في أواخر العصر الأموي نشطت بعض الفرق الدينية الشيعية التي غالت في أفكارها، واستندت في ذلك إلى تأويلات وتفسيرات خاصة بها للقرآن الكريم، وكان من بينها فرقة «البيانية» التي ادعى صاحبها النبوة وبعد ذلك صبغ عليه أتباعه الألوهية.

ظهور «البيانية» لا يمكن عزله عن سياق تاريخي ارتبط بموت محمد بن الحنفية سنة 80هـ، ووقتها ظهر فريق لم يعترف بموته واعتقد أنه حي يُرزق لكنه اختفى، وأنه المهدي الذي سيرجع ليملأ الأرض عدلًا، وبالغوا في صفاته، أما الفريق الثاني فقطع بموته ونقل الإمامة إلى ابنه أبي هاشم عبدالله، وهؤلاء هم «الهاشمية» الذين يمثلون الأغلبية من أتباع ابن الحنفية، حسبما ذكر فارق عمر فوزي في كتابه «نشأة الحركات الدينية في الإسلام».

البيانية والهاشمية

اعتقدت الهاشمية أن روح الله حلّت في الأئمة اعتباراً من علي بن أبي طالب حتى أبي هاشم عبدالله، كما ادعت أن لكل ظاهر باطن، ولكل تنزيل تأويل، وأن العلم الإلهي الذي استأثر به الإمام علي ابنه محمد بن الحنفية انتقل إلى أبي هاشم بعد أن أفضى به إليه أبوه محمد الحنفية، وكل من اجتمع فيه هذا العلم فهو الإمام حقاً.

غير أن حركة الهاشمية تعرضت إلى سلسلة من الانشطارات داخلها، فانشقت عنها فرق عديدة خالفتها في شخص الإمام بعد موت أبي هاشم عبدالله سنة 98هـ، وأضافت إلى فكرة الغلو مسائل جديدة خارجة عن دائرة الإسلام الصحيح، وكان من بين هذه الفرق «البيانية».

وبحسب «فوزي»، تُنسب البيانية إلى بيان بن سمعان التميمي الذي زعم أنه وصي أبي هاشم عبدالله، وقال بالحلول، بمعنى أن روح الله حلت في علي بن أبي طالب ثم في ابنه محمد ثم في ابنه أبي هاشم ثم في بيان.

ويرى «فوزي»، أن ادعاء الوصية استُغل من قبل الطموحين الغلاة آنذاك، لتنصيب أنفسهم زعماء وأئمة وجبت طاعتهم، وأضفت الصفة الشرعية عليهم.

ويبدو أن حركة بيان في بداية الأمر كانت سرية خاصة في عهد الحجاج بن يوسقف الثقفي، ثم أظهرها في ولاية خالد بن عبدالله القسري على الكوفة (105هـ / 119هـ)، وبعد فترة انتقل من الوصية إلى الادعاء بالنبوة، ثم– على حد قول بعض الروايات– بالألوهية.

واستغل بيان مبدأ التأويل الذي اعتقدت به الهاشمية، ففسر آيات القرآن الكريم لتأييد حركته وفق مقتضيات الموقف السياسي، فما دام أبو هاشم أوصى له ونصبه إماما بالنص، وأن روح الله قد حلت فيه، فإن من حقه وحده تأويل القرآن.

نظرية خلق القرآن

يذكر الدكتور محمد جابر عبدالعال في كتابه «حركات الشيعة المتطرفين وأثرهم في الحياة لاجتماعية والأدبية لمدن العراق إبان العصر العباسي الأول»، أن بيان بدأ نشاطه باشتراكه في حركة أحدثها الجعد بن درهم في الكوفة، الذي أنكر ما جاء في القرآن حول صفات الله، وقال إن القرآن مخلوق، على أن هذه النظرية لم تحدث الدوي الذي كان يُنتظر لها، غير أنها أقامت العالم الإسلامي وأقعدته في القرن الثالث الهجري.

وقد يستدل على اتجاه الجعدي من خطاب خالد القسري والي الكوفة يوم عيد الأضحى، إذ قال للناس «من كان منكم يريد أن يضحي فلينطلق فليضح، فبارك الله في أضحيته، فإني مضح بالجعد بن درهم، زعم أن الله لم يكلم موسى تكليماً ولم يتخذ إبراهيم خليلاً، سبحان الله عما يقول الجعد وتعالى علواً كبيراً»، ثم نزل إليه فذبحه عام 105هـ.

