تموج منطقة الهلال الخصيب التي تشمل العراق وبلاد الشام الأربع (سوريا، ولبنان، وفلسطين، والأردن) بعدد من المشاريع المتضاربة، يبرز من بينها مشروع «المشرقية»، وهو المصطلح الذي يشوبه كثير من الالتباس.

ظهر هذا المصطلح في لبنان أول أمره لتمييز الرؤية السياسية لليمين المسيحي عن الرؤية العروبية لليسار اللبناني في إطار الحرب الأهلية، لكنه أخذ يتمحور حول فكرة تحالف الأقليات مع الحفاظ على خطوط الفصل الواضحة بين المكونات الطائفية والعرقية المختلفة، وإن اختلفت تلك الأقليات والاتجاهات الداخلية بها في رؤاهم حيال تلك الفكرة، واختلفت كذلك خطط القوى الإقليمية والدولية في التعاطي معها كلٌ حسب مصلحته ومصلحة حلفائه في المنطقة.

وترعى عدد من العواصم مشروع الحلف المشرقي بين المسيحيين والعلويين والشيعة والإسماعيليين والدروز واليهود وغيرهم من الطوائف في مواجهة الأغلبية الحاكمة في معظم دول الإقليم، وما إن يخبو هذا المشروع حتى يعاود الظهور في صورة جديدة وآليات متجددة ومتعددة مما يفرض تحديات إضافية أمام شعوب المنطقة.

مر المشروع بمحطات عديدة، ففي القرن التاسع عشر، كانت مسألة الأقليات في المنطقة مدخلاً لتدخل القوى الأوروبية لا سيما فرنسا في عهد الضعف العثماني. وفي العشرينيات من القرن الماضي قسمت القوى الاستعمارية بلاد الشام إلى سبعة كيانات سياسية معظمها هيمنت عليها الأقليات فنشأت دولة للدروز في السويداء وأخرى للعلويين في اللاذقية، وثالثة لليهود في فلسطين، ورابعة هيمن عليها الموارنة في لبنان، وألحق لواء الاسكندرون بتركيا، لكن معظم هذه المشاريع فشلت فأصبحت بلاد الشام أربع دول. وفي السبعينيات اشتعلت الحرب بين الطوائف اللبنانية، وانخرطت فيها كل القوى في الدول المحيطة بلبنان إلى أن أنهاها «اتفاق الطائف» عام 1989.

وفي العراق، مثلت القضية الكردية الخاصرة الضعيفة للدولة باستمرار، كما كانت مناطقه الجنوبية ذات الوجود الشيعي الكبير محط أنظار جيرانه الإيرانيين الذين سعوا بإصرار لجعلها أولى محطات تصدير الثورة، إلى أن منحهم انهيار نظام صدام حسين عام 2003 هذه الفرصة.

 وبموازاة ذلك، كان خروج الأوضاع عن السيطرة في سوريا وعجز كل من المعارضة والنظام عن حسم الصراع مدعاة لانتعاش النزعة المشرقية من جديد، حيث تغذت بسعي إيراني لإنشاء ممر بري عابر للحدود يربطها بالعراق والشام، فيما يعرف بـ«الهلال الشيعي» أو «الحزام الذهبي» أو أيًا يكن مسماه، بعد تهجير الملايين من العرب السنة لا سيما بعد صعود تنظيم داعش (الاسم المختصر لـ«الدولة الإسلامية في العراق والشام»)، إذ دمر التنظيم الإرهابي الحواضر السنية في سوريا والعراق، ومنح «فيلق القدس» الإيراني والميليشيات التابعة له مبررًا للتدخل العسكري وفرصة لتحقيق مخططاتهم القديمة.

مشروع انتحاري

وقد حذر الزعيم الدرزي اللبناني ورئيس الحزب التقدمي الاشتراكي، وليد جنبلاط، مطلع العام الحالي، من أنه تحت ستار التعددية الحضارية تم جر المنطقة إلى حروب طائفية، معبرًا عن رفضه لفكرة «تحالف الأقليات» التي تروج لها طهران، قائلاً إن إيران ترعى مشروع تلاقي الأقليات في سوريا والعراق ولبنان، معتبرًا أن هذا الموقف من أبرز أسباب قتل والده كمال جنبلاط خلال الحرب الأهلية لأنه رفض الانضمام إلى حلف الأقليات الذي كان يروّج له رفعت الأسد شقيق الرئيس السوري آنذاك، وكان يضم العلويين والموارنة الانعزاليين على حساب الأغلبيات، واصفًا الخطة بأنها «مشروع انتحاري»، وأن هذا المشروع يعود اليوم من جديد بعد «تهميش وتهجير وتدمير الكيان العربي الكبير» الذي يسمّى «السنة»، متهمًا النظام السوري بأنه هو الذي عطل مشروع إلغاء الطائفية السياسية الذي نص عليه اتفاق الطائف.

