كان «المختار الثقفي» أحد الشخصيات المُلهِمة، والتي كانت مثار خلاف بين المؤرخين، وتم إلصاق التهم به، وأخطرها كان الزندقة. والمختار شخصية كبيرة وقوية ينتمي لقبيلة «ثقيف» إحدى أهم وأكبر قبائل الطائف ببلاد الحجاز، وكان من شيعة الإمام علي بن أبي طالب، وكان مُؤمنًا جدًا بمبادئه وطريقته في الحكم. وقد استطاع تتبع قتلة الحسين بن علي (في كربلاء) الواحد تلو الآخر، وقتلهم جميعًا شر قِتلة، ولكن هناك ممارسات للمختار وضعت حوله الشبهات، فما حقيقة ذلك؟

ما فتئ التاريخ يظلم بعض الشخصيات، أو ينصف البعض؛ وهذا يرجع للأهواء الشخصية، والمصالح الاقتصادية والاجتماعية، ووضع المؤرخ الاجتماعي (مركزه الطبقي)، والمنطلقات الأيديولوجية التي تؤثر في تدوين التاريخ عبر عصوره المختلفة.

وليست سيرة المختار الثقفي بدعًا من السير، وبدعًا من التاريخ؛ فإننا نجد في كتب التاريخ قديمها وحديثها اختلافًا في تناول شخصية المختار، وقد ذكر الخوئي في «معجم رجال الحديث»:

والأخبار الواردة في حقه على قسمين: مادحةٌ وذامة، أما المادحة فهي متضافرة… [1]

ويمكن أنْ نضيف قبل الدخول في موضوعنا: نموذج من عصرنا الحديث، وهو نموذج الثائر العالمي «تشي غيفارا»، والذي شيّطنته الدعاية الإمبريالية؛ باعتباره عدوها اللدود، بينما اعتبره أنصاره قديسًا ثوريًا. وهكذا كان دَيدَن الدعايات والدعايات المضادة.

الظروف الموضوعية تصنع المختار

لا تنفصل الشخصية عن السياق الذي تنشأ وتوجد به، وهناك تعبير لماركس «الظروف تصنع الإنسان، الإنسان لا يصنع الظروف». فالوجود الاجتماعي هو الذي يحدد وعي الأشخاص، بحسب عبارة ماركس المشهورة.

نشأ المختار في ثقيف التي تسكن الطائف، الواقعة في الجنوب من مكة، فهي ضمن السياق الجغرافي للحجاز الممتد من تبوك شمالًا، وحتى تخوم اليمن جنوبًا (بطول ساحل البحر الأحمر). وعُرف عن الطائف أنها كانت بمثابة مصيف أو منتجع للملأ من قريش (أي كبار القوم)، وامتلك بعض القرشيين أراضي وبساتين في الطائف، كـ «عتبة بن ربيعة» من بني أمية، والذي احتمى الرسول (صلى الله عليه وسلم) ببستانه بعد أنْ تعرضتْ له ثقيف بالضرب والطرد أثناء رحلته إلى الطائف.

ثم انتقل المختار إلى العراق مع والده وإخوته؛ أثناء الفتوحات في عهد عمر بن الخطاب، فأبوه كان من قادة جيوش الفتوحات التي اشتبكت مع الفرس، ولقي مصرعه في معركة الجسر، وعددٍ من أولاده. وسكن المختار مع عمه «سعد بن مسعود الثقفي» مدينة المدائن (عاصمة الفرس القديمة)، والتي فتحها المسلمون.

