يذهب الباحث الفرنسي «جاك ريسلر» إلى أن الإسلام بُني على ستة أركان، وليس خمسة، حيث يضيف الجهاد، ولا شك في أن أوثق من فسر روح الإسلام هم المسلمون في القرون الأوائل، من هنا تتضح حقيقة الركن السادس إذ أنهم أدركوا أن الإسلام يفرض على أتباعه تغيير العالم، فالإسلام ليس دعوة إلى مجرد الاستسلام للمصير. (١)

فالإسلام يطالبنا بالشجاعة ومدافعة الظلم. يقول «ابن القيم» في «مدراج السالكين»:

ليس الرجل الذي يستسلم للقدر، بل الذي يحارب القدر بقدر أحب إلى الله. فيما يقول سبحانه تعالى:

«وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ».  الشورى 39

 نستنتج من الآية أن من يستسلم للظلم لا يتبع الإسلام اتباعًا سليمًا، لأن هذا هو الذي يدعو إليه القرآن، وتؤكده آلاف الأمثلة عبر التاريخ الإسلامي، ورغم ذلك كله، فإن المجتمعات الإسلامية مليئة بالأذلاء والجبناء، والمتزلقين إلى الحكام، إن آلافًا من سكان بغداد توجهت بمنتهى الاستسلام مثل قطيع الغنم إلى سلخانات المغول، فهل يبقى أمامنا بعد ذلك مجال للإقرار بأنهم كانوا من أتباع الإسلام على وجهه الصحيح؟. (٢)

الجهاد عبادة

شرع الإسلام للذين إذا أصابهم الظلم القتالَ، فقال الحق:

«أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا ۚ وَإِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ، الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ ۗ..» . الحج 39

وهذه الآية ناطقة بأن المؤمنين هم الذين قوتلوا وظلموا وأخرجوا من بيوتهم لا لشئ سوى أنهم قالوا ربنا وربكم الله، والهجوم الواقع بهم لا سبب له إلا أنهم مؤمنون، فهل يسكتون على الضيم؟

إن نهاية هذا السكوت تدميرهم وتدمير رسالتهم معهم، فلابد من خط دفاع يحفظ به أتباع محمد رسالته الخاتمة، وليس رسالة الإسلام فقط بل يحفظون أتباع موسى وعيسى.(٣)

«وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا ۗ وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ». الحج 39

لهذا يخوضون حربًا أذن الله بها لتكون سياجًا يحمي النور الذي حمله رسولنا الكريم للعالم أجمع. (٤)

«الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ ۗ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ ». الحج 40

فكان الجهاد في الإسلام عبادة، لأن أهم ما يميز رسالة محمد، صلى الله عليه وسلم، هو نجاح دعوته واستمرارية الإسلام ومقاومته ونضاله. ولا يمكن للغرب تقبل فكرة مقاومة ونضال الإسلام، لأنهم لا يعرفون سوى صلب المسيح، وهذا يوضح الفرق بين دعوة عيسى ومحمد.

 فالفرق يكمن أساسا في وجوب تحقيق الإسلام، حيث إن نجاح الإسلام جزء مكمل للرسالة، والاختلاف بين الرسالتين يعود في الأساس أن دعوة سيدنا عيسى تكتمل بالفناء، والإسلام يكتمل بالنصر.

 لذا فإن صلب المسيح أهم رمز من رموز المسيحية. بينما أعد رسولنا الكريم جيشا بقيادة أسامة بن زيد قبيل وفاته صلى الله عليه وسلم. (٥)

وقال على عزت بيجوقيتش إن أعظم شخصية في الإسلام هي شخصية الشهيد المجاهد في سبيل الله، فهو راهب وجندي في شخص واحد، فيما انقسم في المسيحية إلى مبدأ للرهبانية ومبدأ للفروسية، اتحد في الإسلام في شخصية الشهيد. إنها وحدة العقل والدم، وهما مبدآن ينتميان إلى عالمين مختلفين.

لم يريد الله أن يكون حملة دعوته وحماتها أمة من التنابلة الكسالى الذين يتنزل عليهم نصر الله سهلًا هينًا بلا عناء، لمجرد أنهم يقيمون الصلاة، يصومون رمضان، ويرتلون القرآن ويتوجهون لله بالدعاء في السراء والضراء، فهذه العبادات لا تؤهلهم لحمل دعوة الله وحمايتها، إنما تلك العبادات هي الزاد الذي يتزودون به للمعركة. (٦)

 فقد قال الله:

«كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ». البقرة 216

كما قال: كتب عليكم الصيام.

قال: كتب عليكم القتال.

الجهاد إذا عبادة كالصيام والصلاة، كما أن الصلاة والصيام لا يقبلان إلا إذ أديا بالطريقة التي أمر بها الله فالجهاد كذلك. (٧)

ولكن العبادات التي هي زاد الجهاد أصبحت عادات فلكلورية.

قانون الاستبدال

ما من جيل في هذه الأمة يتقاعس عن الجهاد إلا ضرب الله عليه الذل والهون.

