هو حي يقع داخل شريط ضيق، ولكنه استطاع أن يزلزل كيانًا غاصبًا بكل ما أوتي من قوة، فداخل أروقة هذا الحي المناضل تُروى قصص من البطولة والصمود لم يشهدها التاريخ من قبل. فحي الشجاعية الذي شهد تاريخًا من البسالة والمقاومة، منذ صلاح الدين الأيوبي، وحتى الحرب الأخيرة على غزة عام 2014، لم يكن مجرد حي، بل كان نبراسًا يهتدي به كل من يريد أن يخطو على طريق المقاومة، وإحياءً لذكرى مجزرة ارتكبها الاحتلال الإسرائيلي داخل هذا الحي في 11 فبراير 2004، كان يتعين علينا أن نتصفح بعضًا من صفحات تاريخ هذا الحي الأبيّ.

«شجاع الكردي» شهيد الحي

تأسس حي الشجاعية حين استقرت فيه فرقتين من الجيش الإسلامي أثناء الحروب التي قادها السلطان صلاح الدين الأيوبي، لتحرير القدس من أيدي الصليبيين، ويُنسب حي الشجاعية إلى القائد «شجاع الدين عثمان الكردي»، وهو قائد أيوبي استشهد في الحي أثناء خوضه معارك ضد الصليبيين، عام 1239، لذلك سُمي حي الشجاعية باسمه.

جاءت تمسية حي الشجاعية نسبة إلى القائد الأيوبي «شجاع الكردي» الذي استقر واستشهد فيه أثناء الحروب الصليبيبة

وينقسم الحي في الوقت الحالي إلى قسمين: جنوبي ويسمى (حي التركمان)، وشمالي ويُعرف بـ (حي الأكراد)، ويسكنه نحو مائة ألف نسمة وفق إحصائيات بلدية غزة لعام 2013، وتبلغ مساحة الحي حوالي ثمانية ملايين متر مربع، ويُمثل العرب أصل سكان الحي، ويعيش فيه إلى جانبهم أكراد وتركمان.

«تل المنطار» بين صلاح الدين ونابليون بونابرت

يتميز حي الشجاعية بأنه يحوي «تل المنطار» شرق مدينة غزة، ويرتفع هذا التل بنحو 85 متر فوق مستوى سطح البحر، وهنا تكمن أهمية التل الإستراتيجية، كموقع عسكري هام، وكمفتاح لمدينة غزة. وقد أصبح للمنطار ذاتيته المستقلة عن مدينة غزة الفوقية التي هَدَم الصليبيون سورها إبان الحروب الصليبية، وأصبح تل المنطار عَلمًا تأتي إليه القبائل العربية، من كل حدب وصوب، خاصة بعدما عززه القائد صلاح الدين بجنده من قبائل التركمان والأكراد والخوارزمية، ومنح لهذه القبائل الأراضي الواقعة إلى الشرق من غزة، وخاصة تلك الواقعة بينها وبين تل المنطار، لتصبح النواة لتأسيس «حي الشجاعية» بقسيمه «التركمان» و«جْدَيدة الأكراد» (الجديدة)، والتي سميت بهذه الأسماء نسبة لتلك القبائل الداعمة لصلاح الدين.

تمر الأيام ولم يفقد المنطار أهميته الإستراتيجية، فقد عسكرت عليه جنود «نابليون بونابرت»، وقُتل عليه الآلاف من جنود الحلفاء في الحرب العالمية الأولى، ودُفنوا جميعًا فيما يُعرف بـ «مقبرة الحرب العالمية الأولى» في غـزة.

شمشون الجبار والجامع الكبير

يُعتبر قبر «شمشون الجبار» الشهير، وجامع «أحمد بن عثمان» أو «الجامع الكبير» الذي يقع عند مدخل المدينة القديمة، من أهم المعالم الأثرية التي يحتويها «حي الشجاعية»، فيُعد الجامع الكبير أكبر جوامع الحي، وهو يضم قبر أحد مماليك السلطان برقوق ويُدعى «يلخجا». ويوجد بالحي عدة مساجد تاريخية أخرى منها مسجد «الهواشي»، ومسجد السيدة رقية، ومسجد علي بن مروان، ومسجد الإصلاح، وطارق بن زياد، وجامع القزمري، ومسجد الدارقطني، ومسجد ذي النورين، ومسجد السيد علي.

كان لحي الشجاعية دور كبير أثناء معارك حرب 1967، كما كان له الفضل الأول في انطلاق الشرارة الأولى لانتفاضة الحجارة.