أياً كان الأمر، فقد انتقل بيان إلى وضع مذهب نُسب إليه، فاعتقد أن إله السماء غير إله الأرض، وأنهما مختلفان، وأن إله السماء يفنى جميعه إلا وجهه، ذاهباً إلى أن القرآن يؤيده في ذلك في قوله تعالى «ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام»، وأضاف أتباعه إلى ذلك أن هذا الإله من نور.

آراء بيان بن سمعان

ويذكر الدكتور علي سامي النشار في الجزء الثاني من كتابه «نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام»، أن بياناً كان «تباناً» في الكوفة، أي يعمل في تعبئة التبن وبيعه، وكان تلميذاً لحمزة البربري، أحد غلاة الشيعة، حيث أخذ منه فكرة قدسية الإمام، ونبوة وكيله.

وبحسب «النشار»، من الخطأ القول إن الغلاة اعتبروا الأئمة آلهة، وإنما قالوا بحلول جزء إلهي في الإمام فهو شخص مقدس مصون. لذا ذهب بيان إلى تجسد نوع من القداسة في أبي هاشم، فلما مات أبو هاشم أعلن بيان أن أبا هشام أعلنه نبياً.

وبعد إعلان نبوته، أرسل بيان إلى الإمام الباقر أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين يدعوه إلى نفسه وإلى الإقرار بنبوته، وقال له «أسلم تسلم، وترتق في سلم، وتنتج وتغنم، فإنك لا تدري أين يجعل الله النبوة والرسالة، وما على الرسول إلا البلاغ، وقد أعذر من أنذر».

واتخذ بياناً اتخذ التفسير الباطني للقرآن أساساً لدعوته، ففسر الآية «هذا بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين»، بأنه هو البيان المقصود، وقال «أنا البيان، وأنا الموعظة».

غير أن أهم فكرة نادى بها هي التشبيه ثم التجسيم. يشرح «النشار»، أن سمعان كان يرى أن لله تعالى أعضاء وجوارح، ثم شبه الله بإنسان نوراني ذي جسد، فقال «إن الله الأزلي رجل من نور، وهو على صورة إنسان عضواً فعضواً جزءاً فجزءاً هو يُهلك له إلا وجهه» مأولاً في ذلك الآية «كل شيء هالك إلا وجهه».

ولم يكتف بيان بالقول إن علي بن أبي طالب حل فيه جزء إلهي واتحد بجسده، وهذه فكرة مسيحية، لكنه أيضاً ذكر أنه كان يعلم الغيب ويخبر عن الملاحم وأن ما أخبر به ثبتت صحته، وأنه كان يحارب الكفار بعلمه الغيبي وله النصرة والظفر. وفي سياق ذلك، ذكر بيان ما رُوي عن خلع علي لباب حصن خيبر سنة 7هـ – وهي قصة مثار خلاف بين المؤرخين – ويورد حديثاً لعلي يقول فيه «والله ما قلعت باب خيبر بقوة جسدانية، ولا بحركة غذائية، ولكن بقوة ملكوتية بنور بها مضيئة».

ويفسر بيان بن سمعان القوة الملكوتية في نفس علي بن أبي طالب كالمصباح في المشكاة، والنور الإلهي كالنور في المصباح، وبهذا يفسر تفسيراً غنوصياً فكرة نور المشكاة القرآنية المشهورة. ويمضي بيان في التفسير مؤيداً للتجسد، فيقول إن علياً الذي حل فيه جزء إلهي يظهر في بعض الأزمان، وهو الذي يأتي في ظلل الغمام، والرعد صوته والبرق تبسمه، ويؤيد قوله بالآية القرآنية «هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام».

ثم ادعى بيان الحلول أو بمعنى أدق ادعى هذا أتباعه من بعده، فـ«ذكرت البيانية أن روح الله دارت في الأنبياء والأئمة حتى انتهت إلى علي، ثم دارت إلى محمد بن الحنفية، ثم صارت إلى ابنه أبي هاشم، ثم حلت بعده في بيان بن سمعان»، بحسب ما ذكر عبدالقاهر البغدادي في كتابه «الفرق بين الفرق».

