على مدار التاريخ الإسلامي ظهرت عدة فرق دينية باطنية انتهجت العنف لبسط نفوذها والقضاء على المخالفين لها، ومنها «الخناقون»، أو «المنصورية»، وهم أتباع أبو منصور العجلي، الذي ظهر في العصر الأموي وزعم نبوته ودعا لمذهب ديني خاص به.

والباطنية لقب عام تندرج تحته طوائف عديدة تلتقي جميعها في تأويل النصوص الدينية الظاهرة، وإثبات معان باطنية لها، وتلجأ إلى الرموز والإشارات في تفسير هذه النصوص وإخراجها عن معانيها الظاهرة.

إمام ونبي وتأويل

يذكر عبدالله سلوم السامرائي في كتابه «الغلو والفرق الغالية في الحضارة الإسلامية»، أن المنصورية هم أتباع أبي منصور العجلي، والتي قالت في البداية إن الإمام بعد أبي جعفر محمد بن علي الباقر هو أبو منصور العجلي، وأن محمد بن علي إنما أوصى إلى أبي منصور دون بني هاشم. وحينما علم الباقر بدعوة أبي منصور هذا تبرأ منه وطرده، وبعدما توفي الباقر سنة 117هـ قال أبو منصور إن الإمامة انتقلت إليه وتظاهر بذلك.

ولم يقف أبو منصور عند حدود الإمامة إنما صعد وادعى النبوة، واستعمل التأويل وسيلة لتفسير زعمه هذا، فقال إنه هو المراد بقوله تعالى «وإن يروا كسفًا من السماء ساقطًا»، وإنه عرج إلى السماء، وإن الله تعالى مسح رأسه بيده وقال له «ابني، اذهب فبلغ عني»، ثم أهبطه إلى الأرض، فهو الكسف الساقط من السماء، وفق تفسير أبي منصور.

ولم يدعِ أبو منصور النبوة لنفسه فحسب، إنما جعلها مستمرة، فزعم أن الرسل لا تنقطع أبدًا، والرسالة لا تنقطع، وبذلك يكون ناقضًا كون رسالة الرسول محمد خاتمة الرسائل.

تأثر مسيحي

ويذكر أحمد محمد أحمد جلي في كتابه «دراسة عن الفرق في تاريخ المسلمين: الخوارج والشيعة»، أن أبا منصور العجلي تأثر بالمسيحية، فزعم أن عيسى أول من خلقه الله، ثم من بعده علي بن أبي طالب، كما زعم أن رسل الله لا تنقطع أبدًا، وأظهر كفره بالجنة والنار، وزعم أن الجنة هي رجل أُمر الناس باتباعه وموالاته وهو إمام الوقت، وأن النار رجل أمر الناس بمعاداته وهو خصم الإمام.

وأوّل أبو منصور المحرمات كلها على أسماء رجال أمر الله بمعاداتهم، والفرائض على أسماء رجال أُمر بموالاتهم، واستحل من ثم النساء والمحارم، وأحلّ ذلك لأصحابه، وزعم أن الميتة والدم ولحم الخنزير والميسر وغير ذلك من المحارم حلال، وهكذا ينتهي إلى أن معرفة الإمام تُسقط عن الإنسان وترفع عنه الخطايا، كما أسقط عنهم جميع الفرائض مثل الصلاة والزكاة والحج والصيام، وقال إنها أسماء رجال أوجب الله ولايتهم، بحسبما ذكر جلي.

وبحسب السامرائي، في كتابه المذكور آنفًا، أن هذه الفرقة أوّلت آية قرآنية لتبرير تفسير غلوهم وتناقضهم العجيب، وهي قوله تعالى «ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا». ولم يقف غلوهم عند هذا الحد، إنما توجهوا إلى المجتمع وعملوا فيه هدمًا وتخريبًا.

