يومًا بعد آخر تتوالى الأنباء عن قتل واستهداف رجال الأمن السعوديين على أيدي إرهابيين مسلحين في المناطق التي يقطنها الشيعة شرقي المملكة، خاصة في بلدة العوامية بمحافظة القطيف، وبينما أكدت المملكة مرارًا وتكرارًا عزمها على مواجهة الإرهاب بتلك المناطق، وخرجت الإدانات الخليجية والعربية المنددة باستهداف عناصر الداخلية السعودية.

بدا على الجانب الآخر من الصورة الحديث عن المجازر الدموية التي تقوم بها المملكة ضد الشيعة من مواطنيها واستهدافها العمدي لهم بالقذائف والرصاص الثقيل، وتهجيرهم من منازلهم قسرًا وكأننا لسنا في تلك المملكة الخليجية الآمنة، بل في نموذج جديد من سوريا والعراق واليمن!

في ظل هذه الحالة من التناقض في الروايات بشأن الأوضاع هناك شرقي المملكة، والتعتيم الإعلامي المتعمد من قبل الرياض على حقيقتها، توالت الأنباء عن اشتباكات عنيفة دارت مؤخرًا بين القوات السعودية ومواطني العوامية، أسفرت عن سقوط العديد من القتلى من أبناء تلك البلدة، الأمر الذي أشارت إليه صحيفة الإندبندنت البريطانية، واصفةً إياه بغير المسبوق في تاريخ المملكة.


العوامية: ماذا تخفي هذه البلدة المليئة بالأسرار؟

عانت العوامية تلك البلدة ذات الأغلبية الشيعية منذ مايو/أيار الماضي من حملة أمنية مكثفة شنتها القوات السعودية بهدف إزالة حي يُدعى «حي المسورة» تحت دعوى أنه أصبح ملاذًا للمسلحين الشيعة ويتحصّن فيه عددٌ من الإرهابيين لاستهداف أفراد الأمن السعوديين، وهو الأمر الذي رفضه سكان المدينة، وأكدوا أنه اعتداء سافر على إرادتهم كونهم أقليّة، ورفضوا بدورهم مُغادرة الحي.

فما كان من السلطات السعودية، إلا أن أطلقت حملة أمنية كبيرة لهدم الحي وإخلائه من السكان، حيث استقدمت خلالها عددًا كبيرًا من رجال الأمن للإشراف على أعمال الهدم، الأمر الذي تطور مؤخرًا إلى اندلاع اشتباكات دامية بين مواطني البلدة وقوات الأمن، وصلت إلى ما تُشبه الحرب!

في مثل هذا السياق من التهجم السعودي على أبناء المدينة عمدت الرياض إلى التغطية على تلك الأحداث إعلاميًا عبر منع وسائل الإعلام الأجنبية من تغطية الحدث إلا في أضيق نطاق، وفي ظل وجود مرافقين من الحكومة السعودية، مما أدى إلى إعاقة القدرة على التأكد مما أسفرت عنه تلك الاشتباكات من تداعيات، إلا من خلال وسائل الإعلام السعودية والتي أشارت بدورها إلى سقوط العديد من القتلى في صفوف رجال الأمن فيما لم تُخرج أرقامًا أو بيانات رسمية بشأن من سقطوا من أهل المدينة، سواء من المدنيين أو المسلحين.

وعلى الرغم من ذلك أشارت صحيفة الإندبندنت في تقرير لها إلى أن عدد القتلى في صفوف المدنيين وصل إلى ما لا يقل عن 25 شخصًا جراء قصف المدينة وإمطارها بنيران القناصة والإطلاق المتواصل للقذائف من قبل قوات الأمن.

كما رسمت الصحيفة ذاتها صورة للأوضاع بداخل العوامية، ومعاناة السكان بها، أشارت خلالها إلى أن المتظاهرين والمحتجين على ممارسات القوات السعودية قد تحولوا في نظر الدولة إلى إرهابيين لا بد من استهدافهم وإلقاء القبض عليهم، كذلك أشارت إلى وجود حالة من الحصار الدائم نتيجة المخاوف لدى السكان من استهدافهم برصاص القناصة، الأمر الذي وصل إلى خشيتهم من مغادرة منازلهم.

