في الربع الأول من القرن الثاني الهجري ظهرت فرقة المغيرية في الكوفة، مازجة عقائدها ببعض المعتقدات الفارسية القديمة، فغالى صاحبها في حب الإمام علي بن أبي طالب وأبنائه، وارتفع بهم فوق مرتبة البشرية، ثم ادعى النبوة، وفسَّر القرآن الكريم بما يخدم أفكاره التي نادى بها.

سياق سياسي وفكري

بشكل عام، لا يمكن تحييد الظروف السياسية والاجتماعية والثقافية التي مرت بها الدولة الأموية في أواخر عهدها عن نشأة عدد من الفرق الدينية التي نادت بأفكار بعيدة عن الإسلام شكلًا ومضمونًا، ومنها «المغيرية». يشرح برنارد لويس في كتابه «أصول الإسماعيلية والفاطمية والقرمطية»، أنه بعد أن أقام المسلمون في أكثر أقطار الشرق الأدنى ثقافة، وحكموا أهلها، نشأت ظروف جديدة وانتقلت الحركة إلى طور آخر يختلف عن طورها الأول كل الاختلاف؛ إذ سعى الشيعة كفرقة إسلامية – بعد أن أخفقوا في الحصول على الخلافة التي فاز بها الأمويون – إلى أن يبلغوا النصر ويحققوا لأنفسهم الظفر.

وكان استياء الموالي، والمظالم التي يشكون منها، مرتعًا خصبًا لكل حركة ثورية، فما إن اتجهت الحركة الشيعية إليهم اتجاهًا قويًّا حتى التف حول فرقتها جمع غفير منهم في أجزاء كثيرة من الإمبراطورية الإسلامية، فكان لزامًا أن يؤدي انضمام عدد كبير ممن لم يصح إسلامهم ولم يدخل الإيمان في قلوبهم من الفرس والأرمن والسوريين وغيرهم إلى تغيير جوهري من حيث العقائد والأغراض؛ إذ سرعان ما أخذت موجة زاخرة من المعتقدات الغريبة طريقها إلى المذهب الشيعي متسللة من المسيحية والإيرانية وهراطقة بابل القديمة، وأصبحت مقاليد كثير من الحركات بيد الموالي وغيرهم من الطبقات المضطهدة وسيلة توسلوا بها، واتخذوها ذريعة في ثوراتهم الاجتماعية والدينية ضد ظلم الدولة السنية.

غلو شيعي

حسبما ذكر الدكتور محمد جابر عبدالعال في كتابه «حركات الشيعة المتطرفين وأثرهم في الحياة الاجتماعية والأدبية لمدن العراق إبان العصر العباسي الأول»، تُنسب المغيرية إلى أتباع المغيرة بن سعيد العجلي مولى خالد القسري والي العراق، وكان من أكبر الشخصيات التي ظهرت في عالم الغلو بين المتشيعين، نظرًا للأثر العميق الذي تركته تعاليمه في نفوسهم وجعلها تعيش قرونًا بعده.

كان المغيرة أعمى، إلا أن شخصيته كانت قوية، ويعتبر خروجه بعقيدته حدًّا فاصلًا بين التأرجح بإظهار الغلو وإخفائه؛ إذ خرج بالتطرف في التشيع إلى نقل علي بن أبي طالب وأبنائه من البشرية إلى مرتبة فوق البشر، وذلك بعدما اتخذ (أي المغيرة) محمد بن علي بن الحسين المعروف بـ «الباقر» إمامًا له، لكنه لم يكد يعلم بموته حتى نصَّب نفسه إمامًا، وبعد ذلك ادعى النبوة لنفسه.

وعلا سلطان المغيرة عندما تمكن من خداع الناس بالسحر. في كتابه «تاريخ الطبري» ذكر محمد بن جرير الطبري: «كان المغيرة يخرج إلى المقبرة فيتكلم، فيُرى مثل الجراد على القبور»، وفي كتابه «مقالات الإسلاميين» قال أبو الحسن الأشعري: «إنه يحيي الموتى بالاسم الأعظم، وأراهم أشياء من النيرنجات والمخاريق (أي الغرائب والأفعال الخارقة)». وهذا الذي كان يفعله المغيرة رفع شأنه في أعين أتباعه، فظل اسمه مكينًا عندهم مدة طويلة.