تلميذ المغيرة بن سعيد

ويذكر محمد جابر عبدالعال في كتابه «حركات الشيعة المتطرفين وأثرهم في الحياة الاجتماعية والأدبية لمدن العراق إبان العصر العباسي الأول»، أن أبا منصور العجلي امتداد طبيعي لأفكار المغيرة بن سعيد الذي قُتل وصُلب مع أصحابه سنة 119 هـ على يد خالد القسري والي العراق، ويعتبره المستشرقون أستاذ الغلاة ومعلمهم، إذ نادى بآراء بها مزيج عجيب للديانات الشرقية القديمة، فادعى الإمامة بعد موت محمد بن علي بن الحسين، ثم ادعى النبوة، وأتباعه ألّهوا علي بن أبي طالب.

ولم يكد المغيرة يُقتل حتى علا شأن تلميذه أبي منصور، وتبعه كثيرون من قبيلة بني كندة في الكوفة، وكان بذلك أول عربي يقود بنفسه حركة باطنية، والتي كان يقودها الموالي، يدبرونها في الخفاء مع من يثقون به.

ومع أن أبا منصور كان زعيمًا، فإنه لم يكوّن لنفسه عقيدة كما كان يفعل غيره من هؤلاء القادة الغلاة، يصفون ربهم ويضعون عقيدة تتلاءم مع ميولهم، ويقتبسون عناصرها من الديانات أو العقائد التي يعرفونها قبل إسلامهم، وهذا ما ذهب إليه فخر الدين الرازي في كتابه «اعتقادات فرق المسلمين والمشركين»، فذكر عن المنصورية أنهم كانوا على مقالة المغيرية وزادوا عليها أشياء، منها أن عيسى هو أول الخلق، وأن الرسالة لا تنقطع، وأن الأنبياء يظهرون في جميع العصور والأوقات، وذلك حتى يبرر لنفسه ادعاء النبوة.

خنق المعارضين والمخالفين

ويرى عبدالعال، أن أبا منصور كان زعيمًا خطرًا، وتعتبر حركته حركة انتقال بالغلو من ناحية الاعتقاد، أي من الناحية النظرية العقلية، إلى الناحية العملية، لأنه استحدث لأصحابه طريقة الخنق، ليجبروا خصومهم على التسليم أو الخضوع لهم.

واصطنع أبو منصور هذه الوسيلة لإرهاب المجتمع، وألزم أصحابه خنق مخالفيهم وقتهلم خفية، وذلك أثناء سجودهم أو نومهم أو سيرهم بمفردهم، مبينًا لهم أن القضاء على المخالفين في العقيدة إنما هو من شعائر دينهم. في كتابه «فرق الشيعة» ذكر أبو محمد الحسن النوبختي أن أبا منصور «كان يأمر أصحابه بخنق من خالفهم وقتلهم بالاغتيال، ويقول من خالفكم فهو كافر مشرك فاقتلوه، فإن هذا جهاد خفي».

ومن هذا يتبين أن الخنق عندهم جهاد ديني، مفروض عليهم القيام به ضد الكفار المخالفين وهم المسلمون، وهذه الفكرة أثارت الرعب والفزع في قلوب الناس.

وفي كتابه «الحيوان» حفظ عمرو بن بحر بن محبوب، المعروف بالجاحظ، صورة من نشاطهم، فقال «إن الخناقين يظاهر بعضهم بعضًا، فلا يكونون في البلاد إلا معًا، ولا يسافرون إلا معًا، فربما استولوا على درب بأسره أو على طريق بأسره ولا ينزلون إلا في طريق نافذ، ويكون خلفهم دورهم إما صحارى وإما بساتين وإما مزابل وأشباه ذلك، وفي كل دار كلاب مربوطة ودفوف وطبول ولا يزالون يجعلون على أبوابهم معلم كتاب منهم، فإذا خنق أهل دار إنسانا ضرب النساء بالدفوف وضرب بعضهم الكلاب فسمع المعلم فصاح الصبيان، وأجابهم أهل كل دار بالدفوف والصنوج كما يفعل نساء أهل القرى، وهيجوا الكلاب، فلو كان المخنوق حمارًا لما شعر بمكانه أحد».

