المتنبي من جديد، والمتنبي مرارًا وتكرارًا. ما زال يتحدانا الرجُل بعد ما يقارب 11 قرنًا من نومِه الطويل ملءَ جفونه في قبره، أن نظل نسهرُ ونختصمُ في كل شاردة وواردة مما أبدعَ في حياتِه الشعرية العامرة. هذه المرة، ستكون الجولة مع مصر التي أذلت المتنبي وقهرت طموحاته العريضة، فلم يكتفِ بالهجرة منها كما فعل ويفعل الكثير من أبنائها الساخطين، إنما ردَّ لها في شعره الصاع صاعيْن، ومنحها وحاكمَها كافور الإخشيدي، بحقٍ وبغير حق، (تجريسةً) شعرية تاريخية ما زلنا في هذا الزمان المتأخر نتداولَها، ونضرب كفًّا بكف من غلوِّ شاعر العربية في الخصومة، ومن (نابه الأزرق) بلغة المصريين الدارجة.

أنا الذي نظرَ الأعمى إلى أدبي ….. وأسمعتْ كلماتي من بهِ صممُ
أنامُ ملءَ جفوني عن شواردِها ….. ويسهرُ الخلقُ جرَّاها ويختصمُ!
المتنبي

في مصر: قهرٌ ومرض وقلة تقدير

.. بدت فيه منذ حداثته نزعة شديدة إلى التشاؤم والثورة على الدهر والناس
الراحل شوقي ضيف متحدثًا عن المتنبي في كتابه (الفن ومذاهبه في الشعر العربي)

جاء المتنبي الساخط على زمانه ومكانه من هذا الزمان، إلى مصر محتقنًا بالآمال أن ينال فيها ما لمْ ينلْه في بلاط سيف الدولة الحمداني في حلب.. الحكم والإمارة، فلم يكن اعتلاؤه عرشَ الشعر العربي في زمانه مشبعًا لنفسه الوثَّابة التي تريد أمجادًا واقعية من السلطة والسطوة تُلمَس باليديْن، وتُرى حقيقةً لا مجازًا. فجاء إحباط المتنبي هادرًا على قدر تلك الآمال المتبخرة، فقد أغفل كافور بقصدٍ وبغير قصد ما طلبه المتنبي مئات المرات تلميحًا وتصريحًا وبينَ بيْن.

وَغَيْرُ كَثِيرٍ أَنْ يَزُورَكَ رَاجِلٌ ….. فَيَرْجِعَ مَلْكًا لِلْعِرَاقَيْنِ وَالِيَا

اكتفى كافور بمنح المتنبي بعض المال والأملاك، وأورثه كثيرًا من حقد بطانته على هذا الدخيل الطوارئ المتعالي، لكنَّه لم يضع تحت تصرفه جيشًا غازيًا كما طلب منه صراحة في شعره، ولم يكِل إليه مهمة إدارية وسياسية صغيرة تُرضي مثقال ذرة من طموحه الجامح.

فقد تهبُ الجيشَ الذي كانَ غازيًا ….. لسائلكَ الفردِ الذي جاءَ عافيا

ثم لمَّا خشي من غضب المتنبي وإحباطه، لم يتركْه يمضي إلى حيث يريد خوفًا من أي يهجوه عندما يتخلَّص من سلطانه، فوضعه تحت ما يشبه الإقامة الجبرية في عصرنا الحالي، التي سيثبت التاريخ أنها كانت من أسوأ القرارات التي اتخذها كافور في حكومته، إذ لم يدفع حاكمًا ثمنًا خالدًا من كرامته وكرامة بلده لخصومته مع شاعر، مثلما حديث مع كافور بلسان المتنبي الماضي.

