في عام 816هـ، بدأت ثورة بابك الخرمي ضد الدولة العباسية، ولم تستطع جيوش الخلافة آنذاك القضاء عليها إلا بعد 20 عامًا، استطاعت خلالها الحركة ضم أتباع ورقع جغرافية مثلت تهديدًا حقيقيًا لدولة بني العباس وزعزعت استقرارها.

يذكر محمد مصطفى هدارة في كتابه «المأمون.. الخليفة العالم»، أن حركة البابكية هي نتاج للعقائد التي بشر بها أتباع عبد الرحمن بن مسلم الخراساني وتلميذه هاشم بن حكيم المقنع (قاد ثورة شعبية في خراسان عام 776)، والقائلة بتناسخ الأرواح وتجسد الذات الإلهية في أشخاص.

وابن مسلم الخراساني، صاحب الدعوة العباسية في خراسان، وكان واليها، وهو حسب روايات أتباعه واحد من أحفاد آخر الأكاسرة يزدجرد الثالث، والذي تنبأ بدوره بعودة الحكم لأحفاده. ومع قيام الدولة العباسية ارتفعت مكانة أبي مسلم وكان محبوبًا من أتباعه، والتف حوله الفرس والموالي لاعتقادهم أنه من أحفاد آخر ملوك فارس، لذا خشي منه الخليفة أبو جعفر المنصور وقتله.

وبحسب هدارة، بُعثت أفكار أتباع أبي مسلم الخراساني على يد بابك الخرمي، الذي ظهر في قرية بشمال بلاد فارس تسمى «البذ»، واجتمع حوله خلق كثيرون، واتسع سلطانه، حتى أوشك أن يعزل المقاطعات الفارسية عن العرب.

ويذكر أبو سعد السمعاني في كتابه «الأنساب»، أن كلمة الخرمي منسوبة إلى طائفة من الباطنية يقال لهم «الخرمدينية»، وهم قوم يبيحون المحرمات من الخمر وسائر اللذات ونكاح ذوات المحارم، وفعل ما يتلذذون به.

أما ابن النديم فيشير في «الفهرست»، إلى أن الخرمية صنفان: الخرمية الأولون، ويسمون «المُحمرة»، وهم منتشرون بنواحي الجبال فيما بين أذربيجان وأرمينيا وبلاد الديلم وهمذان ودينور، وفيما بين أصفهان وبلاد الأهواز، وهؤلاء أهل مجوس في الأصل.

ويقصد ابن النديم بهؤلاء أصحاب مزدك بن موبذان، الذي أمر أتباعه باقتراف اللذات والعكوف على الشهوات والأكل والشرب، ومع هذا يميلون لفعل الخير وترك القتال.

أما الصنف الثاني، فهم الخرمية البابكية، وصاحبهم بابك الخرمي والذي كان يقول لمن استغواه «إنه إله»، وأحدث في مذاهب الخرمية القتل والغصب والحروب، فكأن ثورته ضد الخلافة العباسية ثورة عقائدية تريد أن تطيح بالإسلام، وتقوض أركان المجتمع بما تحدث فيه من آراء هدامة، بحسب ابن النديم.

ويذكر «هدارة»، أن الخليفة عبدالله المأمون (786 – 833) لم يتوان عن قتال الخرمية، ولكن جميع قواده الذين أرسلهم لقتال بابك قُتلوا أو وقعوا في الأسر، ولهذا أوصى عند موته أخاه المعتصم بالله (796- 842) باستئصال الخرمية.

ثورة اجتماعية لا دينية

ويتبنى بندلي جوزي في كتابه «من تاريخ الحركات الفكرية في الإسلام»، وجهة نظر معاكسة، مفادها أن الغرض من الحركة البابكية لم يكن مقاومة الإسلام وذويه، ولا مقاومة العرب، كأمة قائمة منتصبة، كما كان الحال في أكثر الثورات السابقة لحركة بابك في بلاد العجم، بل محاربة ذلك النظام الاجتماعي الذي كانت تئن تحته الطبقات السفلى من جميع الأمم التي كانت تتألف منها وقتئذ دولة بني العباس، حتى الأمة العربية نفسها، وإن لم تشترك أبناء هذه الأمة فعلًا في الثورة البابكية.

