يكون الأميرُ باستيلائه مستبدًا بالسياسة والتدبير، والخليفة بإذنه منفِّذًا لأحكام الدين؛ ليخرج من الفساد إلى الصحة ومن الحظر إلى الإباحة. وهذا وإن خرج عن عُرف التقليد المطلق في شروطه وأحكامه، ففيه من حفظ القوانين الشرعية وحراسة الأحكام الدينية ما لا يجوز أن يُـترَكَ مختلًّا مخذولًا ولا فاسدًا معلولًا، فجازَ فيه مع الاستيلاء والاضطرار ما امتنع في تقليد الاستكفاء والاختيار؛ لوقوع الفرق بين شروط الـمُكْنة والعجز.

أبو الحسن الماوردي (ت450هـ) في كتابه «الأحكام السلطانية والولايات الدينية»


مرونة الفقهاء في شروط الخلافة

كانت الأسس النظرية وشروط الخلافة واضحة جلية منذ عصر الخلفاء الراشدين، وهي التي صارت متداولة في كتب الأصول والفكر السياسي في عصور التصنيف في القرنين الثاني والثالث الهجريين وما تلاها، بل في بعض مصنفات الفروع الفقهية، وهي تدور حول الاختيار المتمثل في الشورى والبيعة، والرضا بالمرشح إذا كان قد وُلِّي بالعهد، من خلال فئة ممثِّلة لعموم الأمة وهم «أهل الحل والعقد»، وهؤلاء أشتات ممثِّــلون لأهل السياسة والشريعة وأصحاب المكانة الاجتماعية والعسكرية البارزة في عاصمة الدولة، باعتبارها مركز الحكم، ومحط النشاط السياسي للدولة كلها.

لقد رضي أغلب الفقهاء بصيغة «العهد الوراثي» فيما بعد، بدلًا من الاختيار الحر، سواء من الجماعة أم من الخليفة السابق، وأقروا أنه استثناء أملته الضرورة التاريخية المتمثِّلة في «الخوف من الفتنة» وحرصًا على «وحدة الأمة». وبهذا يختلف أهل السنة عن الشيعة الذين ذهبوا إلى أن الخلافة في ذرية علي رضي الله عنه بالنصِّ، فلا اختيار ولا عهد بين عموم الأمة، الأمر الذي كان سببًا – من جملة أسباب أخرى – لنشوء وانتشار علم الكلام فيما بعد؛ إذ كانت قضية الإمامة الكبرى أحد أهم تمظهرات هذا الجدل بين الفريقين إلى اليوم، بدءًا من المستوى العقدي بين المتخصصين في الأصول، وانتهاءً بالمستوى الشعبوي بين العامة من الفريقين في مناطق التماس كما في بغداد في العصر العباسي.

لقد رأينا في المقال السابق «السياسة والدين في بلاط أمير المؤمنين»، أن دور الفقهاء لم يقف عند مسألة وضع الشروط النظرية للخليفة والخلافة، وإنما حرصوا –خاصة كبار الفقهاء ومؤسسو المذاهب– على مراقبة «الممارسة» السياسية للأئمة، فلا تكون الخلافة شرعية في نظرهم إلا إذا كانت ملتزمة بالشرع وبتحقيق العدل، وكانت مواقف أبي حنيفة ومالك وابن حنبل من السلطات العباسية، ومعاقبتهم إزاء مواقفهم المناوئة، دليلًا قويًّا على دفاع الفقهاء عن حقهم في المراقبة، وسيادة سلطان الشريعة على الممارسة السياسية المصلحية الضيقة، أو على الأهواء الشخصية للخلفاء، وفي نهاية المطاف انصاع هؤلاء الخلفاء لسلطان الفقهاء في المسألة الدينية.

