خمسة أشهر عاشها العراق بلا حكومة بعد أن استقالت حكومة عادل عبد المهدي. الاستقالة جاءت استجابةً للمظاهرات الشعبية الحاشدة التي طالبت بمحاكمة الفاسدين وتنحي الحكومة، فزواج الحكومة والفساد كان، في رأي العراقيين، السبب وراء تعثر الاقتصاد العراقي. في تلك الأشهر الخمسة فشل محمد علاوي ثم عدنان الزرفي في تشكيل حكومة لعدم حصولهما على دعم التكتلات الأساسية في البرلمان العراقي، فآل الأمر في النهاية إلى مصطفى الكاظمي.

الكاظمي وعد العراقيين في خطابه التلفزيوني الأول بأنه سوف يحقق لهم ما انتفضوا لأجله، محاربة الفساد. تلك الحرب قال إنه سيخوضها بسن قانون جديد للموازنة العامة، وصفه الكاظمي بالاستثنائي. كما ذكر أن أهداف حكومته سوف تتمحور بشكل أساسي على إعادة النازحين إلى منازلهم، ثم إجراء انتخابات مبكرة. ومن أبرز، وأصعب، ما وعد به الكاظمي أن الأسلحة يجب أن تكون في يد الجهات الرسمية فحسب، يُعد ذلك تحديًا صعبًا في ظل فوضى الأسلحة التي يشهدها العراق.

الكاظمي ابن بغداد منذ عام 1967، دارسٌ للقانون ومشتغل بالصحافة. الصحافة كانت وسيلته لإظهار معارضته لنظام الرئيس الأسبق، صدام حسين. المعارضة أورثته النفي في السويد وبريطانيا، وفي إيران ذات مرة. في إقامته في الدول الأوروبية التي تنقل بينها كان يعمل مديرًا لتحرير قسم العراق في موقع «مونيتور» الأمريكي. لكن رغم إقامته الطويلة وعمله شبه المستقر في الدول الأوروبية فإنه لم يحصل على جنسية أي منها، ولم ينضم كذلك لأي حزب سياسي عراقي.

اقرأ أيضًا: تسريبات التايمز: كيف تتحكم إيران في العراق دون أن تحكمه؟

الغزو الأمريكي للعراق هو ما فتح بوابة العودة للكاظمي، عاد عام 2003 ليشارك في تأسيس شبكة إعلام العراق. في نفس الفترة عمل مديرًا تنفيذيًّا لمؤسسة «الذاكرة العراقية» الهادفة لتوثيق جرائم نظام صدام حسين. بعد 13 عامًا من الوجود في العراق والعمل مع جهات مختلفة أثبت الكاظمي نفسه كرجل توافقي تجتمع عليه معظم الآراء، لذا كان طريقه سهلًا عام 2016 لينتقل من الصحافة إلى المخابرات ويتولى منصب رئيس المخابرات العراقية. عيَّنه في ذلك المنصب رئيس الوزراء العراقي الأسبق، حيدر العبادي، بعد أن نجح الكاظمي في وساطات متتالية بين العراقيين في أزمات مختلفة.

نوع جديد من العلاقات

كلمة رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي

بتولي رئاسة المخابرات نقل الكاظمي علاقاته لمستوى آخر، بعد أن كانت مع شبكات إعلامية ووزراء الإعلام والمهتمين بالصحافة في الدول المختلفة، أصبحت علاقاته على مستوى دولي وتشمل تنسيقات أمنية وسياسية، خاصة مع الدول المشاركة في التحالف الدولي لغزو العراق. ربما تُعد المرحلة الراهنة هى الفترة الأمثل كي تظهر فيها شبكة العلاقات التي كوَّنها الكاظمي، فالعراق يواجه مشاكل عدة أبرزها انهيار أسعار النفط التي بدورها تُنذر باحتمالية فوران شعبي جديد في دولة تعتمد مواردها بنسبة 90% على النفط.

ذلك الانخفاض الكبير يجعل من المحتمل ألا يستمر دعم الشعب العراقي للكاظمي طويلًا، فالسيناريو الأقرب بخصوص الأوضاع الاقتصادية هو تخفيض رواتب موظفي الحكومة أو تسريح عدد كبير منهم في الأسابيع القادمة، وفي الحالتين سوف يكون للقرار رد فعل شعبيًّا عنيفًا ضد الحكومة.

لكن يبدو أن الكاظمي على ثقة كبيرة في داعميه، بالأخص الدعم الأمريكي. مايك بومبيو، وزير الخارجية الأمريكي، كان أول المهنئين بالمنصب. الدعم الأمريكي لم يتوقف عند التهنئة بل تجاوزها لبيان أصدرته الخارجية الأمريكية بعد الاتصال، البيان جاء فيه أن الولايات المتحدة سوف تمنح الكاظمي استثناءً لمدة 120 يومًا. هذا الاستثناء يُقصد به استثناء العراق من قرار حظر استيراد الطاقة الكهربائية من إيران، وأضاف البيان أن الاستثناء يكشف رغبة الولايات المتحدة الحقيقية في نجاح الحكومة العراقية.