دمج إسرائيل

يرى المفكر الماروني نبيل خليفة في كتابه «استهداف أهل السنة» أن إزاحة النفوذ السني عن منطقة شرق المتوسط واستبداله بالنفوذ الإيراني مؤداه إدماج إسرائيل كجسم طبيعي في المنطقة، وأنه ليس من قبيل الصدف أن يكون الهلال الشيعي هو المعادل جغرافيًا للهلال الخصيب (أي لمفهوم سوريا الكبرى التي تشمل لبنان وسوريا والعراق وفلسطين والأردن)، مبينًا أنه ليس أمام الغرب وإسرائيل وإيران، وعلى امتداد العالم الإسلامي، سوى هذا المجال بالذات (أي سوريا الكبرى)، ما يسمح باختراق الكتلة السنية جغرافيًا وديموغرافيًا وسياسيًا، ومذهبيًا، وعقائديًا لإزاحة، بل لاقتلاع النفوذ السني-العربي: حكامًا وأنظمة وهوية وانتماءً، واستبداله بدولة الأقليات الكونفدرالية بزواياها الأربع الأساسية المفترضة: اليهود والشيعة والأكراد والمسيحيين.

وفقًا لخليفة، يجري التأكيد على السمة المشرقية لهذه الرقعة الجغرافية لإغراء المسيحيين للانخراط بالمشروع، فهي قلب الشرق الأوسط، وفيها تقع إسرائيل، وهي امتداد إيران باتجاه المتوسط ومعقل لأكبر حشد أقلوي في العالم (٥٩ أقلية) والإمكانية الوحيدة المتاحة لتحقيق توازن ديمغرافي بين الأكثرية العربية السنية ومجموع الأقليات المتواجدة فيه، وبالتالي فهو يشكل كما سماه الغربيون «الفرصة الكبرى» (la grande chance) لإحداث تغيير جذري في المعادلة الجيوبوليتيكية للشرق الأوسط تكون في مصلحة الغرب وإسرائيل وإيران على السواء عبر استغلالهم لحلف الأقليات!

ورغم التوترات العنيفة بين طهران وتل أبيب فإن الفراغ الذي نشأ في المنطقة أعطى فرصة لكل من الطرفين لتوسيع نفوذه، وتحولت الأراضي السورية والعراقية إلى ساحة صِدام وتنافس بين الطرفين الذين كان بقاء النظام السوري في صالحهما تمامًا، فلم تعمل إسرائيل على إسقاط نظام بشار الأسد وفضلت بقاءه رغم الفرصة السانحة لاستبداله بسبب عدم توقع أن البديل سيكون أقل عدائية وخطورة عليها.

لبنان الملجأ أم لبنان العربي

أما في لبنان، حيث نظرية «لبنان الملجأ» ومفادها أن هذه الدولة نشأت لتكون تجمّعًا للأقليات المضطهدة من الأغلبية العربية، فيظهر المشروع بشكل أوضح. فـ«التيار الوطني الحر»، الذي ينصب نفسه محاميًا عن المسيحيين، يتحالف مع «حزب الله» المدعوم من طهران، تحت لواء محور الممانعة، ويجهر الرجل القوي في التيار، جبران باسيل، بأن التحالف يهدف لتقليص نفوذ الأكثرية السنّية التي يتهمها بأنها سلبت حقوق المسيحيين بموجب اتفاق الطائف، ويشتهر عنه قوله: «السنيّة السياسية أتت على جثة المارونية وسلبت كل حقوقها ومكتسباتها ونحن نريد استعادتها منهم بشكل كامل».

وباسيل هو مؤسس مؤتمر «اللقاء المشرقيّ» في 2019 (تسميته الأصلية «اللقاء المشرقي المسيحي» لكنها تغيرت بعد ضغط من وزير الداخلية اللبناني آنذاك، نهاد مشنوق) ومن أبرز أهداف هذا الكيان «الحفاظ على مقوّمات الدور والوجود المشرقيّ ديموغرافيًا وجغرافيًا». باسيل لا يكل عن المطالبة بطرد اللاجئين السوريين لأنهم «يهددون وجود لبنان»، على حد تعبيره، وأن «التمايز الجيني» يمنع تقبل السوريين في لبنان لأن اللبنانيين وفق فهمه لهم جينات مختلفة عن باقي الشعوب العربية. ورغم وجوده في محور الممانعة والمقاومة، فإنه ليس بينه وبين إسرائيل خلاف أيديولوجي ويعترف لها بحق الوجود وأن تعيش في أمان، حسبما قال عام 2017 حين كان وزيرًا للخارجية.

وتحت ذريعة حماية مسيحيي المشرق استنجد باسيل بروسيا بعد إنقاذها للنظام السوري، داعيًا إياها لحماية الأقليات وهي الدعوة التي وجدت آذانًا صاغية بالطبع، واختار باسيل موسكو ليعلن منها في أواخر أبريل/نيسان الماضي عن مشروع لإنشاء «السوق المشرقية» التي تضم سوريا والعراق ولبنان.

ويُتهم باسيل وصهره الرئيس ميشال عون بتعطيل كل محاولات تشكيل الحكومة اللبنانية منذ عام تقريبًا بسبب إصرارهما على الحصول على أكبر حصة من الحقائب الوزارية على حساب الطوائف الأخرى بالمخالفة لما تم إقراره بعد اتفاق الطائف الذي نظم تقاسم السلطة بين الطوائف المختلفة، لكنه بات يواجه امتحانًا عسيرًا اليوم ويتهم كل طرف الآخر بأنه سيكون المسؤول عن انهيار نظام الطائف بما يعنيه ذلك من تدمير قواعد اللعبة والبدء في إعادة ترسيمها من جديد في عملية لن تبقى أصداؤها حبيسة حدود بلاد الأرز على الأرجح.