من هذا المنطلق، كان بابك وأتباعه يرمون إلى هدم ذلك النظام المستند على أصحاب الأملاك ورؤساء الدين والجيوش المسخرة المأجورة، وإبداله بنظام جديد ليس فيه طبقات ولا نزاع مستمر بينها، ولا ظالم ولا مظلوم، ولا غني ولا فقير، ولا سيد ولا عبد، بنظام مبني على العدل والإخاء والمساواة.

الرأي نفسه يذهب إليه حسين قاسم العزيز في كتابه «البابكية.. الانتفاضة ضد الخلافة العباسية»، حيث يذكر أن الخرمية فرقة دينية متطورة عن المزدكية (نسبة إلى مزدك)، تؤمن بصراع الخير (إله النور) مع الشر (إله الظلمة)، وذات برامج اجتماعية ثورية محدودة تدعو إلى توزيع الأراضي على الفلاحين، وتعميم الاستفادة من المنافع العامة على الجميع، وتحرير مركز المرأة من المكانة المتدنية التي وصلت إليها، وتدعو إلى مقاومة الظلم والاستغلال، بالامتناع عن إطاعة الإقطاعيين والسلطة، ورفض الضرائب، وكان الفلاحون يمثلون الغالبية العظمى من منتسبي الفرقة.

وبحسب «العزيز»، عبّرتْ الخرمية عن سخطها واحتجاجها على الظلم الصارخ بسلسلة من الانتفاضات العارمة، كانت الحركة البابكية إحداها.

كفرة وقطاع طرق وإباحيون

ويذكر «العزيز»، أنه نتيجة نضالها المرير وكفاحها الطويل وخطرها الجسيم، وُجهت نحو البابكية أقبح النعوت والصفات، فاتهم البابكيون بالإباحة والدعارة والفسق، وأنهم دعوا إلى مشاعية النساء ونهب الأموال، وأنهم قتلة سفاكون ومجرمون قطاع طرق حيث ينهبون ويحرقون البيوت في القرى والمدن، ويسلبون المارة والمسافرين والحجاج، ويقولون بتناسخ الأرواح وبالحلول (حلول جزء من الآلهة في شخص ما) وبالرجعة، وهم ملاحدة زنادقة كفرة.

ورغم أن قسمًا من المؤرخين العرب والمسلمين زار مناطق الخرمية واحتك وناقش الموجودين منهم، إلا أن كتاباتهم تحتوي على تهم وأباطيل، بحسب «العزيز» الذي ينقل عن أبي الحسن المسعودي في «التنبيه والأشراف» أن البابكية كانوا ينتظرون عودة الملك فيهم وخلع الإسلام، وعن المطهر بن طاهر المقدسي في «البدء والتاريخ» قوله عن بابك «وأخذ بالتمثيل بالناس والتحريق بالنار والانهماك بالفساد وقلة الرحمة والمبالاة».

ويذكر «العزيز»، أن المقدسي ذكر عن الخرمية أنهم قوم مسالمون يتحرون النظافة والطهر، لكنه لا يتورع عن اتهام بابك بسفك الدماء حتى أوصل عدد ضحاياه إلى مليون، ثم تراجع قليلاً وجعلهم أكثر من ربع مليون.

ولا يكتفي المقدسي بهذه التهمة، فيوجه إليه تهمة الفسق والفجور والاعتداء على أعراض أسراه «وكذا كان الملعون يفعل بالناس إذا أسرهم مع حرمهم»، حسبما نقل العزيز.

وينقل «العزيز» عن عبد القاهر البغدادي في «الفرق بين الفِرق»، قوله إن دعوة بابك كانت تدعو إلى استباحة المحرمات، وأنه كانت «للبابكية في جبلهم ليلة عيد يجتمعون فيها على الخمر والزمر وتختلط فيها رجالهم ونساؤهم، فإذا أطفئت سرجهم ونيرانهم افتض فيه الرجال النساء على تقدير من عز بز»،

ويذهب «العزيز» إلى أن كتابات مؤرخي العصور الوسطى اتسمت بالطابع المعادي للانتفاضة البابكية، لأن المؤرخين كانوا يكتبون ما يلائم أذواق الحكام والأمراء وذوي اليسار من الناس، وهؤلاء هم الذين يكرمون الكُتاب على مؤلفاتهم، وكان لخوف المؤرخين من السلطة ولانحدارهم الطبقي ولعدم تعرفهم على الأساس الحقيقي لانتفاضات الجماهير، كان لكل ذلك أثر في موقفهم المعادي من الانتفاضات، فكانوا يتهمونها بشتى النعوت والصفات الكريهة، ويلحقون بها تهمًا وأباطيل لكي يبرروا قساوة السلطة عند التنكيل والبطش بالشعوب المنتفضة، وكانت أقوى حجة دامغة وأكبر ذريعة هي اتهام المنتفضين بمقاومة الدين الإسلامي والعنصر العربي والأخلاق الفاضلة.

