تقف الطائفة العلوية في سوريا على مفترق طرق بعد ما تبين لها أن استدامة سيطرتها على البلاد أصبحت شبه مستحيلة في أعقاب عقد من القتال الضاري وعقود من القبضة الحديدية التي تهشمت ولم تعد قادرة على السيطرة على الوطن السوري الممزق، ووجد الذين رفعوا شعارات مثل «الأسد أو لا أحد» و«الأسد أو نحرق البلد» أن «لا أحد» يسيطر اليوم على سوريا، وأن البلد «حُرقت» فعلاً بنار الصراع وبات مستقبل «الأسد» وطائفته ومنظومة حكمه التي أسسها أبوه حافظ في حكم المجهول.

الطائفة الغامضة

ورغم تسنم العلويين ذروة النفوذ في سوريا فقد ظلت عقيدتهم لغزًا مثيرًا للجدل نتيجة الغموض والتشويش المتعمد الذي يغلف صورتها أمام الآخرين، فالمؤسسات الدينية تختلف فيما بينها في اعتبارهم مسلمين من عدمه، وتتضارب التصنيفات التي تتناولهم نتيجة شح المعلومات وتناقضها في أحيان كثيرة، رغم وجود بعض المؤلفات التي تناولتهم عبر القرون، ويرجع هذا إلى الطبيعة الانغلاقية للطائفة؛ إذ فرض شيوخها على تعاليمهم حجابًا من السرية والتكتم حتى على أبنائهم، فلا يوجد أي تعليم ديني حقيقي للأطفال، فتلقي أسرار العقيدة لا يحدث إلا بعد البلوغ وهو حصري للذكور.

وينتقد العلويون فتاوى التكفير التي تعج بها كتب علماء الشيعة كالنوبختي وابن أبي الحديد والكشي وابن شهرآشوب، وكذلك كتب السنة لا سيما الفتوى الشهيرة لابن تيمية الملقب بشيخ الإسلام التي يقول فيها إنهم «أكفر من كثير من المشركين، وضررهم على أمة محمد، صلى الله عليه وسلم، أعظم من ضرر الكفار المحاربين مثل كفار التتار والفرنج»، وكذلك فتاوى المؤسسات الدينية الرسمية في أكثر من دولة التي وصفتهم بالمروق من الإسلام مستشهدة بإجماع فقهاء المذاهب الأربعة على ذلك.

لكن مع تولي حافظ الأسد منصب الرئاسة، في ظل دستور يفرض على الرئيس أن يكون مسلماً، صدرت فتاوى رسمية تعتبر العلويين مسلمين، وأصدر القيادي الشيعي اللبناني، موسى الصدر، عام 1973، فتواه الشهيرة باعتبارهم مسلمين تابعين لطائفة الشيعة التي بدأ فقهاؤها في نسج علاقات مع زعماء العلويين، توطدت أكثر بعد اندلاع الثورة الإيرانية عام 1979.

لكن تصنيف العلويين على أنهم شيعة يثير استياء بعضهم، ويصرون على أن لهم عقيدة ومذهبًا مختلفًا عن التشيع الاثنا عشري، كما أن عملية نشر التشيع بين شبابهم تثير مخاوف واستياء شيوخهم.

ووفقًا لعبد الله نعمان مؤلف كتاب «العلويون» فإن أبناء الطائفة كانوا يُعرفون أيضًا بالنصيريين نسبة إلى محمد بن نصير، أحد تلاميذ الإمام الهادي الإمام الحادي عشر لدى الشيعة، إذ تمرد عليه ابن نصير وادعى النبوة وأسس الطائفة، مبينًا أن تسمية «العلويين» جاءت في عهد الانتداب الفرنسي حينما تم استبدال تسمية النصيرية بالعلوية.

ولقي استخدام مصطلح «علوي» رواجًا في العصر الحديث كسبيل للتخلص من الدلالات السلبية التي التصقت بكلمة «نصيري» عبر التاريخ.

ويكتنف الغموض معتقدات الطائفة، ففي لقائه على قناة «بي بي سي» البريطانية عام 2015، يقول ذو الفقار غزال المرجع العلوي السوري، إن المقدسات لدى الطائفة لا تقتصر على الرسالة المحمدية بل تشمل المسيحية والموسوية (اليهودية)، ويضيف: «أمير المؤمنين شريك رسول الله في مقامه إلا النبوة .. فلا نعتقد أن الإمام علي هو الله ولا أن رسول الله هو الله لكن لأمير المؤمنين، عليه السلام، ولرسول الله، صلى الله عليه وسلم، قبله مقام عند الله عظيم ليس لغيرهما من المخلوقات»، في حين يزعم سليمان أفندي الأذني، في كتابه «الباكورة السليمانية في كشف أسرار الديانة النصيرية» أنه ترك الطائفة بعد اطلاعه على أسرارها التي تتضمن الإيمان بألوهية علي بن طالب، رضي الله عنه.

