إذا تحدثنا عن «السيد أحمد البدوي»، صاحب المقام الأكثر شهرة بمدينة طنطا المصرية، فثمة حقيقة لافتة، وهي انعدام أي إشارة له في ساحات الحكي لدى «الإمام الذهبي» و«ابن الوردي» و«ابن كثير» وغيرهم من باقي المؤرخين المعاصرين لزمانه. لم يأتِ ذكر «البدوي» لأول مرة في كتب التاريخ من «ابن الملقن» إلا على استحياء، وذلك بعد وفاته بقرابة المائة عام.

حتى أن الإمام الصوفي «الشعراني»، أكثر من استفاض حديثًا عن «البدوي» وكراماته ومعجزاته، لم يكتب ذلك إلا في القرن العاشر الهجري، أي بعد ثلاثة قرون من زمن «البدوي» الذي ولد وعاش في القرن السابع الهجري.

تغلغل العلويين في الصوفية

تبدأ القصة يوم أن بلغ العباسيون من حياة الترف حدًا أثار -بالإضافة إلى ضجر العامة- شهية العلويين نحو اختراق الصوفية لصبغها بتعاليم الشيعة، في وقت كانت الصوفية ظاهرة اجتماعية حاضرة تقوم على الزهد.

بعد أعوام من الاستقرار في مكة قضاها والد «البدوي»، في استقبال الأسرات العلوية التي كانت تتخذ من الحج ستارًا لعقد اجتماعاتهم الخاصة وتدبير خططهم، لم يجد هذا الأخير أمامه بعد أن اقتحم «الحجّاج» الحجاز، سوى الهرب بأسرته نحو أكثر البلاد نشاطًا للعلويين، ومهد قيام الدولة الفاطمية فيما بعد، إلى «المغرب»، حيث قضى هناك فترة إقامة طويلة، أنجب فيها ابنه «أحمد البدوي» بمدينة تُدعى «فاس» عام 596هـ، قبل أن يرحل بعائلته مرة أخرى في رحلة طويلة إلى مكة، تخللتها في الطريق زيارة إلى مصر.

وهناك، في مكة، مات والد «البدوي»، فتولاه أخوه «الحسن» بالرعاية، والذي لم يلبث أن حمله معه إلى أرض الصوفية الخصبة في العراق، حيث التقى هناك القطب الصوفي «ابن عربي»، التلميذ الأول «للسيد أحمد الرفاعي»، وشرب من نهر الصوفية حتى ارتوى ظمؤه.

أتى بعد ذلك موعد رحلة جديدة، يجزم هذه المرة المؤرخون أمثال «عبد الصمد زين» و«المناوي» و«الشعراني» أنها بسبب هاتف من السماء أتى «البدوي» في المنام، حثّه على شد الرحال. البعض يقول من العراق إلى مكة ثم مصر، والبعض الآخر يقول إنها إلى مصر مباشرةً، المهم أنها في النهاية كانت إلى مصر، بوقت كانت فيه «المحلة» هي عاصمة الغربية منذ الفتح العربي، بينما «طنطا» التي اختارها البدوي للإقامة، لم تكن سوى مدينة ثانوية أقرب إلى قرية كبيرة لم تصبح مقصدًا للوافدين ومركزًا لحركة تجارية واسعة إلا بعد دفن «البدوي» بها وإقامة الموالد له وإنشاء الجامع الأحمدي لطلب العلم على غرار الجامع الأزهر، ثم صارت قاعدة للغربية كلها في عهد «محمد علي».

البدوي في طنطا

في طنطا يزعم أتباع «البدوي» أن أمرًا من السماء أتاه في المنام، دفعه لاختيار دار شيخ البلد «بن شحيط»، وهو أحد أصحاب الجاه والنفوذ والتجارة، للسكن. يقولون إن سبب تفضيله سطح البيت للإقامة طوال عشر سنوات كاملة، هو تأمل السماء، وكذلك تأثره بالعراقيين الذين يفضلون النوم فوق السطح في شهور الصيف شديد الحرارة. أمّا الحقيقة التي لا جدال فيها، أن فوق هذا السطح بدأت أقوى دعوة سرية صنعت واحدًا يُعد أحد أقطاب الصوفية الأربعة عند أتباعه وهم: (عبد القادر الجيلاني، وأحمد الرفاعي، وأحمد البدوي، وإبراهيم الدسوقي).

خصّ «البدوي» أربعين شخصًا من المريدين والأتباع وسمح لهم بالقرب منه والصعود إليه فوق هذا السطح لتلقينهم تعاليمه سرًا، قبل أن يبعث هؤلاء الأربعين الذي عُرفوا فيما بعد باسم «السطوحية»، الواحد وراء الآخر لجمع الأتباع من الإسكندرية إلى الصعيد، ومن مكة إلى الشام.

حدّثوا الناس عن كرامات ومعجزات شيخهم، الذي ظهر في زمن انتشار الجهل والتبرك والمغالاة في سير الأولياء أثناء فترة الحكم العثماني بكل مساوئها، فأصبح صعود شخصية «البدوي» فادح الأثر.

ثمة توجس من كم خرافات تحيط بوضعية «البدوي» كـ «وليّ»، ترك اختراقها لنطاق العقل وصحيح الدين، جدلًا حول مدى افتعالها. لم تقتصر تلك الخرافات فقط على رسائل السماء التي تأتي «البدوي» في المنام وتحكم كل اختياراته، فتخطت التشكك في مدى حقيقة اتصاله بأهله في مكة دون أن يبرح مكانه، ورؤية النبي «صلى الله عليه وسلم»، إلى استنكار امتلاك «البدوي» كرامة الصعود إلى السماء والاطلاع على شاهد الجنة والنار.

