواته في الطرقات والحارات المؤدية لأبواب المسجد الأقصى مع آلاف المرابطين من الشباب والنساء والشيوخ والأطفال، ما يُثلج قلب الشاب أنه يرى الأطياف الفلسطينية جميعها جنبًا إلى جنب موحدة على هتاف «أنا ابن القدس ومن هون مش متزحزح قاعد فيها»، فحين يسمعه يطمئن على مسجده وعلى هوية مدينته الفلسطينية الإسلامية. يقول: «إن التحام الشباب المقدسي للدفاع عن المسجد الأقصى فخر لفلسطين وللأمة العربية والإسلامية التي للأسف خذلته وتركته وحيدًا يُدافع بدمه وما جادت به يده من حجارةٍ وزجاجات حارقة».
الأقصى، يوليو 2017
أما الشاب المسيحي «إياس»، الذي لم يُجاوز عقده الثاني إلا بأعوامٍ قليلة، فهو لا يكف عن الطواف بالماء وبعض أرغفة الخبز، وأحيانًا الحلوى بين جموع المرابطين المحتشدين بالقرب من باب المجلس، بهدف مؤازرتهم ودعم صمودهم والتأكيد على رفضه وجميع مسيحيي القدس لإجراءات الاحتلال، وقال:
لن نقبل بأي تقسيم زماني ولا مكاني للمسجد الأقصى، ولن نقبل بأن يتحكم الاحتلال بأي وسيلة من الوسائل بمن يدخل أو يخرج من المسجد الأقصى.

تُشير تقديرات أطلعتنا عليها دائرة الأوقاف الإسلامية بالقدس إلى أن قرابة 4-5 آلاف شاب من إجمالي 7 آلاف مُصلٍ، يُشاركون يوميًا في الصلوات التي تُقام في محيط المسجد الأقصى عند باب الأسباط أو باب المجلس أو غيرهما، فيما يوضح لنا الشيخ «عكرمة صبري» رئيس الهيئة الإسلامية العليا في القدس وخطيب المسجد الأقصى سابقًا سبب تعاظم تلك الأعداد قائلًا:

وأضاف أن البوابات الإلكترونية التي أراد بها الاحتلال إذلال المقدسيين وكل فلسطيني ومسلم يخطو بقدميه إلى الأقصى وحدت صفوفهم، وأظهرت مدى محبتهم للأقصى واستعدادهم للتضحيات من أجله في صورة تنبضُ بالكرامة والحرية والإيمان.


وحدة القرار وبدايات الانتصار

لم يتوقع الاحتلال الإسرائيلي أن يستمر احتجاج المقدسيين لأيامٍ متتابعة رغم قوة البطش بالسلاح، لكنه فوجئ بحالة من الصمود كان سببها حالة التجاوب الشامل والكامل من الشباب المقدسي مع كل ما تُقرره المرجعيات الإسلامية في القدس. يقول الشيخ «صبري»: «إن صمود المقدسيون وموقفهم الموحد برفض ما يجري من تغيير للوضع القائم في الأقصى، أحدث شرخا وشقاقا في الموقف الإسرائيلي»، ويُشير إلى أن ما يُفسر ذلك حالة التخبط في القرار ومحاولة الالتفاف على انتصار الإرادة الشعبية لأهل القدس بإزالة البوابات الإلكترونية بوضع بدائل لا تقل خطورة عنها. ويؤكد الشاب «عبد الرحمن غيث»، من البلدة القديمة بالقدس، أن الاحتلال بينما كان يُزيل البوابات الإلكترونية من جهة، كان يُعمل خرابه في تراث الأقصى عند باب الأسباط بقطع الأشجار وخلع البلاط والحفريات، وقال: «لن نستسلم وأي التفاف على قرار المقدسيين الذي يستمدونه من المرجعيات الإسلامية بائس وغير ناجح ومرفوض تمامًا»، وأضاف: «يا مثل ما قبل 14 يوليو يا لا، لا لأنصاف الحلول».


انتصارٌ آخر في باب الأسباط

إن التقاعس العربي والإسلامي وتشرذم القيادة الفلسطينية بين انقسامٍ ومصالحة مكذوبة سبب رئيسي في عفوية الحراك الشبابي.
وفي مرحلة أخرى من انتصار الإرادة الشعبية لقُدسية وحرية المسجد الأقصى ومع انتصاف ليلة الأربعاء – الخميس دوى خبر تفكيك الاحتلال الجسور والممرات الحديدية عند باب الأسباط، والتي كان قد أبقى عليها بعد إزالة البوابات الإلكترونية عاليًا.
الأقصى، يوليو 2017
يُخبرنا «أحمد»، أحد المرابطين الذين تواجدوا في محيط باب الأسباط، أن الاحتلال بدأ فك الجسور والممرات الحديدية وسحبها خارج حدود المسجد الأقصى ما أبهج المُصلين الذين كانوا يبتهلون بالدعاء ويستعدون لأداء صلاة الفجر، المشهدُ كما وصف لنا وتابعناه عبر البث المباشر في صفحات القدس المتخصصة على «فيس بوك» بدا عظيمًا، فلم تكف حناجر المقدسيين عن التكبير والهتاف بالنصر والحرية للقدس وأهلها وللمسجد الأقصى. الكل كان فرحًا بالنصر الذي حققته الإرادة الشعبية بالتفافها حول قرارٍ واحدٍ وموحد للمرجعيات الإسلامية في القدس، قال «أحمد» لـ «إضاءات» ودمع النصر لعثم صوته:
نعم لقد تراجع الاحتلال مُجددًا، وكما أزال البوابات الإلكترونية قبل أيام أزال الجسور والممرات المعدنية من منطقة باب الأسباط.
الأقصى، يوليو 2017
مؤكدًا أنّه وكل المقدسيين سيستمرون في ندائهم بإزالة جميع إجراءات الاحتلال والعودة للوضع القائم قبل 14 يوليو/تموز، بما يعني إزالة الكاميرات من داخل المسجد الأقصى وكذلك إزالة الجسور جميعها خارج حدود المسجد الأقصى كله، وليس في منطقة الأسباط وحسب، ناهيك عن إعادة مفاتيح أبواب الأقصى للأوقاف الإسلامية للعمل على فتحها وإدارتها بالكامل بعيدًا عن أي سلطة احتلالية، ورفع المنع عن القائمة الذهبية للمرابطات.
الأقصى، يوليو 2017
الأقصى، يوليو 2017