ويرى «جوزي» في كتابه، أن من كالوا الاتهامات للحركة تناسوا سرعة نشر دعوة بابك بين الطبقات والأمم، وكان مرد ذلك لأسباب عدة منها أفعال بابك وأشياعه يوم كانت القوة في أيديهم، وهو ما رصده أقوال مؤرخي العرب أنفسهم الذين ذكروا أن البابكيين كانوا يعاملون أسراهم ولا سيما العساكر منهم بالحسنى، فكانوا غالبًا يطلقون سراحهم على شرط أن لا يشتركوا مرة أخرى في قتالهم، وذكروا أنهم كانوا يحسنون معاملة نساء أعدائهم وأولادهم ممن كان يقع في أيديهم أيام الحرب حتى لو كانوا من طبقة الدهاقين (ملاك الأراضي) والقواد.

وينقل عن أبي جعفر الطبري في «تاريخ الأمم والملوك»، أنه لما أُسر بابك وجيء به مع أخيه إلى بغداد للمحاكمة «كانت النساء اللواتي أطلقهن قبلًا من الأسر يضربن وجهوهن ويبكين»، حزنًا وشفقة عليه، فلما سألهن حيدر الأشفين عن سبب بكائهن أجبنه بأن بابك «كان يحسن إلينا».

أما عن معاملة بابك وأشياعه لأصحاب الدين الإسلامي ونظرهم إلى الدين الإسلامي، فهناك أدلة كافية تشهد بتساهلهم الديني، ومجاملتهم لأصحاب الدين، فقد ذكر عبد القاهر البغدادي في «الفرق بين الفرِق»، وهو عدو البابكيين الألد، أن بابك وأتباعه –وأكثرهم على دين زرادشت– لم يمنعوا المسلمين المقيمين بينهم من التمسك بدينهم وإقامة شعائرهم علنًا، بل كانوا يساعدونهم على بناء مساجدهم «حيث كانوا يؤذنون».

زوال هيبة العباسيين

أيًا كان الأمر، فإن الحركة لم تكن لتشتعل ضد الخلافة العباسية دون عوامل مهدت لذلك. يذكر خالد عزام في «موسوعة التاريخ الإسلامي / العصر العباسي»، أن بابك استغل الأوضاع المتردية في أذربيجان وأرمينيا (كانتا مقاطعة واحدة قبل خروج بابك) بسبب إعلان واليها حاتم بن هرمثة العصيان بعد قتل والده هرثمة بن أعين في حضرة الخليفة المأمون في مرو، فأعلن بابك حركته عام 816، وأخذ في العبث والفساد وقتل من حوله في الأمصار المجاورة لتصفو له البلاد.

ويرى «جوزي» في كتابه المذكور آنفًا أسبابًا أخرى، منها أن حركة بابك كانت نتيجة عوامل اجتماعية وسياسية ظهرت في أواخر الجيل الثامن والتاسع في مملكة بني العباس عامة، وفي أذربيجان خاصة، وهي عوامل كان لها تأثيرها في زوال هيبة السلطة الحاكمة، أو كادت تزول في نفوس الأمم الغريبة كالفرس والترك أو غير المسلمة كالقبط والسريان والأرمن، بل وفي عيون العرب أنفسهم، فسقطت منزلتهم الأدبية إلى درجة أصبح معها رعاياها لا يقيمون لها وزنًا، ولا يسحبون لقوتها حسابًا.

وظهر ذلك في تعدد الثورات والغرض الذي أخذت ترمي إليه، وهو الانفصال التام عن جسم الخلافة العباسية وتأليف ممالك أو إمارات مستقلة، ومنها الجمهورية التي حاول بابك أن يخلقها في جبل قراطاغ.

وينقل جوزي عن أحمد بن يعقوب في كتابه «تاريخ اليعقوبي»، أن عمال الخليفة الكبار في أذربيجان هم الذين أوعزوا إلى بابك بالخروج على سلطانهم واعدين إياه بالمساعدة، وكان من بين المحرضين حاتم بن هرثمة زعيم تلك العائلة الكبيرة، حيث كان واليًا للخليفة على أرمينيا وأذربيجان، انتقامًا لأبيه هرثمة الذي قتله المأمون سنة 820.