وكان من أشد ما لاقاه المتنبي في مصر، وألقى به في هاويةٍ من الألم النفسي، جعلته يجترُّ مخزون إحباطاته وشكواه الذي لا ينضب، إصابته بحُمّى شديدة كادت تذهب بحياته – لعلَّها كانت داء الملاريا – فسجَّلها للتاريخ في واحدةٍ من أروع قصائده (ملومكُما يجلُّ على الملامِ) وقف فيها يحاكم مصيبة المرض تلك الذي لا يدري كيف نجحت في التسلل إليه وسط كل ما يقف ببابه من الهموم وأسقام الروح والطموح.

أبنتَ الدهرِ عندي كُلُّ بنتٍ ….. فكيفَ وصلتِ أنتِ من الزحام؟!
جرحتِ مُجرَّحًأ ما عادَ فيه ….. مكانٌ للجروحِ ولا الكِلامِ

والأقسى من السقم نفسه، أن يشكو المتنبي من أن طبيبه في مصر عاجزٌ عن تشخيص الداء الحقيقي الذي يعصف به، فيحيلُ باللائمة على الطعام والشراب على عادة الأطباء، بينما ما يكاد يُهلك المتنبي هو أنه يحترق بنار طموحه المكبوت، وأن الطاقة الكامنة للعلو والانطلاق في سُدُم المجد، تقتله بالسكون المُمرض، كالفرس القوي المعتاد على الحرب والنشاط، بينما يقتلُه طول الراحة.

يقولُ ليَ الطبيبُ أكلتَ شيئًا ….. وداؤكَ في شرابِكََ والطعامُ
وما في طبّهِ أنَّي جوادٌ ….. أضرَّ بجسمِهِ طولُ الجِمامِ
(الجِمام: الراحة، ويقصد بها البطالة)

ثمَّ لخَّص المتنبي مأساته المُحبطة ومأساتنا؟! في مصر ببيتيْن من الحكمة منحهُما أكسير الشباب الخالد، فلم يظهر في رونقهما – للأسف – تجعيدة واحدة. يشكو المتنبي من أيامٍ طوالٍ ضائعات في مصر بغير جدوى، فمكاسب البقاء فيها شحيحة وكاسدة، بينما مخزونات الحسد والحُسَّاد وفيرة ورائجة (يشبه هذا المعنى ما قاله في البيت: ماذا لقيتُ من الدنيا وأعجبُهُ …. أني بما أنا شاكٍ منهُ محسودُ) مما أدخله في دوامةٍ لا نهائيةٍ من الاكتئاب وسقوط الروح، نتيجة الفجوة الهائلة بين طموحاته صعبة المنال في فضاء العلا السحيق، وواقعه المزري على الأرض في أسفل سافلين.

أقمتُ بأرضِ مصرَ فلا ورائي ….. تخُبُّ بي الركابُ ولا أمامي
قليلٌ عائدي سقِمٌ فؤادي ….. كثيرٌ حاسدي صعبٌ مرامي

وهكذا لم يعُد المتنبي يرى حلًَّا لواقعه الأسيف في مصر سوى الرحيل الفوري منها مهما كانت المخاطرة، حتى لو هام على وجهه في جردائها تحت قصف رمالها الهوجاء، ولهيب حرارة شمسها المحرقة ..

ذراني والفلاةَ بلا دليلٍ ….. ووجهي والهجيرَ بلا لِثامِ
فإني أستريحُ بذي وهذا ….. وأتعبُ بالإناخة والمقامِ
ذراني: اتركاني – الفلاة: الصحراء القفر – الهجير: الحر الشديد

اقرأ: يضيقُ الجلد عن نفسي: المتنبي مصابًا بكورونا

ولأنَّ المتنبي كان من استثناءات القاعدة الراسخة عن الشعراء (وأنَّهم يقولون ما لا يفعلون)، فقد فعلها، وفرَّ في رحلةٍ كالأسطورة، بدأها خلسةً ليلة العيد الذي انشغل به حراسه خلَّدها في واحدةٍ من أقوى القصائد في تاريخ الشعر العربي، وعاد إلى هوايته الأثيرة بالسفر والترحال خلف حلمٍ جليٍّ خفيٍّ كفراشةٍ تبرق في غمرات نورٍ سرمدي لا تستطيع إلى الإقرار بجلالها وإن عجزتَ عيناك التي يغشاها الضوء عن وصفها

يقولونَ لي ما أنتَ في كُلِّ بلدةٍ ….. وما ترتجي؟ ما أرتجي جلَّ أن يُسمى

ودَّعتُ البلادَ بلا سلامِ!