وفي مقابل ذلك نفت الرياض صحة هذه التقارير والاتهامات الموجهة إليها باستهداف المدنيين مؤكدةً أن خروج أعداد كبيرة من سكان العوامية جاء بناء على رغبتهم في المغادرة بعيدًا عن الاشتباكات بين المسلحين وقوات الأمن، مشيرةً إلى أن المملكة قد وفرت لهم سُبل الراحة من السكن البديل والمساعدات.


تناقض في الروايات: فماذا عن الدوافع؟

وفق ما نشرته صحيفة الإندبندنت البريطانية فإن ما يزيد عن عشرين شخصًا لقوا حتفهم شرقي المملكة بنيران قوات الأمن

في ظل هذا التناقض في الراويات بشأن الأوضاع في العوامية، كان لابد من التساؤل حول الهدف من شن المملكة لمثل تلك الحملات الأمنية العنيفة، إذ إنه طبقًا للرواية السعودية فإن الهدف منها كان تطوير العوامية والقبض على المطلوبين بها، إلا أن ما آلت إليه الأوضاع من تدهور واستهداف للمدنيين لا يشير إلى أن ذلك كان الهدف الحقيقي!

ويمكن الإشارة إلى عدد من الدوافع المحتملة التي وقفت وراء هذا التصرف الحكومي وفي مقدمتها رغبة المملكة في بسط سيطرتها الأمنية على تلك المنطقة التي كانت ومازالت نقطة الضعف التي تخشاها السلطات، إذ يقطنها نحو 30 ألف شخص معظمهم من الشيعة، وانحدر منها رجل الدين الشيعي نمر باقر النمر، الذي أعدمته السلطات السعودية قبل أعوام، على خلفية اتهامه بتأجيج الاضطرابات بالمملكة في أعقاب الربيع العربي عام 2011.

لطالما كانت بلدة العوامية مصدر فزع للسلطات السعودية حيث التمرد الشيعي السلمي أحيانًا والمسلح أحيانًا أخرى، وحان وقت تسويتها مع الملك الجديد

اقرأ أيضًا:سباق الإعدامات بين السعودية وإيران في السنوات الخمس الأخيرة

كذلك تعد البلدة محطة رئيسية من المحطات المزعجة للسلطات السعودية، فعادة ما تشهد العديد من الاحتجاجات والتظاهرات والانتقادات من قبل الشيعة على خلفية تهميش النظام لهم وحرمانهم من المناصب والوظائف المهمة في الدولة، صحيح أن الأوضاع تهدأ بين الحين والآخر إلا أن المُكوِّن الشيعي يظل صداعًا في رأس المملكة.

فلم تكن تلك هي المرة الأولى التي تنطلق خلالها الاحتجاجات والتظاهرات ضد المملكة، إذ سبقها العديد من التظاهرات والاشتباكات كان أبرزها ما وقع عام 2011، إذ تظاهر آلاف الشيعة للمطالبة بالإصلاح والديمقراطية في أعقاب الربيع العربي، فيما عادت المواجهات في السنوات التالية حتى عام 2016، وسقط على إثرها عشرات القتلى والجرحى في صفوف الطرفين.

في الإطار ذاته أشار عدد من المحللين إلى أن تلك الحملة الأمنية وعمليات الهدم تأتي في توقيت مُتعمّد تُصعّد فيه المملكة في ظل ولي العهد الجديد محمد بن سلمان ضد الشيعة، الأمر الذي يمثل في حال نجاح العملية الأمنية انتصارًا كبيرًا لصالح ابن سلمان عبر تخلصه من النفوذ الشيعي في تلك المنطقة، والقضاء بالتبعية على النفوذ الإيراني بها.

وأخيرًا، فتلك الحملة تلقي بظلالها على أحدث صفقات السلاح بين السعودية ودول العالم المختلفة، حيث أشار عدد من المحللين إلى أن السبب في كشف تلك الأحداث رغم التعمد السعودي في التغطية عليها هو صفقة مدرعات ترغب المملكة في عقدها مع كندا بقيمة 15 مليار دولار، إلا أنها قوبلت بالرفض من قبل جهات في الداخل الكندي أكدت أنها لا تسمح باستخدام أسلحتها في مواجهة المدنيين، الأمر الذي سلطت وسائل الإعلام الضوء عليه، وتوالت على إثره الانتقادات الدولية لتلك الحملة السعودية على شيعتها إلى الشرق منها.