 «يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مَا لَكُمۡ إِذَا قِيلَ لَكُمُ ٱنفِرُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ ٱثَّاقَلۡتُمۡ إِلَى ٱلۡأَرۡضِۚ..». التوبة 38

تأمل قوله جل شأنه «ٱثَّاقَلۡتُمۡ» إن في هذه الكلمة طنًا على الأقل من الأثقال فهذا الجسد المُثاقل يرفعه الرافعون في جهد فيسقط من أيديهم إلى الأرض، إنها مطامع الأرض، ثقلة الخوف على الحياة، والخوف على المال. والخوف على اللذائذ والمصالح والمتاع ثقلة الدعة والراحة والاستقرار.. ثقلة الذات الفانية والأجل المحدود والهدف القريب، ثقلة اللحم والدم والتراب. إن النفرة للجهاد في سبيل الله- كما في كمين «الرنة» أو «الأبرار»- انطلاق من قيد الأرض، وارتفاع على ثقلة اللحم والدم، وتحقيق للمعنى العلوي في الإنسان، وتغليب لعنصر الشوق المجنح في كيانه على عنصر القيد والضرورة; وتطلع إلى الخلود الممتد، وخلاص من الفناء المحدود. (٨)

أما الذين قال فيهم الله:

«أَرَضِيتُم بِٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا مِنَ ٱلۡأٓخِرَةِۚ فَمَا مَتَٰعُ ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا فِي ٱلۡأٓخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌۚ». التوبة 38

فهم يحجمون عن الجهاد لأن في عقيدتهم ريبة وشك، وفي إيمانهم وهن وضعف. لذلك يقول الرسول – صلى الله عليه وسلم:

 «من مات ولم يغز ولم يحدث نفسه بغزو مات على شعبة من شعب النفاق».

فالنفاق هو القعود عن الجهاد في سبيل الله خشية الموت أو الفقر، والآجال بيد الله، والرزق من عند الله. وما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل، لذا كتب الله عليهم العذاب..

«إِلَّا تَنفِرُواْ يُعَذِّبۡكُمۡ عَذَابًا أَلِيمٗا». التوبة 39

العذاب الذي يتهددهم ليس عذاب الآخرة وحده، فهو كذلك عذاب الدنيا. عذاب الذلة والخسران حيث يخسرون من النفوس والأموال أضعاف ما يخسرون في الجهاد، ويقدمون على مذبح الذل أضعاف ما تتطلبه منهم الكرامة لو قدموا لها الفداء. (٩)

إذ يدفعون مرغمين صاغرين للبيت الأبيض، وقصر الاليزيه، أضعاف ما كان يتطلب جهاد أعداء الأمة، وهنا يأتي تطبيق قانون الاستبدال:

«إِلَّا تَنفِرُواْ يُعَذِّبۡكُمۡ عَذَابًا أَلِيمٗا ويَسۡتَبۡدِلۡ قَوۡمًا غَيۡرَكُمۡ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيۡـٔٗاۗ وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٌ». التوبة 39

يستبدلهم بقوم يقومون على العقيدة، ويؤدون ثمن العزة، ويستعلون على أعداء الله، يستعلون على ثقلة الأرض وعلى ضعف النفس، وذلك إثبات للوجود الإنساني الكريم. فهو حياة بالمعنى العلوي للحياة. لأن التثاقل إلى الأرض والاستسلام للخوف إعدام للوجود الإنساني الكريم. (١٠)

ويسوق الله لهؤلاء القاعدين عن الجهاد حادثة من التاريخ:

«إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدۡ نَصَرَهُ ٱللَّهُ إِذۡ أَخۡرَجَهُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ ٱثۡنَيۡنِ إِذۡ هُمَا فِي ٱلۡغَارِ..» التوبة 40

إنها أول آية عن الهجرة، نزلت في العام التاسع من الهجرة عقب الآيات التي تصف التثاقل عن النفير لغزوة تبوك، وهي تبعث رسائل قرآنية للمتثاقلين عن نصرة غزة، ذلك أن:

«كَرِهَ ٱللَّهُ ٱنۢبِعَاثَهُمۡ فَثَبَّطَهُمۡ» التوبة 46

فعندما يستخدمك الله لخدمة ونصرة دينه- كما يستخدم «كتائب القسام»، و«حركة حماس» وكل المجاهدين في غزة، فاعلم أنه قد اطلع على قلبك فارتضاه، إن الإنسان وهو إنسان يأنف أن يستخدم أداة متسخة في عمله فكيف بالله وهو الله!. (١١)

فإن التخلي عن تكاليف الأمة المسلمة في الأرض، حتى صار المسلم يمثل صورة الإنسان المعذب في هذا العالم خيانة لله والرسول، فهناك اعتقادان أساسيان في الإسلام هما:

 «الله أكبر»، و«لا إله إلا الله»

 وهما في الوقت نفسه أعظم القوى الثورية في الإسلام. (١٢)

«يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَخُونُواْ ٱللَّهَ وَٱلرَّسُولَ وَتَخُونُوٓاْ أَمَٰنَٰتِكُمۡ وَأَنتُمۡ تَعۡلَمُونَ» الأنفال 27


المراجع
  1. على عزت بيجوفيتش – عوائق النهضة الإسلامية- صـ 9
  2. المرجع السابق – صـ 20
  3. محمد العزالي- الإسلام والاستبداد السياسي – صـ 99
  4. المرجع السابق.
  5. على عزت بيجوفيتش- هروبي للحرية – صـ 236 -237
  6. سيد قطب- ظلال القرآن – جـ 4- صـ 2425
  7. أدهم شرقاوي- رسائل من القرآن- صـ 248
  8. مرجع رقم 6- جـ 3- صـ 1655
  9. مرجع رقم 6- جـ 3- صـ 1655
  10. مرجع رقم 7- صـ 136
  11. مرجع رقم واحد- صـ 281