لتعلمَ مصرُ ومن بالعراقْ ….. ومن بالعواصمِ أني الفتى!
وأنّي وفيْتُ وأنّي أبيتُ ….. وأنّي عتوتُ على من عتا!

من أبرز ما تجسَّد فيه شجاعة المتنبي وجرأته في سبيل طموحاته الهائلة، ونفاد صبره على تحمل الإهانة وجرح الكرامة، هو رحلة فراره الأسطورية من مصر، التي لشدة اعتزازه بها، خصَّص لها اثنتيْن من أشهر قصائده وأقساها لغةً، وهما (ألا كلُّ ماشية الخيزلي) و(عيدٌ بأية حالٍ عدت يا عيد). وتلك الثانية يكاد لا يوجد عربيُّ في زماننا إلا ويعرفها، وتخطر بباله كل عيد، ويستشهد بها إذا كان محزونًا أو مكروبًا، وإن لم يعلم أكثر هؤلاء المناسبة التي قيلت فيها.

في قصيدته المقصورة، الرائعة والعنيفة في آن (ألا كل ماشية الخيزلى) يتغزَّل في ناقته التي تهرع به من أرض مصر التي جارت على أحلامه، ويكيل لنفسه المدائح على جرأته في المقامرة بحياتِه لكي يحظى بإحدى الحسنييْن، النجاة والانطلاق أو الموت في سبيل الانعتاق.

ضربتُ بها التيهَ ضربَ القِمار ….. إمَّا لهذا وإما لذا
* التيه هي صحراء التيه في سيناء، وفي استخدامها هنا بلاغة إضافية لتعبير الاسم عن تيه المتنبي في رحلة فراره نحو طموحه

ثم خلَّد المتنبي كل بقعةٍ مرَّ بها أو – فكرَّ أن يمر بها – في رحلة فراره من مصر إلى العراق عبر سيناء وشماليْ الجزيرة العربية والشام ..نخل، النُّقاب، وادي المياه، وادي القرى، تربان، حِسمى، الكِفاف، كبد الوهاد، وادي الغضا، بُسيْطَة، عقدة الجوف، صَوَر، الشغور، الجُميعيّ، الأضارع، الدَّنا، أعكُش .. وانتهاءً بالرُّهيْمة على مقربةٍ من مسقط رأسه بالكوفة في العراق. وهنا، وبعد أن بلغ مأمنه، انطلق بغير عقالٍ في إعلان انتصاره، والفخر بجسارة قلبه الذي يركب به غمار كلّ صعب إلى مُبتغاه.

وما كلُّ من قالَ قولًا وفى ….. ولا كلُّ من سيمَ خسفًا أبى
ومن يكُ قلبٌ كقلبي لهُ ….. يشقُّ إلى العزِّ قلبَ التَّوى

وفي خواتيم تلك القصيدة الخالدة حاول المتنبي بخُبثٍ شديد، وبمهارة فلسفية بهلوانية، أن يتنصّل من تهمتي التناقض والنفاق، لمبالغته أولًا في مدح كافور لدى وروده مصر، ثم إسرافه الآن في هجائه وانتقاصه عندما صدَر عنها ظمآنًا لم يجد ما يبلّ ريق طموحه الضخم، فقال:

وشعرٌ مدحتُ به الكركدنَّ ….. بين القريضِ وبين الرُّقى
وما كان ذلك مدحًا له ….. ولكنَّه كان هجو الورى!