كما يحتوي الحي على مقبرة الحرب العالمية الأولى والتي تبعد مسافة ألفي متر شمال الحي، وإلى الشرق تقع مقبرة التونسي، أو مقبرة التفليسي، والشيخ مسافر.

ومن أهم أسواقه؛ سوق الجمعة، وسوق الشجاعية، وسوق السكة، وسوق الحلال. كما يوجد به أكبر سوق في غزة متخصص في الملابس والسلع المنزلية يسمى «ساحة الشجاعية»، ويقع عند مدخل الحي من المدينة القديمة، ويبدأ من شارع عمر المختار في منطقة الشجاعية وينتهي في منطقة الرمال.

ملاحم الصمود

كان لحي الشجاعية دور كبير أثناء معارك حرب 1967، كما كان للحي الفضل الأول في انطلاق الشرارة الأولى للانتفاضة الفلسطينية الأولى عام 1987.

فمن الحي بدأت انتفاضة الحجارة وأخذت تمتد الشرارة وتنتقل لباقي المناطق الفلسطينية الأخرى، إلى أن انفجرت في مواجهة الاحتلال، فقبيل اندلاع الانتفاضة الأولى وتحديدًا في شهر أكتوبر 1987، تحول الحي إلى ساحة مواجهات مسلحة بين المقاومة الفلسطينية وقوات الاحتلال، وأسفرت الاشتباكات آنذاك عن مقتل ضابط إسرائيلي واستشهاد أربعة من أعضاء المقاومة الفلسطينية، ويُطلق على هذا اليوم اسم «معركة الشجاعية»، واستمر صمود الحي طيلة سنوات الانتفاضة، إلى أن اعترفت تل أبيب بفشلها ودخلت في مفاوضات مع الجانب الفلسطيني لترتيب علاقات تعطي الشعب حقه في إدارة شئونه.

وقد كان الحي عُرضة لسلسلة مجازر ارتكبها جيش الاحتلال الإسرائيلي، على مدى عدة سنوات، حيث قام جيش الاحتلال بمجزرة ضد الحي في 18 فبراير 2003، حيث هاجمهم الجيش بـ 100 دبابة ومجنزرة إسرائيلية مدعومة بطائرات مروحية، فأطلق الجيش الصواريخ والقذائف على الأحياء السكنية، ما أدى لاستشهاد 13 مواطنا وإصابة العشرات.

كما قامت إسرائيل بمجزرة في الحي فجر يوم 11 فبراير 2004، أودت بحياة 15 مواطنا وإصابة 44 من بينهم 20 طفلا وفتى دون سن الثامنة عشرة، وقد دمرت جرافات جيش الاحتلال سبعة منازل بالكامل، كما هدمت أسوار مدرستين وألحقت أضرارًا فادحة بثلاث مدارس أخرى، إضافة إلى تدمير بعض الطرق الرئيسية.

كان الحي هدفًا أيضًا للغارات الجوية الإسرائيلية المتكررة في حرب 2008-2009 على قطاع غزة، وقُتل فيه عدة أفراد من قوات الأمن التابعة لحماس، وتدمير مركز الشرطة المحلية، فلم يستسلم أبناء الحي، واشتبكت عناصر من حركة حماس وحركة الجهاد الإسلامي بشكل مكثف في أيام الحرب مع جيش الاحتلال الإسرائيلي بعد الضربات الجوية والاجتياح البري.

كما ارتكب جيش الاحتلال مجزرة أخرى في الحرب الأخيرة على غزة عام 2014، في الشجاعية، راح ضحيتها أكثر من 75 شهيدًا، وما يزيد عن 400 جريح معظمهم من النساء والأطفال؛ وذلك بعد قصف عشوائي استهدف منازل الفلسطينيين في الحي، فانتشرت جثث وأشلاء الشهداء في الشوارع وتحت الركام.

في هذه المجزرة استخدمت قوات الاحتلال أكثر من 100 قذيفة إسرائيلية على حي الشجاعية وحي الزيتون، الأمر الذي أدى إلى تمزق وتفحم غالبية الأشلاء بالإضافة إلى قطع رؤوس العديد منها، فضلاً عن تدمير عشرات المنازل تدميرًا كليًا بسبب القصف المدفعي العنيف، بالإضافة إلى إحراق محال تجارية عديدة تم تدميرها أيضًا، إلى جانب تدمير العديد من الطرقات العامة في الحي المزدحم بالسكان والذي يزيد عدد سكانه عن مائة ألف مواطن.