أما الظروف المناسبة التي رافقت هذه الحرب الطويلة، فتمثلت في اشتغال جيش الخليفة المأمون في ذلك الوقت بإخماد الثورات التي استعرت نارها في العراق ومصر وبلاد العرب، وكذلك رد هجمات جيش الروم الذي اجتاز الحدود، بعد أن غزا وهدم قلعة «زبطرا» سنة 821، وأخذ يتغلغل في دار الإسلام وبالأخص في أرمينيا الممالئة له، والتي كاد يحتلها كلها وصار يتصرف بها وبأمرائها كما كان يتصرف ببلاده وسكانها.

انتشار الحركة البابكية

على كلٍ، توسعت الحركة البابكية في أقاليم عديدة، شملت أذربيجان –موطنها الأصلي– وفي الجزء الشرقي من أرمينيا، وفي الشمال الغربي من إيران، فضمت أجناسًا مختلفة وأقوامًا متعددة من إيرانيين وعرب وأكراد وأرمن وأذربيجان، قاموا كلهم بانتفاضة مسلحة بوجه الخلافة العباسية.

وبحسب عزام، استطاعت الحركة البابكية الوقوف فترة ليست بالقصيرة في وجه الخلافة العباسية لأسباب عدة، منها تعيين ولاة ضعاف، مثل يحيى بن معاذ بن مسلم على أرمينيا وأذربيجان، وفشله في مواجهة الحركة، وكذلك تكليف قواد عسكريين غير مخلصين للعباسيين، أو تنقصهم الكفاءة العسكرية أو الإدارية، مثل عيسى بن محمد بن أبي خالد، أو تعيين قواد آخرين بغرض إبعادهم مع قواتهم عن المناطق القريبة من العاصمة بغداد، بعد أن اشتركت في حروب سابقة ضد الخليفة المأمون، وبالتالي لم تواجه هذه القوات الحركة البابكية كما ينبغي.

ويضاف إلى ذلك انشغال والي أذربيجان وأرمينيا زريق الأزدي بالحروب مع والي الموصل السيد بن أنس الأزدي من أجل السيطرة والنفوذ، ما أدى إلى إهمال الوالي الأول للتصدي للحركة.

وفي عام 833، اُستخلف المعتصم، الذي عين قوادًا قديرين لإدارة المعارك مع الحركة البابكية كالأفشين الأشروسني، والذي تمكن من إلحاق عدة هزائم بالحركة والسيطرة على قلعتهم المنيعة المسماة بـ«البذ»، إلا أن بابك استطاع الهرب مع بعض أتباعه عام 837، لكن قُبض عليه فيما بعد، واقتيد إلى سامراء، وحُمل على الفيل لإشهاره بين الناس، ثم أُعدم.

إمبراطور الروم ومساندة البابكيين

منذ قيام الحركة البابكية حتى إخمادها، كان الروم حاضرين بقوة ومساندين لها عبر مراحلها. يذكر «جوزي»، أن بابك وأتباعه بدؤوا يفكرون بالخروج على خلفاء بغداد ويهيئون للثورة أسبابها منذ أمد بعيد قبل اندلاعها، وأنهم كانوا ينتظرون الفرصة المناسبة لإعلان الحرب على الخلافة، فجرت مخابرات سرية بين بابك وإمبراطور بيزنطة ميخائيل الثاني (820 – 829) ثم ابنه الإمبراطور تيوفيل (829- 843)، ويرجح أيضًا أن هذا التواصل بدأ قبل الثورة.

وطلب بابك من إمبراطور الروم أن يمده بجيوشه، أو أن ينضم إليه بنفسه في هذه الحرب التي كان يرجى منها خير لهما جميعًا، إن انتهت بسقوط عدوهما الألد.

وظهر هذا الدعم البيزنطي في أبرز صوره عندما ساءت أمور بابك بعد عشرين سنة صرفها في مقاومة جيش الخلافة، فبرز لمساعدته إمبراطور الروم، وحاول بمناورته على الحدود العربية أن يصرف قسمًا كبيرًا من جيش الخليفة المرابط في أذربيجان عن بابك، كما أن قسمًا كبيرًا من البابكية اجتازوا الحدود البيزنطية بعدما قُبض على بابك، ونزلوا أرض الروم على الرحب والسعة، وهناك تنصروا.