ويرى «النشار»، أنه ربما أُدخلت فكرة التناسخ بعد ذلك في عقائد البيانية، فانتقل إلى بيان الجزء الإلهي بنوع من التناسخ، ولذلك استحق أن يكون إماماً وخليفة، وذلك الجزء الذي استحق به آدم سجود الملائكة.

فبيان إذن حلولي يدين بدورة الحلول، وهي فكرة مسيحية غنوصية، وهو يفسر بها قصة سجود الملائكة لآدم التي وردت في القرآن الكريم، ثم تكونت الفرقة السمعانية بعد ذلك وقالت بنبوته أو بألوهيته واعتنقت التناسخ.

وعلى يد بيان ظهرت فكرة «الاسم الأعظم»، إذ كان يزعم أنه يعرف هذا الاسم، وأنه يهزم به الجيوش، ويدعو به الزهرة فتجيبه. وبحسب «النشار»، أخذت هذه الفكرة مكاناً كبيراً لدى الصوفية من بعد بيان، وهذا واضح لدى المتصوفة سهل بن عبدالله العسكري والحلاج وذي النون المصري وغيرهم.

ولما رأى خالد بن القسري والي الكوفة، أن أمر بيان استفحل وأن طائفة اجتمعت عليه ودانوا بمذهبه، قبض عليه هو وخمسة عشر رجلاً من أتباعه، وشدهم في عيدان القصب وألهب فيهم النار، وقد أفلت منهم بيان، ثم التفت فرأى أصحابه يحترقون، فكّر راجعاً إلى أن ألقى نفسه في النار، وبعد مقتله عام 119هـ ادعى أتباعه ألوهيته، وأن الوصية باقية فيه، وأنه لم يكن له أن يوصي بها إلى عقبه.

ويروي البغدادي في كتابه المذكور، أنه حين ظفر خالد بن القسري ببيان قال له «إن كنت تهزم الجيوش بالاسم الأعظم الذي تعرفه، فاهزم به أعواني عنك».

خلط الرواة

يعلق «عبدالعال»، في كتابه المذكور آنفاً، على نسب الرواة نظرية تجسد الألوهية إلى بيان بن سمعان، ذاهبين إلى أنه قال بألوهية علي والحسن والحسين ومحمد بن الحنفية من بعدهم بنوع من التناسخ، فيذكر أن أمر بيان هذا اختلط عليهم برجل آخر كانوا يعرفونه بـ«ابن بيان» واسمه عمير بن بيان العجلي، الذي ظهر أيام يزيد بن عمر بن هيبرة والي الأمويين على الكوفة سنة 128هـ، أي بعد بضع سنوات من قتل بيان بن سمعان التميمي.

وكان عمير هذا من فرقة الخطابية الشيعية التي غالت في الإمام علي واعتنقت مذهب تجسد الألوهية فيه وأبنائه، ويظهر أن تشابه الاسمين على هؤلاء الرواة كان يجعلهم يخلطون بين الرجلين، فيضيفون إلى بيان بن سمعان مذهب عمير بن بيان في تجسد الألوهية في أبناء علي.

الذي يرجح أيضًا نفي نسبة نظرية تجسد الألوهية إلى بيان بن سمعان، أن هذه النظرية لا تذكر في الكوفة إلا مقرونة بفرق الخطابية لا قبلها، ومن الجائز أن تكون البيانية بعد موت منشئها قد تأثروا بالخطابية فقالوا بهذا ونسبوه إلى بيان بن سمعان، بحسب «عبدالعال».

على كلً، وكما يذكر «عبدالعال»، انتهت دعوة بيان بن سمعان، ولم تكن ذات خطر في الحياة الاجتماعية للكوفة، لأنها لم تتغلغل بعد بين الناس، بيد أنه خلّف وراءه فكرة كان لها أثر خطير في تاريخ الغلو، وهي زعمه أن الإمام العلوي قد أوصى إليه، وأنه بهذه الوصية أصبح إماماً، وكانت هذه الفكرة خطيرة لأنها رسمت للغلاة من بعده الوسيلة التي يخدعون بها الناس، ويعتمدون عليها في تنصيب أنفسهم دعاة وقادة وجبت طاعتهم.