مهد المقاومة ومصدر القلق لإسرائيل

والسؤال الذي يطرح نفسه هنا،لماذا يتم التعامل بكل هذه القسوة والوحشية من قِبل الاحتلال الإسرائيلي مع هذا الحي؟ فما الذي يمثله هذا الحي بالنسبة لهؤلاء؟

يتعبر حي الشجاعية أحد مصادر الرعب للاحتلال الإسرائيلي بسبب ملاحم صموده على مدار التاريخ، واحتضانه لمعظم فصائل المقاومة الفلسطينية.

والإجابة تكمن في أن حي الشجاعية يعتبر مصدر رعب وقلق للاحتلال الإسرائيلي بسبب شجاعته ورمزيته وصموده خلال عقود من المواجهات.

كما تعود أسباب هجوم الاحتلال الشرس على هذا الحي إلى كونه أعلى تجمع سكاني في قطاع غزة، ولكونه حيًا مغلقًا لا يمكن الدخول إليه بسهولة من قِبل أي غريب، وتعد نسب الإنجاب في الحي أعلى نسبة إنجاب في العالم تقريبًا، حيث يبلغ معدل الأسرة الواحدة ما بين 8- 16 فردًا وغالبيتهم يعملون في صناعة الحدادة والبناء، ووصلت النسبة العادية من المواليد في حي الشجاعية حوالي 10 آلاف مولود في العام الواحد، مما كان سببًا في الإزعاج الشديد للمحتل.

وقد عُرف الحي بشجاعة سكانه وتأييده للمقاومة، ولهذا يستشعر الاحتلال خطورة الحي.ليس هذا وحسب، بل يتميز حي الشجاعية باحتضانه لكافة الفصائل الفلسطينية المقاومة للاحتلال، وتكمن أهميته ومكانته الرمزية من كونه مقرًا تاريخيًا لانطلاقة هذه الفصائل، إذ شهد البدايات الأولى لمنظمة التحرير الفلسطينية، والجبهتين (الشعبية والديمقراطية)، وهو والمقر الرئيسي للحركات الإسلامية وفي مقدمتها حركتي حماس والجهاد الإسلامي، ويضم الحي العديد من قادة كتائب القسام الجناح المسلح لحركة حماس ومن أبرزهم أحمد الجعبري نائب القائد العام لكتائب القسام، والذي حمَّله الاحتلال المسئولية عن عدد كبير من العمليات ضدها.

كما يضم أشخاصًا بارزين على الساحة الفلسطينية مثل مريم فرحات التي تحظى بشهرة واسعة في الأراضي الفلسطينية والمُلقَبة بـ «خنساء فلسطين»، لأنها قدمت ثلاثة من أبنائها شهداء في إطار المقاومة الفلسطينية ضد الاحتلال، والشاعر الفلسطيني الكبير «معين بسيسو». كما يضم الحي قيادات تنظيمية من كل التنظيمات الفلسطينية، بدءًا من حركة فتح وحتى أصغر التنظيمات، وفيه عدد كبير من الشخصيات الوطنية على مستوى الوطن، وأساتذة الجامعات الحاصلين على أعلى الشهادات العلمية ومناضلين وأسرى.

كما تقطنه أبرز العائلات في قطاع غزة كعائلة حلس، وينتمي أفرادها إلى حركة التحرير الوطني الفلسطيني فتح وحماس وباقي الفصائل الأخرى.

لذا يُعد «حي الشجاعية» من أقدم وأعرق الأحياء الفلسطينية التي قدمت نموذجًا حقيقيًا لمعنى الصمود والمقاومة، على مدار التاريخ الطويل للحي، والتي أُعِدَّت رمزًا لمعنى المقاومة الفلسطينية الحقيقية.

المراجع
  1. “المجازر الصهيونية في فلسطين من 2000 – 2005″، موقع اللجنة العربية لحقوق الإنسان، 11 يناير 2009.
  2. “الشجاعية معقل المقاومة الفلسطينية”، موقع نون بوست، 22 يوليو 2014.
  3. علي البلوي، “حي الشجاعية.. مصنع المقاومة.. ومصدر القلق الإسرائيلي”، موقع رأي اليوم، 7 أغسطس 2014.
  4. “حي الشجاعية البطل”، موقع دغري خبر، 21 يوليو 2014.
  5. حي الشُجاعية في غزة… معلما لـ “التاريخ” و”المقاومة”، موقع القدس العربي، 20 يوليو 2014.
  6. “حي الشجاعية في قطاع غزة”، موقع الجزيرة نت، 20 يوليو 2014.
  7. “حي الشجاعية.. بيوت عتيقة وجدران نابضة بالتاريخ والتقاليد”، موقع وكالة معًا الإخبارية، 3 إبريل 2013.