حيل الخناقين

وبحسب عبدالعال، كان هؤلاء الأشرار إذا لم يتمكنوا من قتل الناس بالخنق، يقتلونهم بالتشميم، وهو «البنج» ثم القتل، وإما بالرضخ بالحجارة، ويأخذون أموالهم ويعطونها لسيدهم الذي أثرى ثراء فاحشًا مما جُبي إليه. ويسمون الذي يجيد القتل بالخنق والتشميم «جامعًا»، أي جامعًا للقتل بالخنق والتشميم.

وحيل الخناقين في قتل الناس كثيرة، فمنهم من كان يقتل بالحجارة، ومنهم طائفة تقتل بالخشب وحده، ومنهم من يقتل بإلقاء حبل يمسك بعنق الضحية ويُشد ويُلقى به على الأرض ثم يُقتل، ومنهم من يُقتل بالشم ثم القتل، إلى غير ذلك من الوسائل التي تعينهم على قتل مخالفيهم في العقيدة.

ويذكر عبدالعال، أن ما ساعد الخناقين على فجورهم وعدم التمكن منهم والالتفات إلى أمرهم، أن الأمر كان مضطربًا في أواخر الدولة الأموية، والحكومة المركزية كانت مشغولة بالقضاء على المتجردين لسلب السلطان منها، وظل الاضطراب يسود شؤون الدولة حتى قامت الدولة العباسية، وخلال هذه الفترة من الزمن كان الخناقون بعيدين عن سلطان القانون، آمنين من بطش السيف.

ولم يكد يوسف بن عمر الثقفي والي العراق (120 – 126هـ) في زمن الخليفة الأموي هشام بن عبدالملك (723- 743هـ) يقف على أمرهم، ويراهم يخرجون مع أبي منصور في بني كندة، حتى تصدى لهم وقبض عليهم وقتل أبا منصور وصلبه.

ولكن هذا لم يكن ليفت في عضد الخناقين، إذ ظلت تعاليم أبي منصور تحتفظ بسلطانها في نفوسهم، فأقاموا الحسين بن أبي منصور إمامًا بدلًا من أبيه. يقول النوبختي «وقد تنبى وادعى مرتبة أبيه، وجُبيت إليه الأموال (التي كان يستولى عليها الخناق من مغتاله)، وتابعه على رأيه ومذهبه بشر كثير وقالوا بنبوته.

حسينية ومحمدية

غير أن السامرائي في كتابه المذكور آنفًا، يذكر أنه بعد مقتل أبي منصور افترقت المنصورية إلى فرقتين؛ حسينية ومحمدية. قالت الحسينية إن الإمام بعد أبي منصور ولده الحسين بن أبي منصور وجعلوا له الخُمس مما وقع في أيديهم من الخنق، وقالت المحمدية، إن الإمام بعد أبي منصور هو محمد بن عبدالله النفس الزكية، لأن أبا منصور قال أنا مستودع وليس لي أن أضعها في غيري.

على كلٍ، ظل المنصورية على حالهم هذا، حتى بعث الخليفة العباسي المهدي158) – 169 هـ/ 747 – 785م) قواته فقتل الحسين بن أبي المنصور وصلبه بعد أن أقر بذلك، وأخذ منه مالًا عظيمًا، وطلب أصحابه طلبًا شديدًا وظفر بجماعة منهم فقتلهم وصلبهم، وتفرق البقية لباقية من الخناقين عن الكوفة، ولم يظهر لهم ذلك الخطر الذي كانوا عليه في الكوفة، ثم اختلطوا بغيرهم وتشبعوا بعقائد غيرهم، بحسب عبدالعال.