ونستنتج من المصادر أن المختار شارك في حروب الإمام علي في الجمل وصفين إلى جانب عمه، لكن المؤرخين أغفلوا ذكره؛ فهو لم يكن ذا شأن، فمنْ كان مع الإمام كانوا من بعض كبار الصحابة، ممّنْ شهدوا بدرًا، والذين أسلموا مع بداية الدعوة؛ فكانوا هم الأشهر والأوسع صيتًا، وقد لفت النظر إلى ذلك الباحث «سالم لذيذ» في كتابه «شخصية المختار الثقفي عند المؤرخين القدامى». [2]

المختار كقائد ثوري

مقتل الحسين بن علي وأهل بيته في كربلاء عام 61هـ، لم يكن سهلاً، فهذا الحدث قد زلزل الدولة الأموية، وترتب عليه نتائج كارثية. كان من أبرزها نهاية الفرع السفياني (نسبةً لأبي سفيان)، الذين أسّسوا الدولة الأموية، فقد واجه يزيد الخليفة المتاعب والصعوبات، وعمّتْ الفوضى جميع الأمصار أو أغلبها؛ فخرج عليه أهل المدينة، وابن الزبير (عبد الله) في مكة، وثارت الخوارج، وتوفي يزيد في ظل هذه الفوضى العارمة، وتمزقت عُرى البيت الأموي، بعد تنازل ابنه معاوية الثاني (معاوية بن يزيد عن الحكم).

وتجدر الإشارة إلى أنَّ يزيدًا اتّبع سبل القهر والتعسف والقمع لوأد هذه المعارضات المناهضة للسلالة الأموية، مثل استباحة المدينة بعد معركة الحَرَّة، وقتل جل كبرائها، وذلك عام 63هـ، إضافة إلى حصار مكة وإحراق الكعبة على يد قائد جيش يزيد «الحصين بن نمير»، وذلك في حرب ابن الزبير الخارج بمكة.

ولم يكن العراق بأفضل حالٍ وبخاصة الكوفة مركز شيعة الإمام علي وأولاده (والتي قُتل بالقرب منها الحسين وأصحابه في معركة كربلاء)؛ فانتهزت مجموعات الشيعة فرصة وفاة يزيد وبدأوا انتفاضة عارمة (كانوا يعدون لها منذ مقتل الحسين على ما يبدو)، وعُرفوا بالتوّابين (لأنهم خذلوا الحسين؛ وأرادوا التكفير والتوبة عن خذلانهم إياه)، وقادهم «سليمان بن صُرَد الخزاعي» في واقعة انتحارية هي واقعة «عين الوردة» عام 65هـ؛ انتهت بتصفية التوّابين.

هذه الواقعة أعطتْ الفرصة للمختار الثقفي كي يدير دفة الأمور، ويتسلم بشكل فعلي قيادة الشيعة؛ وبدأ يَعُدّ العدة لأخذ الحكم في الكوفة وعموم العراق الذي كان في حوزة الزبيريين، وقد كان.

يقول الدكتور «محمود إسماعيل» في هذا الصدد:

لقد كانت نقلة من العمل الثوري العفوي المتشنج، إلى النضال المنظم دعائيًا وعسكريًا، كما عبَّرتْ عن خفوت صوت العصبية القبلية والعنصرية أمام بروز العامل الطبقي الواضح. وحسبنا أنها استقطبت القوى الاجتماعية المستضعفة من العرب والموالي على السواء، في مواجهة الأرستقراطيتين العربية والفارسية. [3]

إذن قيام المختار وأنصاره بالثورة، ومن ثَمَّ الانتقام الشامل من قَتَلَة الحسين بن علي؛ حدث بار، أفاض فيه المؤرخون، كلٌ حسب طريقته وانتمائه المذهبي والأيديولوجي، والثورة في العراق كانت مُبرَرة؛ بسبب ما عاناه الناس من ظلم، وبخاصة الطبقات الشعبية من الحرفيين والفلاحين البؤساء، الذين أثقلتْ كاهلهم الضرائب والمكوس من جهة، وتسلط الولاة سواء من قبل الأمويين (مثل زياد بن أبيه، وابنه عبيد الله)، أو ولاة عبد الله بن الزبير بعده، وقد نال الموالي (وهم من الأعاجم، وجلهم من الفرس الذين اعتنقوا الإسلام) القسط الأكبر من الحيف والضيم من قِبل الأمويين والزبيريين على السواء، ورافقهم في ذلك الأرقاء (العبيد الذين يعملون في الأرض).

