«أفكر في الأهلي، ويفكر في فريق لا يستحق الذكر». تغريدة مقتضبة للروائي الإريتري «حجي جابر»، يعبر فيها عن مخاوفه من تشجيع ابنه لناد غير الذي أحب.

تقاطعت عندي، واختلطت الذكريات والآلام، وأنا أقرأ ما خطّه جابر. فقد نشأت ويتردد على مسامعي الهتاف الشهير: «الكي الكي… صلاح الضي»، الذي يُمجِّد لاعب الهلال السوداني السابق صلاح الضي؛ حتى بات هتافي المفضل في سنواتي الأولى. كنت أظن، في أيامي الأولى وأنا أتلمّس الطريق مع مشاهدة كرة القدم، أن الناس يُولدون هلاليون، وأن منْ يُخالف ذلك يشذ عن الفطرة السليمة. لم أكن لأعشق الهلال لهذا الحد لولا والدي، رحمه الله رحمة واسعة؛ يُسليني بقصص الأنبياء، وتاريخ الهلال.

كانت هذه الذكريات، أمّا الآلام فقد أثارها اسم «حجي جابر»، وما يرتبط اسمه بذاكرتي. أحد أجيال الشتات الذين عرفنا عبره ماهية إريتريا وحرب التحرير، ولكن مع ذلك أخذ «أهلي جدة» نصيباً من ذلك الروائي وتكوينه، ونفذ الأهلي عبر كل هذه الآلام بين أسطر كتاباته الحزينة، ليخلق نقطة مضيئة ولحظة فرح عابرة وسط أمواج متلاطمة من الأحزان.

أزعم أن «أهلي جدة»، كان –بالنسبة لحجي- الحضن الذي يمتص مرارات الشتات، والمُؤنس عندما تضرب مشاعر الاغتراب. هذه العلاقة جذورها تعود لطفولة حجي؛ لكن إلى أي فريق لجأ والد حجي، ليتناسى مرارات الشتات؟ بل ماذا نفعل-نحن السودانيين- إذا ما صرنا إلى ما صار إليه جابر (والد حجي) قبل عقود؟ منْ ينشتلنا مما تركته الحرب؟ منْ يُعوِّضنا عن نادينا المحلي؟ وماذا يعني الهلال لمجشعيه؟

هلال الأمة

تأسّس الهلال السوداني، في فبراير/شباط من عام 1930، بمدينة أم درمان. وارتبط النادي، منذ نشأته بالحركة الوطنية، ونضال السوادنيين ضد الاستعمار البريطاني. وسار لقب نادي الخريجين على الهلال، وارتبط بالذاكرة الشعبية وخلّدته الأغاني والأهازيج تيمناً بمؤتمر الخريجين؛ الكيان الذي ضم الرعيل الأول من المثقفين السودانيين، الذين خاضوا غمار معركة الاستقلال.

خزانة مُرصعة بالبطولات والكؤوس، تجعل من الهلال «سيد البلد» بحق وحقيقة، واسم على مسمى. ثلاثون بطولة للدوري، ثماني عشرة منها الدوري الممتاز، لكنها أقل بلقب في الحسابات الرسمية؛ حيث مُنح المريخ، الند التاريخي للهلال، اللقب بعد خصم ست نقاط من الهلال موسم 2018.

رغم هذا التاريخ المحلي الحافل، فإن رصيده القاري خال من البطولات، للحد الذي يدفع جماهير المريخ مناداته بـ«الصفر الدولي». فالمريخ، صاحب الـ«كأسات المحمولة جواً» ظفر طوال تاريخه، بكأس قاري وحيد، حازه قبل أكثر من ثلاثة عقود، عام 1989، حينما ظفر بكأس الاتحاد الأفريقي «كأس مانديلا» وقتها، أمام بندل يونايتد النيجيري. لكن ما الذي يجعل الهلال بلا ألقاب قارية؟

قنطار الحظ المفقود

لم أكن أمل من سماع أحداث البطولة الأفريقية عام 1966، التي كان بإمكان الهلال وقتها أن يكون أول نادٍ عربي يُتوج ببطولة الأبطال لولا الغيابات، والتي طالت حارسه «سبت دودو» ونجمه الأبرز «نصرالدين عباس» الشهير بـ«جكسا»؛ فخرج الهلال أمام استاد أبديجان الإيفواري، من الدور نصف النهائي، بعد أن خسر مجموع المباراتين بثلاثة أهداف مقابل أربعة. ويتوج بعدها الفريق العاجي باللقب.

تمتد القصص الحزينة، وتغالبني الدموع وكأني حضرت تلك الهزائم. نشأ بيني وبين الحكم المغربي لاراش عداء ولم تكن عيني رمقته بعد؛ حيث حرم الهلال من هدف صحيح في نهائي البطولة عام 1987 التي فاز بها نادي القرن، الأهلي المصري، باستاد القاهرة. ليأتي أبناء جلدة لاراش، لاعبو الوداد البيضاوي، ويحرمون الهلال من الفوز باللقب عام 1992؛ مُحققين لقبهم الأول الذي استعصى على هلال الملايين إلى يومنا هذا.