دولة العلويين

ظلت الطائفة العلوية في عزلتها بالجبال حتى جاء الاحتلال الفرنسي لسوريا عام 1920، واعتمد عليهم في التجنيد إلى جانب الأقليات الدينية الأخرى، ومن هنا كانت بداية دخولهم في دائرة الضوء إذ أسس لهم الانتداب الفرنسي إقليمًا خاصًا على الساحل السوري في 1920، في المنطقة التي تشمل اليوم محافظتي اللاذقية وطرطوس، وفي 29 سبتمبر/أيلول 1923، تم إعلانها دولة مستقلة عاصمتها مدينة اللاذقية، وفي 1 يناير 1925 تغير اسمها رسميًا إلى «الدولة العلوية»، وفي 22 سبتمبر/ أيلول 1930 تغيرت تسميتها «سنجق اللاذقية»، لكن في 5 ديسمبر/كانون الأول 1936 أعيد دمجها مع سوريا، ونُفذ القرار في العام التالي.

وكان عددٌ من وجهاء العلويين – من ضمنهم كبير عائلة الأسد آنذاك – قدموا طلبًا إلى رئيس الوزراء الفرنسي، ليون بلوم، عام 1936 يلتمسون إعادة النظر في نية الانتداب منح سوريا الاستقلال ودمج الدولة العلوية فيها مرة أخرى، ويؤكدون أن «الشعب العلوي يرفض أن يلحق بسوريا المسلمة»، وهي الوثيقة التي استشهد بها وزير الخارجية الفرنسي، لوران فابيوس، في اجتماع الأمم المتحدة 2012 عندما واجه مندوب النظام السوري قائلاً: «جد رئيسكم الأسد طالب فرنسا بعدم الرحيل عن سوريا وعدم منحها الاستقلال».

وانخرط العلويون في الحركات والأحزاب العلمانية لا سيما حزب البعث، وتدرجوا في الرتب العسكرية حتى سيطروا على قيادة الجيش عن طريق اللجنة العسكرية التي قادت انقلاب البعث عام 1963، لتبدأ سيطرة الطائفة على مقاليد الحكم على يد الضابط صلاح جديد الذي أصبح الرئيس الفعلي لسوريا بانقلاب عسكري آخر في 23 فبراير 1966 بمساندة حافظ الأسد، والذي انقلب بدوره على «جديد» عام 1970 ليحكم قبضته على الحكم حتى موته عام 2000 وتولي ابنه بشار الرئيس الحالي زمام الحكم.

علونة الدولة

تبنى حافظ الأسد مشروع علونة الدولة السورية أي جعل كل مفاصلها في أيدي أبناء طائفته وإضعاف النخب السنية السياسية وكذلك كل الفئات الأخرى، محدثًا انقلابًا اجتماعيًا كبيرًا مكملاً لما بدأته سلطات الانتداب الفرنسي التي بدأ العلويون في عهدها النزول من الجبال والاختلاط بسكان المدن، فحتى المناطق التي كانت ضمن دولة العلويين لم يكن لهذه الطائفة نسبة تذكر في مدنها كجبلة، وبانياس، وطرطوس وحتى اللاذقية، عاصمة تلك الدويلة بل كانت هذه المدن أغلبها من السنة ويليهم المسيحيون، فيما كانت النساء العلويات يعملن كخادمات لدى الأسر الغنية في المدن.

وبعد وصول الأسد إلى السلطة أدار البلاد بمنطق الطائفة والعشيرة فنالت عشيرة الكلبية التي تنتمي لها عائلة الأسد النصيب الأكبر، تليها عشيرة الحدادين التي تنتمي لها زوجته أنيسة مخلوف، وبدلًا من أن يؤثر جو المدينة عليهم جلبوا ثقافتهم إليها، واستخدم الأسد النظام الاشتراكي تُكأة حتى يوزع الأراضى والمزارع وأملاك العائلات العريقة على جماعته، وكان ذراعه القوية في كل شيء الجيش العلوي السوري الذي يطلق عليه رسميًا «الجيش العربي السوري» والذي تمت تصفيته بشكل جذري من كل من يخالف البنيان الطائفي للدولة.

وبذل حافظ الأسد جهوداً كبيرة كي لا ينظر إلى النظام الذي بناه على أنه علوي الطابع، فكان يسند مناصب شكلية إلى أشخاص قادمين من الطائفة السنية كانوا مجرد واجهات رسمية ولم يملكوا صلاحيات حقيقية بل كانت السلطة الفعلية في أيدي ضباط علويين غير معروفين للعامة فعبد الحليم خدام الذي كان نائبًا للرئيس لم يكن له أي تأثير يذكر في توجيه دفة الأمور، ومصطفى طلاس وزير الدفاع، كان يوصف داخل الجيش بأنه «ليس له من دور إلا دور الذيل من الدابة»، وحكمت الشهابي الذي كان يشغل منصب رئيس الأركان، كان لا يجرؤ على تحريك قطعة عسكرية من تلقاء نفسه، وهكذا ظل الهيكل العلوي الموازي هو المؤسسة الحاكمة الفعلية للدولة.