ويضيء نص الدكتور «محمود إسماعيل» هذا الكلام أكثر في عبارته:

وقد مست هذه الإجراءات المتعسفة جماهير الموالي بشكلٍ خاص، لقد نظر الأمويون إليهم باعتبارهم كمًا مهملًا، يجب أنْ يُقتل شطر منهم، أمّا الشطر الآخر فيسخر لإقامة الأسواق وعمارة الطرق، وفي ذات الوقت أسرف فيه ولاة العراق في استرضاء الأرستقراطيتين العربية والفارسية. [4]

ويرى الباحث «أمبارك محمد فرج» الموضوع من زاوية أخرى:

نرى أن مجمل خطوط التماس حول ملكية الأرض في القرن الأول الهجري، قد تمركزت حول خطين أساسيين: أنصار الملكية العامة، وأنصار الملكية الخاصة، وقد حُسمت منذ وقت مبكر، ولكنها عادت للظهور من جديد طيلة العصر الأموي، حيث سجّلت الملكيات الخاصة توسعها على حساب الملكيات العامة، وكان أبرز الأمثلة على ذلك أرض الموات، والأراضي التي جلى عنها أهلها، والأرض المتروكة، والأرض التي أصبحت لا مالك لها عقب وفاة أهلها، وأخيرًا أرض الإقطاع والصوافي. [5]

أي أن فهم مفتاح الصراع الناشب بين الفرقاء، لا يمكن فهمه بدون فهم قضية ملكية الأرض، بوصفها قضية محورية في فهم أبعاد الانتفاض الجماهيري، وفهم ديناميكات الصراع الطبقي، ولذا تجلى الصراع كنورٍ ساطع؛ عاكسًا تناقضات العصر الأموي طوال حقبته الزمنية.

المختار عند المؤرخين

أدرك «الخوئي» (وهو من المراجع الكبرى للشيعة، 1899- 1992م) في ترجمته للمختار انقسام الآراء حول شخصية المختار، كما أشرنا في بداية المقال، فهناك فريقٌ تحامل على المختار، ولصق به شتى التهم بحقٍ وبدون وجه حق، وفريقٍ ثان حاول أنْ ينتصر للمختار؛ وسبب ذلك في تقديرنا يعود إلى وضعية كل مؤرخ، وما يتبناه من مواقف ورؤى، فتناول المؤرخ السني يختلف عن الشيعي لاختلاف الانتماء المذهبي، وتناقض الروايات؛ وسقم بعضها الذي لم يصمد أمام النقد والنقض على السواء.

ولم يسلم كذلك منْ الذين كتبوا في الفرق، لأنهم نسبوا إليه فرقة الكيسانية، وهي فرقة اعتبرها البعض من غلاة الشيعة، ساقت الإمامة في محمد بن الحنفية (محمد بن علي بن أبي طالب)، وجعلته مهديًا منتظرًا في جبل رضوى بمكة، كما أشار كُثيَر عزة الشاعر في بعض قصائده، والتي استشهد بها من كتبوا في الفرق. [6]

وقد تناول المستشرقون كذلك شخصية المختار، وحاولوا تقديم رؤية بعضها موضوعي والبعض الآخر له ما له وعليه ما عليه. فأمّا الفريق الذي هاجم المختار، فقد ألصق به العديد من التهم، تتلخص في:

  1. التقلبات السياسية: فالمختار بدأ عثمانيًا (أي من المطالبين بثأر عثمان، ثم صار خارجيًا (من الخوارج)، ثم صار علويًا (من شيعة علي وأبنائه). وقد فسّر هذا الفريق تقلبات المختار؛ بأنه يسعى للسلطة والجاه (بلغة سياستنا الحديثة: براجماتية، أو مبدأ ميكافيللي: «الغاية تبرر الوسيلة»).
  2. الزندقة وادعاء النبوة.

وقد مَثّلَ هذا الفريق المُهاجِم للمختار كل من: البلاذري، وابن الأثير، وابن كثير، والذهبي، أي جل المؤرخين السنّة، أو القريبين منهم. أمّا الطبري فكان يعتمد على روايات مختلفة، أي كان يذكر روايات تمدح المختار أحيانًا، وأخرى تذمه. ويشمل هذا الفريق كذلك منْ داونوا في التراجم مثل: ابن سعد في «الطبقات»، وابن حجر في «الإصابة في تمييز الصحابة»، والذهبي في «سير أعلام النبلاء»… وغيرهم.