الحد الفاصل

يرى «عبد العال» أن عقيدة المغيرة تعتبر حدًّا فاصلًا في تاريخ الحركات الدينية الإسلامية، خاصة الشيعية؛ لأنها أبرزت فكرتين مهمتين كان لهما أخطر الأثر، ليس في الكوفة فحسب، بل في العالم الإسلامي كله، أما إحداهما فهي تفسيره كلمات في القرآن على أنها تشير إلى رجال بعينهم، كأبي بكر وعمر، وتلك الفكرة استُغلت استغلالًا خطيرًا من قبل عدد من الفرق بعده للتحلل من المحرمات وإسقاط الفرائض، كما عند فرقة «الخطابية» التي ظهرت في مرحلة لاحقة.

وأما الأخرى فهي إحياء العقائد القديمة، التي شاع فيها ما ينكره الدين الإسلامي والأديان السماوية، كالزنا وشرب الخمر والتمتع بملاذ الدنيا، أينما وجدت وكيفما كانت.

معتقدات المغيرية

يستعرض «عبد العال» معتقدات المغيرة، فيذكر أنه قال:

إن الله على صورة رجل من نور على رأسه تاج، وإن أعضاءه على عدد حروف الهجاء، فالألف مثال قدميه، والعين على صورة عينه، وإنه لما أراد أن يخلق تكلم باسمه الأعظم وقال (سبح اسم ربك الأعلى) فطار فوقع على تاجه، ثم كتب بِإصبعه على كفه أعمال عباده من المعاصي والطاعات، فلما رأى المعاصي عرق، فاجتمع من عرقه بحران، أحدهما ملح مظلم والآخر عذب منير، ثم اطلع في البحر فرأى ظله، فذهب ليأخذه فطار فأدركه، فقلع عيني ذلك الظل ومحقه فخلق من عينيه الشمس والقمر وسماءً أخرى، وخلق من البحر الملح الكفار، ومن البحر العذب المؤمنين.

ويذكر عبد القاهر البغدادي في كتابه «الفرق بين الفرق» أن المغيرة قصد بالمؤمنين الذين خُلقوا من البحر العذب الشيعة، بينما قصد بالكفار الذي خُلقوا من البحر المالح أعداء الشيعة.

ويضيف البغدادي على هذه العقيدة أن المغيرة كان يقول بألوهية علي بن أبي طالب، وتكفير أبي بكر وسائر الصحابة إلا من ثبت مع علي.

وبحسب «عبد العال»، يبدو أن هذه الإضافة من أقوال فرقة المغيرة من بعده؛ لأن ابن الأثير الجرزي وهو يتحدث عن مذهب المغيرة بإسهاب في الجزء الخامس من كتابه «الكامل في التاريخ»، وكذلك المتقدمون من النقلة، لا يذكرون أن المغيرة ألَّه عليًّا، ويثبتون أنه قال إن عليًّا مخلوقًا، ويبدو أن المغيرية ألَّهوا عليًّا متأثرين بفرقة الخطابية التي ظهرت في فترة لاحقة وقال أتباعها بتجسد الألوهية في علي وأبنائه.

وحسبما ذكر «عبد العال»، يجمع الذاكرون لمذهب ابن المغيرة أنه كان يقول إن أول ما خلق الله ظل محمد، مدعيًا أن القرآن الكريم يؤيده في ذلك من خلال تفسيره لقوله تعالى: (قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ)، ثم أرسل ظل محمد إلى ظلال الناس، ثم عرض على السموات والجبال أن يمنعن علي بن أبي طالب من ظالميه فأبين ذلك، فعرض ذلك على الناس، فأمر عمر بن الخطاب أبا بكر أن يتحمل منعه من ذلك، وضمن له أن يعينه على الغدر به (أي بعلي)، شريطة أن يجعل أبو بكر الخلافة له (أي لعمر) من بعده، ففعل أبو بكر ذلك، مدعيًا – أي المغيرة – أن ذلك تأويل الآية الكريمة (إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا).