وبعد وراثة بشار للحكم ظن السوريون أن عهدًا جديدًا قد بدأ إذ ظهر الرئيس الجديد بمظهر الإصلاحي وحينها أطلق بعض النشطاء مبادرة «ربيع دمشق» مطالبين بإطلاق سراح السجناء السياسيين وإلغاء حالة الطوارئ السارية منذ عقود وتخفيف القيود الأمنية لكن الرد كان قمع الحركة وإثبات أن النظام ما زال على العهد الذي أسسه حافظ.

سوريا المفيدة

لكن النظام الذي لم يتجاوب مع ربيع دمشق بوغت بالربيع العربي بعد عشر سنوات ينطلق من تونس وتجاوبت معه عدة شعوب عربية، ولم يحسن النظام قراءة المشهد الإقليمي بشكل صحيح، فكان تعامله الأمني العنيف مع أطفال كتبوا شعارات معارضة في محافظة درعا شرارة اندلاع ثورة في عموم البلاد تطالب بسقوط حكم عائلة الأسد ومنظومة حكمه، فكان الحل هو اللجوء إلى الطائفة وطلب دعمها وتصوير الأمر لها على أنه صراع سني-علوي، بل إن المعارضة تتهم الجيش النظامي بتنفيذ أعمال عنف ضد العلويين ونسبتها للمعارضة لتكتيل الطائفة ضدها كما حدث في مجزرة اشتبرق.

ومنذ اشتعال الأزمة السورية تواجه الطائفة العلوية مأزقًا عميقًا بسبب اعتماد النظام علي شبابها بشكل أساسي في قمع الاحتجاجات الشعبية، مما زاد من تعميق الهوة التي تفصل بينهم وبين باقي المكونات الدينية لا سيما أهل السنة الذين يشكلون معظم الشعب في حين تصل نسبة العلويين نسبة العُشر تقريبًا، ولهذا قرر بشار الأسد في عام 2015 سحب معظم قواته إلى المنطقة الممتدة ما بين اللاذقية ودمشق، مطلِقًا عليها مسمَى «سوريا المفيدة»، مما أعاد الحديث عن احتمالية إعادة إحياء مشروع دولة العلويين مرة أخرى- وإن بشكل مختلف- حال فشل النظام في السيطرة على عموم البلاد، وهو المشروع الذي أثار الكثير من الجدل حول جدواه حتى داخل الطائفة ذاتها.

مستقبل غامض

وتبدو الطائفة اليوم على مفترق طرق، فالبعض بات يتقبل فكرة الاندماج وسط أطياف المجتمع السوري والتبرؤ من الأسد والتخلي عن سلطة أضحت كُلفتها أكبر من قدرتهم على تحملها، لكن بعضهم يرفض هذه الفكرة رغم الاستياء الشديد من إدارة بشار الذي تفاقم بين القاعدة العلوية في المدن الساحلية البعيدة عن الحرب والتي زادت معاناتها بسبب الواقع الاقتصادي المأزوم بعد العقوبات الخارجية وبالذات قانون قيصر الأمريكي، وانهيار الأوضاع الأمنية وهيمنة الميليشيات المؤيدة للنظام على مناطقهم، فما زال الكثير منهم يرون أنهم مرغمون على تأييد النظام باعتباره ضرورة وجودية وأن البديل هو المصير المجهول، ويرون أن الأغلبية السنية محملة بكل تأكيد بأحقاد الانتقام مما وقع خلال العهد الأسدي وتريد إعادة العلويين إلى أيام الفقر وسيبيعون بناتهم كسبايا أو على أقل تقدير سيعيدونهم إلى الخدمة في البيوت والقصور، وفق ما تردده أبواق مؤيدة للنظام.

كما ينظر البعض منهم بقلق بالغ لتزايد نفوذ أسماء الأخرس زوجة بشار، والتي تنحدر من عائلة سنية وباتت تتمتع بسلطة لم تتمتع بها شخصية سنية خلال هذا العهد، فقد بدأ النظام مؤخرا في تعليق صورها في الدوائر الحكومية ومكاتب الوزراء، وهي ظاهرة غير مسبوقة.

كما ترأست «لجنة مكافحة غسيل الأموال» وأطاحت بالعديد من كبار الشخصيات العلوية المقربة من الأسد وصادرت أموالهم بحجة الفساد مثل رامي مخلوف، ابن خال الرئيس، وعلاء إبراهيم، محافظ ريف دمشق، ووضعت يدها على بعض مفاصل النظام وأصبح قرارها يبدو إلى حد كبير مستقلًا عن قرار زوجها.

وبرز اسم أسماء الأسد كمركز قوة مستقل وتعددت المسميات التي باتت تطلق عليها ما بين «سيدة الياسمين» و«لبؤة سوريا» وأخذت التوقعات تتعاظم حيال إعدادها لتكون بداية تغير كبير في سوريا وأن يتم تقديمها للأغلبية كشخصية سنيّة، أيديها غير ملطخة بالدماء وفي نفس الوقت تعد ضمانة للعلويين بصفتها جزءًا من منظومة الحكم الحالية التي أرساها الأسد الأب.