يُحرِج التاريخ هالة «البدوي» الأسطورية أكثر من مرة ويكشف عن وهمية حكايات تحدّث بها «الشعراني»، أبرزها حديث هذا الأخير عن إنقاذ «البدوي» للأسرى من الأعداء والطيران بهم.

تكمن الترجمة الحقيقية لاقتناع الشعب بأن «البدوي» بعد أن مات ظلّ ينقذ الأسرى في الموقف الآتي: حيث عندما قامت وزارة الأوقاف بإرسال بعض السيوف والدروع التي غنمها الجيش المصري من جيش «لويس التاسع» في المنصورة، كان أتباع البدوي ودراويشه يتقلّدون تلك السيوف والدروع ويسيرون في مواكب الأحمدية زاعمين للناس أنهم الأسرى الذين أنقذهم «البدوي» من بلاد أوروبا.

ميراث البدوي ونشأة الخلافة

أتت اللحظة البشرية التي لم ينجح الدراويش في إنكارها بموت «السيد البدوي»، الذي عُرف عنه -بالإضافة إلى طول صمته أحيانًا وعلو صراخه أحيانًا أخرى- أنه إذا لبس ثوبًا أو عمامة، تستمر على جسده حتى تبلى دون أن يخلعها سواء لغسيل أو غيره، دون أن يترك ثروة أو مالًا، لأنه على عكس «ابن عربي» لم يكن صاحب فلسفة أو فكر يُقدِّمه لطبقة خاصة، فلم يترك أيضًا تراثًا يُذكر، لا كُتب أو مؤلفات، فقط بعض شعر يدّعي البعض أنه له.

ثم بعد ذلك، نصّب تلميذه الأثير «الشيخ عبد العال» نفسه خليفة على دراويش «البدوي»، وسط قبول منهم، لما رأوه من مكانته عند سيدهم. ولأن طنطا لم تكن سوى مجرد قرية كبيرة حين ورث «عبد العال» مظاهر الدعوة وارتدى خرقة «البدوي» الحمراء التي تناقلها فيما بعد خليفة إلى آخر، لم تتسع طنطا للعدد الضخم من الدراويش والأتباع الذين جاءوا من كل فج عميق للعزاء عند خليفة «البدوي»، فضربوا الخيام خارجها وأقاموا ثلاثة أيام، قالوا بعدها للشيخ «عبد العال» عند الوداع: «إن هذه عادة مستمرة نحصرها كل عام».

وبالفعل أتوا العام الذي يليه ثم الذي يليه وهكذا حتى تحولت من ثلاثة أيام إلى ثمانية، تُقام فيها الاحتفالات وتُؤدى النذور والصلوات والحضرات، فيما عُرف بعد ذلك بمولد «السيد البدوي» الذي أصبح موسمًا شعبيًا. يروي «الجبرتي» و«ابن إياس» وغيرهم أن تجارًا من الهند وبلاد الروم والشام كانوا يشدون الرحال إليه للتجارة.

قام الشيخ «عبد العال» بدفع الرواتب للدراويش والفقراء، وبنى المقام فوق ضريح «البدوي»، وبنى كذلك خلوة للأتباع حول هذا الضريح، تحولت فيما بعد إلى المسجد الأحمدي الكبير الذي أنشأ عمارته العظيمة «علي بك الكبير». كذلك زعم أتباع الشيخ «عبد العال» بعضًا من الكرامات والمعجزات له هو الآخر، أضافوها إلى مشوار حياته الذي انتهى بوفاته عام 675هـ، ليُدفَن جوار سيده «البدوي» في مقام ملحق به، لكن أقل حجمًا.

استمرت الخلافة بعد موت «عبد العال» في أسرته، ومعها المد الصوفي بكل ملامحه، كطوفان، وضع الحُكّام في بعض الاحيان بورطة. نشبت نزاعات مع الدراويش، تطلّع إليها الفقهاء بنفاد صبر، وخلقت مؤامرات يقول عنها «ابن إياس» إنها وصلت للتآمر مرتين على قتل خليفة «البدوي»، لكن عادةً كان يتم إنقاذ الموقف في لحظة ما. وفي النهاية سار الحُكّام والفقهاء في مواكب أتباع «البدوي» أملًا في السيطرة على العامة.

ثمة ارتياح واضح لسيطرة أتت لاحقًا من الأوقاف على مملكة «السيد البدوي»، انطفأت معها سلطة الخليفة، والتي تقلّصت من حرية تامة في تقبل النذور والأموال الموقوفة والهبات والعطايا الممنوحة له والتصرف بها، إلى مجرد حصة محددة من النذور قيمتها 18% فقط.

حتى السلطان المطلق على كافة أتباع الطريقة الأحمدية ودراويشها، أصبح مقصورًا على قراءة الخليفة لورد الطريقة مع الأتباع بعد صلاة الجمعة مرة كل أسبوع في الخلوة الأحمدية، وأن يركب موكب الخليفة في المولد، بالإضافة إلى بعض السلطة على خُدّام المقام فقط.

ولأن كل شيخ من السطوحية أقام هو الآخر حوله مشيخة، لها أتباع ومُريدون، انطلقوا يحدثون الناس بكرامات شيخهم، وبالمثل عدد كبير جاء بعد السطوحية من تلاميذ «البدوي».

انقسمت مع الوقت الطريقة الأحمدية إلى طرق عديدة، وصلت إلى ست عشرة طريقة، كل منها تعتبر مشيخة لها شيخها وقصصها وجدل حولها لا ينتهي.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.