ولإكمال الصورة عن عقيدة هذا الرجل، يذكر الرواة أنه ذهب إلى أن ماء الفرات محرم، وأن كل نهر أو عين أو بئر وقعت فيه نجاسة فهو محرم أيضًا.

وصفاء المغيرة

خرج المغيرة داعيًا إلى عقيدته في سبعة نفر بالكوفة، وكانوا يدعون «الوصفاء»، فأُخبر بأمرهم خالد القسري فأخذهم وقتلهم سنة 119هـ. ويذكر «عبد العال»، أن عدد الذين رافقوا المغيرة موضع اختلاف عند المؤرخين، وليس بعيدًا أن يكون القائلون بأن عددهم سبعة والمغيرة ثامنهم أقرب إلى الصواب من غيرهم، لأن المغيرة كان متأثرًا بالعقائد القديمة، ورقم سبعة له أهمية خاصة في هذه العقائد.

ويذكر أن وصف «الوصفاء» يشير إلى أنهم الخاصة الذين اصطفاهم المغيرة خدامًا للدين، يذودون عنه وينشرون تعاليمه، ما يشير إلى أن الحركة كانت سرية لها تدبير خاص لنشرها وحمايتها من الضياع، وهذا النظام السري للدعوة كان مثالًا عمل على نمطه الخلف من الغلاة فيما بعد.

خليط أديان وثقافات

يذكر خليل أبو رحمة في دراسته «مع المغيرية ومبادئها»، أن المغيرية ظهرت أول الأمر في منطقة الكوفة، والتي شهدت في أواخر القرن الأول الهجري والنصف الأول من القرن الثاني تطرفًا لا عهد للمسلمين به، وكانت مبادئها التي أرساها المغيرة خليطًا عجيبًا من ثقافات مختلفة كانت موجودة في بلاد الرافدين والمناطق المجاورة قبل الفتح الإسلامي، لا سيما المندائية والمانوية والنصرانية، فقد أقام البابليون والآشوريون والكدانيون والفرس واليونان هناك ممالك مختلفة، كما التقت لغات مختلفة كالآرامية والفارسية والعربية وغيرها.

ويظهر تأثر معتقدات المغيرة بالديانات القديمة في أكثر من جانب. يذكر «أبو رحمة» منها أن القول في صفة الله أنه عز وجل على صورة رجل من نور على رأسه تاج من نور، مشابه بشكل واضح لفكرة الإله عند المندائية الذين اعتقدوا، كما جاء في كتابهم «الكنزا»، أن الله ملك النور المبجل، أو هو النور النقي يجلس متوجًا محوطًا بجموع من الملائكة.

وبحسب «أبو رحمة»، يظهر تأثر معتقدات المغيرة بالديانة المانوية في قوله بالانقسام الواضح بين بحرين أحدهما مالح مظلم والثاني نير عذب، وهما يمثلان الشر والخير على التوالي، لأن الله، على حد زعم المغيرة، خلق الكفار من البحر المالح المظلم، وخلق المؤمنين من البحر النير العذب، وهي فكرة ترتبط بتعاليم المانوية، فالخصيصة الرئيسية في تعاليم ماني هي الثنائية الدائمة التي ترفض أي احتمال لرد أصول الخير والشر إلى مصدر واحد، وأن هناك صراعًا مستمرًّا بين قوتين رئيستين هما الخير والشر، والتعارض بين الرب والمادة يُرى في عالم الواقع والطبيعة صراعًا بين النور والظلمة.

وأما قول المغيرة بأن الله اطلع في البحر فأبصر ظله، فذهب ليأخذه فطار، فانتزع عين ظله فخلق منها شمسًا، فيمكن عده تحويرًا لمقولة مندائية تذهب إلى أن «ptahil»، وهو إله أقل شأنًا من الحياة «آلهة عالم النور»، نظر من القبة السماوية على عالم الظلام (الماء الأسود الذي يغطي العالم السفلي) فرأى انعكاس خياله، فولد خالق الكون المادي «Abatur» الذي يعزى إليه خلق الأرض والإنسان.