ديفيد شينكر، مساعد وزير الخارجية الأمريكية لشئون الشرق الأوسط، أعرب هو الآخر عن سعادته بالكاظمي، وأضاف في تصريحاته بعد ساعاتٍ من تسمية الكاظمي أن الكاظمي رجل وطني وكفؤ وأن وظائفه السابقة تشهد له. فرنسا هى الأخرى أبدت سعادتها بالكاظمي وألمحت أن وجوده على رأس القيادة العراقية سوف يضمن استثناء العراق من العقوبات التي تشمل إيران، تُلمح بذلك إلى أنه مدعوم أمريكيًّا بقوة.

المشاركة في اغتيال سليماني

قربه من الولايات المتحدة قد يكون هو الوجه الآخر لبعده عن إيران، لكنَّ مقربين منه يقولون إنه براجماتي، لا يميل لمعاداة أحد، وأنه سوف يحرص على أن يكون قريبًا من كل اللاعبين الرئيسين على الساحة. فالرجل الذي عانق ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، عام 2017 عناقًا طويلًا أثناء زيارته مع رئيس الوزراء الأسبق حيدر العبادي يبدو بالفعل أنه براجماتي يجيد المناورة.

لكن الجولة الأهم التي لا توجد فيها مساحة كبيرة للمناورة هى علاقته مع إيران. منذ عام 2018 كان اسم الكاظمي مطروحًا لرئاسة الوزراء، لكن دائمًا ما حال بينه وبين ذلك التكتل الشيعي في البرلمان الذين يرونه «رجل الولايات المتحدة». الأمر لم يتوقف عن القول بأنه موالٍ للولايات المتحدة سياسيًّا فحسب، بل قيل في الأوساط القريبة من إيران إنه متواطئ في عملية اغتيال قاسم سليماني، قائد فيلق القدس الإيراني، ومرافقه أبو المهدي المهندس، نائب رئيس هيئة الحشد الشيعي.

حرص الكاظمي على نفي تلك التهمة بحضور مجالس عزاء سليماني والمهندس في إيران، كما أجرى عدة لقاءات مع مسئولين إيرانيين لتأكيد نفيه. لكن ليس من الواضح إذا كان الإيرانيون قد صدَّقوه أم لا، ربما لهذا احتفظ الكاظمي بحقيبتي النفط والخارجية ولم يُسم لهما أي وزير حتى الآن، فقد يصبحان بطاقة مفاوضة يحاول الكاظمي بها تهدئة المخاوف الشيعية منه. فالكاظمي، كما يبدو من مسيرته، يميل إلى الحوار والمناورات السياسية السلمية بدلًا من العنف أو استدعاء الاستقطابات العرقية أو الدينية. السلم هو ما ركزت عليه مقالاته في الـ«مونتيور» الأمريكي، وفي عديد كتبه التي نشرها وأبرزها «مسألة العراق، المصالحة بين الماضي والمستقبل».

نجد الجانب الإيراني الرسمي قد يحمل نفس التخوفات التي يحملها شيعة العراق، لكنها ربما تخفيها في طيات إعلان ترحيبها بالكاظمي وبحكومته. كما أضاف وزير الخارجية الإيراني، جواد ظريف، أن إيران تدعم الشعب العراقي وتدعم دوره في اختيار من يدير شئونه. تهنئة دبلوماسية لا تبدو حقيقيةً كون الكاظمي أول رئيس للوزراء منذ عام 2005 لا يكون مواليًا بشكل واضح للجانب الإيراني، أو كما وصفته الصحف الأمريكية، أول رئيس للوزراء من خارج دائرة الإسلام السياسي.

اقرأ أيضًا: أبو مهدي المهندس: رفيق قاسم سليماني في القمع والموت

الأعوام الثلاثة عشر التي قضاها الكاظفي في الظل وخلف الكواليس كرئيس للاستخبارات العراقية جعلت سجله الشخصي خاليًا من نقاط يمكن أن يختلف عليها العراقيون، كما أنها جعلته رجلًا غامضًا لا يمكن توقع خطوته التالية. الغالب على المشهد العراقي حاليًا هو أن الكاظمي يمثل مرونةُ سياسيةً غائبة عن المشهد منذ سنوات طويلة، لكن كيف سيمارس الكاظمي هذه المرونة، وكيف يستطيع الرجل الذي يصف نفسه بالبراجماتية أن يُوفق بين الشد الأمريكي والجذب الإيراني، فهذا ما سوف تكشفه لنا الأيام القادمة.