في المقابل، قَبِلَ الفقهاءُ بشرعية الخلافة الأموية والعباسية –وإن لم تكن المثال والمقياس الممثل في دولة الراشدين أو المدوّن في كتُبهم- فعبد الملك بن مروان (ت: 86هـ) المؤسِّس الثاني للأمويين كان في عُرف الفقهاء خارجًا على عبد الله بن الزبير، فلما «غَلَب» أقروا إمارته وإمارة عَقِبِهِ من بعده، والسفاح العباسي (ت: 136هـ) كان في عُرف الفقهاء خارجًا على الأمويين، فلما «غلب» أقروا إمارته وعقبه من بعده، وبهذا صار «التغلُّب» مسألة مفهومة في سياق التجربة السياسية الإسلامية، طالما أنها تحافظ على معاني الخلافة/الإمامة، وهي «إقامة الدين وحفظ حوزة الملة» كما يقرر التفتازاني.


تبدُّل أحوال الخلافة

على أنه منذ الربع الأخير من القرن الثاني الهجري كان ثمة واقع سياسي بدأ يترسّخ ويفرض نفسه في أطراف الدولة الإسلامية، ثم سرعان ما فتئ هذا الواقع يجوس خلال الديار إلى قلب العاصمة الإسلامية بغداد، هذا الواقع تمثّل في سيطرة أمراء مستقلين على أطراف هذه الدولة مثل الأغالبة والأدارسة في المغرب، والطاهرية والصفّارية والسامانية والطولونية في المشرق، صحيح أن هؤلاء جميعًا دانوا بالطاعة للخليفة العباسي في بغداد، وحرصوا على أن يأخذوا شرعيتهم من مراسيمه وقراراته ورسومه البروتوكولية التي كان يُرسلها لهم، بيد أنهم كانوا يملكون قدرًا كبيرًا من الاستقلالية في القرار الداخلي، بل وأحيانًا معارضة ومناوءة لقرار السلطة المركزية في العاصمة.

وما لبث الثلث الأول من القرن الرابع الهجري يولِّي، حتى تمكن البويهيون الديلم -الذين جاءوا من الشاطئ الجنوبي من بحر قزوين شمالي إيران- من احتلال بغداد في العام 334هـ، فصار الخليفة العباسي معهم محجورًا عليه، ضعيفًا لا يمتلك من أمره إلا مقدار قصره وفنائه!

لقد كان دخول البويهيين الشيعة إلى عاصمة الدولة الإسلامية السنية انتكاسة سياسية خطيرة، لكنه كان نتيجة طبيعية لتدهور منصب الخلافة منذ الخليفة المتوكل على الله قبل ذلك بقرن على الأقل (ت 247هـ). وبذلك ظهرت مؤسسة سياسية أخرى جابهت مؤسسة الخلافة، هي «دار الـمُلك»، فمنها سيطر كبار العسكر التركي في الجيش العباسي على مقاليد الأمور، ثم سيطر بعض كبار الأمراء المتنفذين ممن تلقبوا بـ «أمير الأمراء»، ثم تمكن بنو بويه فيما بعد من ترسيخ هذا الانقسام السياسي، ثم الافتئات على منصب الخليفة ذاته، حيث أعلن الطائع لله (حكم من 363 – 381هـ) تنازله عن جُل مسئولياته لهم في موقف رسمي لزعيم البويهيين جاء فيه: «قد رأيتُ أن أفوِّض إليك ما وكلَ الله تعالى إليَّ من أمور الرعية في شرق الأرض وغربها، وتدبيرها في جميع جهاتها سوى خاصّتي وأسبابي، وما وراء بابي، فتولّ ذلك». ولم يكن من الغريب أن يخلعه البويهيون فيما بعد، ويولّوا بعده ابن عمّه القادر بالله.


الماوردي بين الخليفة والسلطان!