ارتبط كثيرون بالهلال السوداني من خلال جيل عام 2007، الجيل الذي أقصى الزمالك المصري، والترجي التونسي، وأسيك ميموزا العاجي، هزم الأهلي المصري في مباراة تاريخية. لكن غياب الحارس الأساسي، المعز محجوب، وقلب الدفاع، ريتشارد جاستن، في مباريات نصف النهائي؛ علاوة على نجاعة القناص التونسي، أمين الشرميطي، أبقى الهلال بطلاً غير مُتوج. تكرر السيناريو في 2009، ليؤجل الحلم عاماً آخر، بعد أن هزمنا أنفسنا في استاد الهلال بخماسية أمام مازيمبي، حتى الأداء البطولي في إياب نصف النهائي بات في أدراج النسيان، لأنه لم يُحقِّق المنال.

في الموسم الموالي، أي في 2010، بعد خروج الهلال على يد حُمُص والإسماعيلي من الأبطال؛ انصب تركيزه في الكونفدرالية. غضبت كما مدرب الهلال، العبقري الصربي ميشو، من تخاذل اللاعبين أمام الصفاقسي وهم يتهرّبون من تسديد ركلات الجزاء، ليخرج الهلال من عتبة نصف النهائي، مُضيعاً بالخوف لقباً كان في المتناول. بعدها وصل الهلال للأدوار الإقصائية من البطولات القارية، من دون أن يقدم المستوى المتوقع والمطلوب.

في الموسم الماضي (2022-2023)، بدأ الهلال مشروعاً رياضياً، مدّته ثلاثة أعوام، استجلب فيه عدداً من المحترفين الأفارقة، المواهب المحلية المتميزة، بقيادة المدرب الكونغولي، فلوران إيبينجي. خرج الهلال من دور المجموعات في الموسم الماضي، بعد أن أضاع فرصة للتأهل كانت في متناوله. لكن بالرغم من المغادرة، كان التفاؤل يسود جماهير الهلال، لأن هذا هو الموسم الأول في مشروع النادي. لكن الحرب التي اندلعت منتصف أبريل/نيسان الماضي، وأضرت بالبلاد وأهلها، لم يسلم من آثارها الهلال.

الانتماء والاغتراب

تُعوِّضنا كرة القدم العالمية، والأندية التي نشجعها عن الفشل المحلي؛ أو هكذا نظن. نعم، سيمحنك الريال البطولات، وتشاهد الميداليات تُرصَّع صدور لاعبي البايرن، ويحصد نجوم الميلان الجوائز؛ لكن تفقد الصلة والانتماء لهذه الإنجازات.

نعم، شبكات التواصل الاجتماعي، والبث التلفزيوني ستجعلك تحصل على الخبر في نفس اللحظة التي يجري فيها الحدث، ويُسجَّل الهدف. لكنها ستكون لقطة عادية خلف الشاشة، تتبعها ثوانٍ ولحظات من البهجة، لكنك ستُحرم من رؤية رد فعل ذلك الرجل الذي يحكي عن معاناته للحصول على تذكرة اللقاء، وذاك الذي يخبرك بعدد الساعات التي قضاها في الاستاد، ستفقد شعور الدهشة وأنت ترى الحياة تدب في روح ذاك الكهل الذي كنت تظنه عاجزاً عن الحركة قبل الهدف. لن يتسنّى لك أن تحضر أعظم اتفاقية سلام بين مشجعين كادا يتعاركا قبل دقائق، وعلى الأرجح لن ترى غليان بركان الأولتراس.

في حالة النادي العالمي، ستكون المنجزات مجرد رقم يُضاف، لكنها في سياقك المحلي تصبح أكثر من ذاك. سيرى الجميع ما يعقب فوز فريقك المحلي في الدور التمهيدي من احتفال يحمل نوعاً من المبالغة؛ دون أن يدركوا أن هذه الفرحة هي احتفال بعودة الأمل، وتجدد الحلم الذي يتمناه الناس.

نعم تنتشلنا كرة القدم من بؤسنا على الدوام؛ لكن هذا الإنقاذ يختلف طعمه عندما تُمَدُّ إليك يد اكتويت بذات المعاناة وتكبدت ذات الآلام؛ عندما يقذف الحبور في قلبك ناديك المحلي، عندما يفعلها الهلال.

الحلم الأكبر

شجعت العراق في كأس آسيا 2007، وحفظت أسماء نجومه من «نور صبري» إلى «يونس محمود»، إلا أنني لم أشعر بمقدار نقصان فرحتي إلا وأنا أشاهد وثائقياً عن ظروف العراق، بلداً وشعباً، أثناء تلك البطولة. فهل يبدأ الهلال في زرع الأمل بقلوب جماهيره، والسودانيين، في البطولة الأفريقية لهذا الموسم (2023-2024).

أذكر أني بالكاد حبست صرختي للاحتفال بتتويج فريق ببطولة قارية، فقد كنت بمكتبة الجامعة وقلت لنفسي: «احفظ جنونك لحين تتويج الهلال». فهل يمنحنا الهلال فرصة لإطلاق تلك الصرخة، أم أن تغريدة حجي ستطاردنا كالكابوس. إلى ذلك الحين سنطارد الحلم الأكبر؛ كأس الأبطال.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.