هكذا بجرة قلمٍ، انتقل كافور في شعر المتنبي من الوصف بالبحر الزاخر الذي من قصده استهان بغيره (قواصدَ كافورٍ تواركَ غيره …. ومن قصدَ البحرَ استقلَّ السواقيا ..) ومن جمع الله فيه كل أمارات ومعاني الفخر والعزة التي يتفاخر الناس بواحدة منها (يُدلُّ بمعنىً واحدٍ كلُّ فاخرٍ ….. وقد جمعَ الرحمنُ فيكَ المعانيا!) إلى أن أصبح حيوانًا أسمر ضخم الجثة، يُمدَح تجنبًا لوحشيته وأذاه.

ثم ينقل المتنبي فوهة بندقيته الشعرية (السيكوباتية) بغتة إلى كل أهل زمانه، ويقول إنه كل مدائحه لكافور في الزمن الغابر إنما كانت هجاءً باطنيًّا لكل أهل هذا الزمن الكنود، الذي لا دلالة بنظر المتنبي على احتقارهم جميعًا إلا أن يكون من يستحق فيهم المدح هو هذا (الكركدن) الذي غمِطَه ما كان يراه حقه في الإمارة والصدارة.

وفي أبياتٍ أخرى بنفس القصيدة وبغيرها، كال المتنبي لكافور تسديدات هجائية ساحقة من الزوايا التي لا يسكنها إلا الشياطين، فوصفه بالخُويْدم، وهو تصغير للفظ خادم للتحقير – وصفه في قصيدة أخرى «كويْفير» تصغيرُ للتحقير أيضًا – وبالأعمى، وبالجاهل، وبأنَّ عقله في مكانٍ آخر – لا يليق ذكره – بعيدًا عن رأسه، وبأنَّه لا يُسمع له صوت إلا إذا كان يهذي، أو يـ … يطلق أصواتًا لا تصدر من الفم! وكان هذا الهجاء اللاذع جريًا على عادة المتنبي إذا احتقرَ عقلَ من يهجوه، إذ يسُبَّه بشكلٍ مباشر دون ألاعيب شعرية أو أساليب بلاغية ومجازية غير مباشرة.

ما كُنتُ أحسبُني أحيا إلى زمنٍ ….. يُسيءُ بي فيهِ كلبٌ وهو محمودُ!

اقرأ: غربة المتنبي واغترابنا

تجريس مصر والمصريين!

أكلما اغتالَ عبدُ السوءِ سيدَهُ …..أو خانَهُ، فلهُ في مصرَ تمهيدُ؟!
نامتْ نواطيرُ مصرٍ عن ثعالبها ….. فقد بشِمنَ وما تفنى العناقيدُ!
(النواطير: الحراس – بشمن: سمنت لكثرة ما أكلت)

استكمالًا لما أشرنا إليه في الفقرة السابقة، ما إن بلغَ المتنبي مأمنَه في العراق بعيدًا عن سطوة كافور، وتنفَّس صعداء نجاته الصعبة، حتى لقَّم مدفعية قريحته الشعرية الثقيلة، وشرع يضرب ولا يبالي، مطلقًا زخات قذائف هجائه على حاكم مصر وبطانته وشعبها المستكين لحكمه، في أبياتٍ سجَّلها التاريخ بجراحاتٍ غائرة على صفحاته، واخترقت حُجُب الزمكان، وما زال كل ناطقٍ بالعربية يستعيدها من حين لآخر من قاموس المضحكات المبكيات. ووصف (المضحكات المُبكيات) الذي لا يزال رائجًا إلى اليوم، ويبدو أنه سيظل كذلك إلى أن يرث الله الأرضَ ومن عليها، يحمل توقيع المتنبي في هذا البيت الشهير من نفس القصيدة المقصورة المُتخمة بأعلى عليين وأسفل سافلين من إبداعات المتنبي.