في ظل تلك الأجواء في بغداد عاش أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي (364هـ – 450هـ) الذي كان والده بائعًا لماء الورد في البصرة فنُسب إليها. لقد تدرج في تعلم العلوم الشرعية، فنشأ متخصصًا في الفقه الشافعي، حتى تسنّم مرتبة الاجتهاد فيه، ثم تولى قضاء الشافعية في عدة مناطق من العراق، واشتُهر الماوردي شهرة واسعة لرسوخ علمه وحُسن أخلاقه وتواضعه، فأضحى لقبه «أقضى القضاة»، ولم تتوقف شهرته عند التأليف الفقهي الموسوعي، وتوليه القضاء، بل إنه تقرّب من بلاط من الخليفتين العبّاسيين القادر بالله (حكم من 381- 422هـ)، وابنه القائم بأمر الله (حكم من 422هـ – 467هـ)، ولعب في ظل هذين الخليفتين أدوارًا سياسية ودبلوماسية مهمة.

لقد رأى الماوردي ضعف الخلفاء ومهامّهم أمام البويهيين المتنفذّين، وعاصر إعلان الخليفة القادر بالله عن عقيدة أهل السنة والجماعة كأيديولوجيا سُنية في مواجهة النفوذ الفكري والسياسي للشيعة الفاطميين الذين أضحى نفوذهم يؤرق الخلافة العباسية في الشام وشمال العراق، والبويهيين الذين تسبّبوا في تجرؤ الشيعة الإمامية في بغداد وجنوب العراق على أهل السنة ومعتقداتهم. هذا الضعف السياسي الذي كان مشكلة فكرية في حد ذاته حدا به إلى الدفاع عن منصب الخلافة من خلال مؤلّفه الثوري «الأحكام السلطانية».

إن التلاحم الذي لا ينفصم بين الدين والدنيا في نظرية الماوردي في هذا المؤلَّف هو مفتاح أساسي في فهم نظريته. فالخلافة عنده «حراسة الدين وسياسة الدنيا»، ومن ثمَّ فالخليفة/الإمام بوصفه «نائب» أو «تابع» النبي صلى الله عليه وسلم، هو قبل كل شيء الضمان لاستمرارية الشريعة الموحاة، ولتأمين احترامها والاعتراف بها وتنفيذها. والشريعة هي الأسس الأولى للإسلام، والمفاصل الرئيسية التي تحكم التنظيم العام لحياة الفرد والمجتمع. وهكذا تكون مهمة الخليفة أو الإمام مراقبة تطبيق حقوق الله وحقوق العباد في المجتمع الإسلامي.

على أن مستجد الدولة السلطانية القاهرة للخلافة كما البويهيين ثم السلاجقة –وهم الذين تقابل معهم وفاوضهم الماوردي بصفته مبعوثًا للخليفة إبّان دخولهم بغداد- جعله يقبل بوضعيتهم ضمانًا لاستمرار مهام الخلافة العليا، وعلى رأسها: سيادة الشريعة، ووحدة الأمة.

ومن هنا ظهرت مصطلحات جديدة أملتها دلالات الواقع التاريخي آنذاك في «الأحكام السلطانية»، مثل «إمارة الاستيلاء». ففي ظل خليفة قاصر على «خاصّته وأسباب نفسه»، وفي محاولة متوازية مع جهد الإحياء السني اللافت في خلافة القادر بالله وولده القائم بأمر الله، ومقاومَـتَيْهما اللافتة للفاطميين والبويهيين، لم يكن ثمة إشكال في تحقيق هذا التوازن بين السلطان المستولي على الجند والقوة المسلحة، والخليفة الضامن لوحدة الأمة وسيادة الشريعة، وإن هذا القبول هو اضطراري واستثنائي، «فيكون الأميرُ باستيلائه مستبدًا بالسياسة والتدبير، والخليفة بإذنه منفِّذاً لأحكام الدين؛ ليخرج من الفساد إلى الصحة ومن الحظر إلى الإباحة. وهذا وإن خرج عن عُرف التقليد المطلق في شروطه وأحكامه، ففيه من حفظ القوانين الشرعية وحراسة الأحكام الدينية ما لا يجوز أن يَُتركَ مختلًّا مخذولًا ولا فاسدًا معلولًا. فجازَ فيه مع الاستيلاء والاضطرار ما امتنع في تقليد الاستكفاء والاختيار؛ لوقوع الفرق بين شروط الـمُكْنة والعجز».