ويلتقي المغيرة بالمندائية ثم يفترق عنها عندما يحرم استعمال ماء الفرات؛ لأن المحايض والجيف تلقى فيه. يشرح «أبو رحمة» أن نقطة الالتقاء تتمثل في إلحاح الجانبين على أهمية الماء النقي الطاهر، وهي مسألة متعلقة بالطهارة الطقسية، أما نقطة الافتراق فتتضح من موقف المندائية من الأنهار عامة، ونهر الفرات خاصة، فالأرض من وجهة نظرهم تمتد شمالًا فوق الجبال العالية إلى عالم النور الذي تنحدر منه الأنهار عبر الجبال، ولذا فهم باغتسالهم في مياه الأنهار يؤكدون ارتباطهم بالعالم الأعلى، وهم عدوا الفرات كتلة ماء طاهر.

والقول بأن الله خلق ظلال الناس، فكان أول من خلق هو ظل الرسول محمد ثم ظل علي قبل خلق ظلال الكل، يذكر بالتصور البدائي القديم الذي عد الروح ظل الجسم، وقد يكون فيه تحوير لمقولة مندائية ترى أن الروح جُلبت من عالم النور لتجعل آدم كاملًا بعد أن فشل الإله «ptahil» في جعله يقف منتصبًا، بحسب ما ذكر «أبو رحمة».

ثلاث فرق

في سنة 119هـ أمر خالد القسري بقتل وصلب المغيرة بجوار بيان بن سمعان التميمي، أحد غلاة الشيعة، في منطقة واسط بالعراق، كما قُتل أصحابه، ولكن حركته لم تخمد؛ إذ تزعمها من بعده جابر الجعفي، وأنزله أصحاب المغيرة بمنزلة المغيرة نفسه، لكنهم تفرقوا بعد ذلك إلى ثلاث فرق.

فقبل قتل المغيرة مات أبو جعفر بن علي الملقب بـ «الباقر»، والذي اتخذه المغيرية إمامًا لهم، ما ترتب عليه قول المغيرة بإمامة محمد بن عبد الله بن الحسن  بن الحسين المعروف بالنفس الذكية. ويذكر الأشعري في كتابه المذكور آنفًا، أن المغيرة «كان يأمر أصحابه بانتظار محمد النفس الزكية، وذكر لهم أن جبريل وميكائيل يبايعانه بين الركن والمقام، ويحيي له سبعة عشر رجلًا يُعطى كل رجل منهم كذا وكذا حرفًا من الاسم الأعظم، فيهزمون الجيوش ويملكون الأرض».

وبناءً على ذلك تولى أصحاب المغيرة النفس الزكية وثبتوا على إمامته حتى بعد مقتل المغيرة نفسه، فلما قُتل إثر خروجه على العباسيين بالمدينة سنة 145هـ افترقت المغيرية، ففريق رفض خروج النفس الزكية ومقتله، وقالوا: «لم يكن الخارج محمد بن عبد الله، وإنما كان شيطانًا تمثل في صورته، وأن محمدًا المهدي المنتظر سيخرج ويملك على ما قال المغيرة»، واعتقدوا أنه مقيم في جبل من جبال حاجر، وهؤلاء يسمون بالمحمدية.

وبحسب «أبو رحمة»، فإن إنكار خروج النفس الزكية ومقتله وادعاء أن شيطانًا تمثل في صورته، قول يُذكر بمذهب مسيحي ظهر في القرن الثاني الميلادي يسمى «دوسيتية»، أو «Docetism»، حيث أنكر حقيقة جسدية المسيح، كما أنكر قتله وصلبه، ثم إنه يذكر بمقولة ماني الذي قرر أن المسيح لم يُصلب، وإنما الذي صُلب شيطان تمثل صورته.

أما الفرقة الثانية فصدَّقت مقتل محمد النفس الزكية، فصاروا لا إمام لهم ولا وصيًّا، ولا يثبتون لأحد إمامة بعده. وفرقة ثالثة رأت أن المغيرة كذب في دعواه بأن محمد الزكية هو المهدي الذي يملك الأرض، لأنه قُتل ولم يملك الأرض ولم ينجح في الوصول إلى الحكم.