وماذا بمصر من المضحكات …… ولكنَّهُ ضحكٌ كالبُكا!

أما خاصة مصر من حاشية كافور، الذي خشوْا من منافسة المتنبي لهم على الحظوة ومغانم الحكم، فقد نالوا نصيبًا وافرًا من الهجاء بالسباب، فهم لم يحسنوا إكرام ضيفهم الاستثنائي المتنبي، ولم يحصل منهم ومن سيدهم سوى على وعودٍ كاذبة باللسان، جريًا على عادة المصريين في ما يسمى (عزومة المراكبية) باللغة الدارجة المعاصرة.

إِنِّــي نَــزَلْــتُ بِــكَــذَّابِـيـنَ ضَـيْـفُـهُـمُ ….. عَـنِ الْـقِـرَى وَعَـنِ الـتَّـرْحَـالِ مَحْدُودُ
جودُ الرجالِ من الأيدي وجُودُهُمُ ….. من اللسانِ، فلا كانوا ولا الجودُ
أمسيْتُ أروحَ مُثرٍ خازنًا ويدًا ….. أنا الغنيُّ وأموالي المواعيدُ!

بل اشتطَّ المتنبي في هذا الهجاء إلى حد ادعاء أن ملك الموت يتقزَّز كثيرًا عندما يقبض أرواح هؤلاء إذا ماتوا، فيستخدم شيئًا طويلًا ليقبض به الروح عن بُعد

ما يقبضُ الموتُ نفسًا من نفوسِهِمِ ….. إلا وفي يدِهِ من نتنِها عودُ!

ثم أسرف أبا الطيب وقسا في الخصومة حتى سخرَ من مرضهم الذي كان منتشرًا آنذاك، لعلَّه البلهارسيا، ومن العجائب أنه قد أصاب بعض الصواب من الناحية الطبية فحسب، فتلك الدودة كانت حتى وقتٍ قريب تُتلف أكبادَ المصريين، فتسبب لهم الاستسقاء الذي ينفخ البطن حتى تُصاب بالفتاق، وتزداد نسب الهرمونات الأنثوية قليلًا في أجساد الرجال منهم.

من كلِّ رِخوٍ وِكاءَ البطنِ منفتقٍ …… لا في الرجالِ ولا النسوانِ معدودُ

وفي قصيدة هجائية قصيرة أخرى، يعرِّض المتنبي بقوة دين المصريين وكرامتهم، فيؤنبهم على اكتفائهم من دين العزة ببعض السنن كقص الشارب، بينما يتركون عبيدهم – يقصد كافور – الظالمين في رأيه يتلاعبون بالحكم ومصائر الدولة، والشطر الثاني في البيت الثاني أشهر من نارٍ على علم، ويُستعار لذم مصر إلى لحظة كتابة هذه السطور، ويبدو أنه لا تاريخَ محددًا لانتهاء صلاحيته في هذا الغرض.

ساداتُ كلُّ أناسٍ من سُراتِهِمِ ….. وسادةُ المسلمين الأعْبُدُ القُزُمُ
أغايةُ الدينِ أن تُحفوا شواربَكُم ….. يا أمةً ضحكتْ من جهلِها الأمم

ورمى المتنبي المصريين بالنفاقِ الفجّ لحاكمهم، ومدحه بما هو النقيض التام لحقيقتِه كما يراها المتنبي ..

وأسودُ مشفرُهُ نصفُهُ ….. يُقالُ لهُ أنتَ بدرُ الدُّجى!

ووصفَ المصريين جميعًا بالعبيد لخضوعهم لعبدٍ خصيّ، أذل أحرارَهم واستعبدهم على حد زعم المتنبي (للإنصاف، تخبرنا كتب التاريخ أن حكومة كافور في مصر لم تكن بهذا السوء، وأنه كان من الحكام جيدي الكفاءة في عصره).