على أن هذا السلطان المستبد المستولي لن يقبل الرأي العام استيلاءه الاضطراري الذي يحفظ نظامهم وحياتهم، ولن يقبل الفقهاء إمارتهم إلا بسبعة شروط قيّدها الماورديُّ في كتابه الآنف، على رأسها «حفظ منصب الإمامة في خلافة النبوة وتدبير أمور الملة، ليكون ما أوجبه الشرع من إقامتها محفوظًا، وما تفرَّع عنها من الحقوق محروسًا».

وبهذا يتضح ذكاء الماوردي وواقعيته، وتكييفه لنازلة استيلاء السلاطين على حاضرة الخلافة، وعاصمة الدولة الإسلامية. وهو بهذا التكييف الفقهي يعلو بمنصب الخلافة من أوحال الضعف، ويحافظ على شرعيتها القائمة في ظل استبداد السلاطين وقوتهم القاهرة، ويحدّ في الوقت ذاته من قوة هذه السلطنات، ويُنبهها إلى أن سحب الشرعية منها سهل المنال إن تعدت على منصب الخلافة بالافتئات والتنازع. وكم رأينا في تاريخ الخلافة العباسية هذه القوة في منصب الخلافة رغم ضعف الخليفة؛ فبتهديد الخليفة بترك بغداد، وإغلاق مساجدها، وتحريض أهل السنة فيها، يُذعن السلطان البويهي أو السلجوقي فيما بعد، لتعود مياه التوازن بين السلطتين إلى مجاريها.

لقد ظل الحال على هذه السبيل حتى استقل العباسيون في خلافة الناصر لدين الله (ت 622هـ) من أسر الدولة السلطانية السلجوقية، لكن سرعان ما تبخّر وهم هذا الاستقلال مع استفحال الخطر المغولي الذي تمكن من دخول بغداد، والقضاء على الخلافة العباسية سنة 656هـ، فيما بدا لوهلة فشل نظرية الماوردي في «الأحكام السلطانية». لكن إعادة إحياء منصب الخلافة على يد المماليك في القاهرة بعد ذلك بثلاثة أعوام، دلّل بلا شك على قوة الخلافة ثقافيًا وروحيًا، بل وسياسيًا، وعلى وعي الماوردي الذي سبق عصره بضرورة الدفاع عن هذه الخلافة في ظل المستجدات السياسية والتاريخية.

إن الماوردي كان فاتحة عصرٍ جديد من التأليف السياسي في ظل الدولة السلطانية، حاول فيه أبو يعلى الفراء والجويني وابن عقيل والغزالي وابن تيمية وبدر الدين بن جُماعة وغيرهم أن يناقشوا أفكار الماوردي بين القبول والرفض والإضافة في ظل مستجدات ونوازل عصرهم السياسية والدينية، وهذا ما سنقف معه في مقالنا القادم والأخير من هذه السلسلة إن شاء الله.

المراجع
  1. 1. ابن الجوزي: المنتظم في تاريخ الملوك والأمم، دار الكتب العلمية – بيروت، 1992م.
  2. 2. الماوردي: الأحكام السلطانية والولايات الدينية – دار الحديث، القاهرة.
  3. 3. الماوردي: قوانين الوزارة وسياسة الملك، تحقيق رضوان السيد، دار الطليعة – لبنان، 1979م.
  4. 4. وجيه كوثراني: الفقيه والسلطان، جدلية الدين والسياسة في تجربتين تاريخيتين العثمانية والصفوية القاجارية، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، الطبعة الرابعة – بيروت، 2015م.
  5. 5. عبد القادر عودة: التشريع الجنائي الإسلامي مقروناً بالقانون الوضعي، دار الكاتب العربي – بيروت.