ولم تخل كتب الشيعة هي الأخرى من روايات تتهجم على المختار، وتتناقض مع روايات مادحة. من أبرزها كتاب: «معرفة الرجال»، المعروف بـ «رجال الكشي» فذكر -مثلًا- على لسان «حمدويه»:

حدثنا يعقوب عن ابن أبي عمير، عن هشام بن المثنى، عن سدير، عن أبي جعفر قال: «لا تسبوا المختار؛ فإنه قتل قَتَلَتَنَا، وطلب بثأرنا، وزوّج أراملنا، وقسَّمَ فينا المال على العسرة». [7]

وواضح من الرواية، أن بعض الشيعة كانوا يسبون المختار، وأورد الكشي روايات أخرى في ذم المختار، لا يتسع المجال لذكرها، قام بتضعيفها وتفنيدها أبو القاسم الخوئي في موسوعته «معجم رجال الحديث»؛ إمّا بسبب علل في أسانيدها، حيث إنَّ الكشي يروي عن ضعفاء، أو أنها لا تستقيم مع السياق التاريخي، فالمختار هو منْ قام بالـثأر لآل البيت، وقتل قتلتهم وكان يرسل الأموال والهدايا للإمام محمد بن الحنفية. [8]

إذن هناك اختلافات في التناول بالنسبة لشخصية المختار، الذي بدا ظالمًا أحيانًا، ومظلومًا في أحيانٍ أخرى. وفي عام 2009، تم إنتاج المسلسل الإيراني: «المختار الثقفي»، وقام بدوره الممثل الإيراني «فاريبورز أربنيا»، وأخرجه «دواد ميرباقري»، وقد انتصف المسلسل للمختار وردّ إليه اعتباره المفقود في كتب التاريخ وروايات الرواة.

المراجع
  1. أبو القاسم الخوئي، “معجم رجال الحديث وتفصيل طبقات الرواة”، مؤسسة الإمام الخوئي الإسلامية، النجف الأشرف، بدون تاريخ نشر، ط1، صـ104.
  2. سالم لذيذ والي الغُزي، “شخصية المختار الثقفي عند المؤرخين القدامى”، العتبة الحسينية المقدسة (قسم الشئون الفكرية والثقافية، شعبة الدراسات والبحوث الإسلامية)، كربلاء، ط1، 1436هـ، 2015م، صـ 66.
  3. محمود إسماعيل، “فرق الشيعة بين التفكير السياسي والنفي الديني”، دار سينا للنشر، القاهرة، ط1، 1995م، صـ 14.
  4. المرجع السابق، صـ 16.
  5. أمبارك محمد فرج، “تطور نظام ملكية الأراضي في الإسلام (1- 132هـ، 622- 749م)”، رسالة دكتوراه، كلية الآداب، قسم التاريخ، جامعة الخرطوم، 2007م، المقدمة، صـ ط.
  6. ألا إنًّ الأئمةَ من قريشٍ *** ولاة الحق أربعة سواءُ
    علي والثلاثة من بنيه *** هم الأسباط ليس بهم خفاءُ
    فسبطٌ، سبطُ إيمان وبرٍ *** وسبطٌ غَيَبَّته كربلاءُ
    وسبطٌ لا يذوق الموت حتى *** يقودُ الخيلَ يَقْدُمُهُ اللواءُ
    يغيبُ ولا يُرى فيهم زمانا *** برضوى عنده عسلٌ وماءُ
  7. الشهرستاني، “الملل والنحل”، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، ط2، 1413هـ- 1992م، صـ 148 وما بعدها.
  8. الطوسي (أبو جعفر محمد بن الحسن)، “اختيار معرفة الرجال (المعروف برجال الكَشِّي)”، ت، جواد القيومي الأصفهاني، مدرسة النشر الإسلامي، قُم المقدسة، ط1، 1427هـ.ق، صـ 118.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.