صارَ الخصيُّ إمامَ الآبقين بها ….. فالحرُّ مُستعبَدٌ والعبدُ معبودُ

ولا غروَ في كل هذا الانفجار من الذم والاحتقار الشديديْن لكافور ذي الأصول الإفريقية، فقد كان للمتنبي من الأساس موفقًا بالغ العنصرية – يمكن اعتباره بمثابة شعوبية مضادة – تجاه حكام زمانه من غير العرب، الذين كان يراهم لا يصلحون للتغلب على كراسي الإمارة، فلا يصلحون بزعمه إلا أن يكونوا عبيدًا ومواليًا، فقد أفسدوا العرب ودولهم عندما أمسكوا بزمامهم، وأصبح هؤلاء الرعايا الخاضعين مستحقين لضربات سياط المتنبي الشعرية الحانقة مثل حكامهم.

إنَّما الناسُ بالملوكِ ولن ….. تُفلحَ عُربٌ ملوكُها عجمُ
في كلِّ أرضٍ وطئتُها أمَمٌ ….. تُرعى بعبدٍ كأنَّها غنَمُ!

وهذا يشيرُ إلى ظاهرة يلاحظها من يتبحَّر ولو قليلًا في شعر المتنبي، أنه رغم اضطراره غيرَ مرة لكيلِ مدائحه إلى بعض ملوك زمانه من غير العرب من أجل مصالحَ آنية أو كسب بعض المال، فإنَّه كان يودِع في طيات قصائد المدح تلك ما يُعبّر عن شعوره الحقيقي تجاه هؤلاء، مثلما افتتح يائيَّته الشهيرة في مدح كافور بالحديث عن أن أقسى آلام المرء وأدوائه ما لا يكون له دواءً إلا الموت، وأن هذا الموت أهون من ألا تجد حولك أصدقاء مخلصين، أو حتى أعداء يرون لك بعض الهيبة فلا يجاهرون بإظهار عداواتهم استهانة بأمرك.

كفى بكَ داءً أن ترى الموتَ شافيًا ….. وحسبُ المنايا أن يكُنَّ أمانيا
تمنَّيْتَها لما تمنَّيْتَ أن ترى ….. صديقًا فأعيا أو عدوًا مُداجيا

وفي أواخر حياته، عندما قادته الأقدار بسخريتها المعتادة إلى بلاد فارس من أجل امتداح الديلمي – جنس أصوله بين الترك والفرس – عضد الدولة بن بُوَيْه، السلطانُ المتغلَّب على الخلافة العباسية، فإنه حرص على أن يؤكد على في مطلع نونيته الشهيرة أن تلك البلاد، التي كان في واحدةٍ من أبهى جنانِها الطبيعية الخلابة، هي بالنسبة إليه أرض غربة زمكانية، واغترابٍ للروح والمبنى والمعنى.

مغاني الشعبِ طيبًا في الجنانِ ….. بمنزلةِ الربيعِ من الزمانِ
ولكنَّ الفتى العربيَّ فيها ….. غريبَ الوجهِ واليدِ واللسانِ

وما لبث المتنبي غيرَ قليل حتى وافته منيَّتَه بعد رحلته الأخيرة إلى فارس، ويحفظ غالبية أصحاب اللسان العربي قصة تلك النهاية، وبيت الشعر الذي قتل صاحبه، لكن ما يعنينا هنا، أن مصرَ ولو بشكلٍ وغير مباشر قد لعبت دورًا بارزًا في تلك النهاية الدرامية لأكثر شعراء العربية فرادةً، فجفاء مصر وحاكميها له هو ما ألقى به في أتون الاغتراب، واضطره إلى أن يطلب حظِّه عند من كان يصفهم بالأغراب، ومن بين هؤلاء عضد الدولة الديلمي، الذي يُلمِّح بعض المؤرخين أن له يدًا في مصير المتنبي الدموي خوفًا من أن ينالَه منه ما نال كافور. ولكن لهذا قصة أخرى.