تعتبر النساء أن شهر مارس/ آذار هو شهرها، ففيه اليوم العالمي للمرأة، وفيه أيضًا يوم الأم، تحتفل النساء في ذلك الشهر بذكريات نضالهن والهروب من القمع الذكوري، ويحتفين بأنهن أمهات الرجال وشركائهم في كل شيء. لكن شهر مارس/ آذار أتى هذا العام وهو يحمل احتفالًا خاصًا للغاية لنساء البيرو، ففي مطلعه بدأت محاكمة ألبرتو فوجيموري ديكتاتور البيرو.

رغم فساد الرجل وطغيانه الذي طال الجميع إلا أن النساء قد طالهن نوع آخر من طغيانه، التعقيم القسري. ففي الفترة ما بين أعوام 1996 حتى عام 2000 فرض فوجيموري رؤيته لتحديد النسل بتعقيم النساء. البرنامج الذي أعده الرجل كانت تبدو مشاركة النساء فيه طوعيةً ويذهبن بإرادتهن طلبًا لإجراء عملية جراحية لربط قناتي فالوب كوسيلة شبه دائمة لمنع الحمل، إلا أن التحقيقات أثبتت أن تلك السيدات تعرضن للخداع حول أسباب ومضمون العملية الجراحية.

فالتقديرات الرسمية تقول إن 272 ألفًا و28 سيدة بيروفيّة قد خضعن لهذه العملية دون علمهن وموافقتهن، وحسب الأرقام الرسمية فقط توفيت 18 امرأة نتيجة العملية. ومن الآلاف اللواتي خضعن للعملية تقدمت منهن 2074 شكوى رسمية تجاه فوجيموري وتجاه من قاموا بالعملية، وأكدن في الشكاوى أنهن لم يكن يعلمن عن قيام الجراحين بإجراء عمليات ربط أنانبيب لهن.

المحاكمة الجارية تشمل فوجيموري، الذي شغل رئاسة البلاد لمدة عشر سنوات، وثلاثة وزاء صحة سابقين، وموظفين مدنيين، والتهم الموجهة إليهم هي الإضرار بصحة وحياة أفراد، والتسبب في إصابات خطيرة وانتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان.

كفاح 20 عامًا للثأر

فوجيموري، البالغ حاليًا 82 عامًا، يقبع في السجن ضمن عقوبة قدرها 25 سنة بسبب اتهامات بالفساد وبجرائم ضد الإنسانية. ويتوقع أن تستمر محاكمته الحالية لعدة أشهر لذا فلم تلزمه المحكمة بحضور كل الجلسات، وتجري مجريات المحكمة عبر الإنترنت لظروف الجائحة الوبائية.

رغم أن الجريمة مرّ عليها الآن قرابة 25 عامًا إلا أن الضحايا كن يطالبن بمحاكمته طوال تلك المدة، لكن كان كل من يشغل منصب المدعي العام يماطل في وضع دعاويهن في نصابها القانوني حتى جاء المدعي العام بابلوا إسبينوزا الذي تكفل هو بتحريك الدعاوي المقدمة منذ عام 2003.

جريمة التعقيم القسري لم يتوقف تأثيرها عند حرمان النساء من الإنجاب، بل حرمانهن من الحياة بالكامل. فتخلى عنهن أزواجهن، ولاحقتهن هجمات الاكتئاب حتى تركت بعضهن كل حياتهن. وطوال تلك السنوات لم يعتذر لهن الرئيس السابق ولا حتى ابنته التي ترشحت للانتخابات عام 2016 وخسرت فيها بفارق طفيف، ابنته تعهدت بدفع تعويضات للنساء حال فوزها، لكنها لم تسمهنّ ضحايا ولم تعترف بمسئولية والدها تجاه ما حدث.

فوجيموري لم يخرج من الحكم إلا بعد أن عزله البرلمان بسبب تهم الفساد، بعد أن كان الرجل من أصحاب الشهادات العلمية المرموقة في البلاد. فقد حاز أولًا على شهادة الدكتوراه في الهندسة الزراعية، ثم في عمل التدريس لبضعة أعوام. ثم درس الرياضيات والفيزياء ونال شهادة ماجستير في العلوم. بعد ذك صار عميدًا لكلية العلوم الطبيعيّة في جامعة مولينا، وشغل منصب رئيس لجنة عمداء جامعات بيرو مرتين.

المفاجأة

بعد عدة لقاءات إعلامية بات فوجيموري معروفًا في الأوساط الشعبية، وساعدته صداقته مع رئيس حزب الرابطة الشعبية الثورية الأمريكية، المعروف اختصارًا أبرا، بالدخول لمعترك السياسة. لكن بعد بضعة أعوام، عام 1988، أسس فوجيموري حزبه الخاص تحت مسمى كامبيو 90.

وقرر المجازفة عام 1990 بدخول الانتخابات الرئاسية كمحاولة لنيل خبرة في الحملات الرئاسية، وقد كانت بلاده تعاني من أزمة اقتصادية طاحنة وتضخم مالي. لذا فإن الغضب الشعبي من الأحزاب التقليدية أحدث المفاجأة التي لم تكن في الحسبان، فاز فوجيموري بقرابة ثلث الأصوات الشعبية في الجولة الأولى، وفي الجولة الثانية فاز بقرابة 60% من الأصوات.

تولى فوجيموري الحكم فرآه أنصاره رجلًا قويًا أنقذ البلاد من الانهيار الاقتصادي ومن الإرهاب، أما معارضوه فرأوه ديكتاتورًا استولى على كافة السلطات وحاصر الديموقراطية ليستبد بالسلطة. فوجيموري قد قضى بالفعل على المعارضة في بلاده، خاصة المعارضة اليسارية. ومن أبرز مواجهاته معهم احتجاز الماركسيين لرهائن في مقر إقامة السفير الياباني عام 1996.

استمر الاحتجاز 4 أشهر، فلم يصبر فوجيموري أكثر، فأمر القوات الخاصة باقتحام المكان فلقي 14 من المتمردين حتفهم، وتم تحرير كافة الرهائن. فجرت تلك العملية غضب المعارضة ضده، واتهموه باستخدام الاستخبارات للفوز بالانتخابات التي أقيمت قبل الحادثة بأشهر قليلة. المعارضة اتهمته كذلك بأنه يستغل الاستخبارات لترويع المواطنين والتجسس عليهم، كما اتهموه باستخدام موارد الدولة لدعم حملاته الانتخابية.

عفو رئاسي وغضب شعبي

عام 2000 فاز فوجيموري بولاية رئاسية ثالثة، لكن فلاديميرو مونتسسينوس، رئيس الاستخبارات، قد تورط في قضية رشوة مثبتة بالأدلة، فاقتنصت المعارضة الفرصة وأطاحت بالرجلين معًا. وفي نوفمبر/ تشرين الثاني عام 2000 هرب فوجيموري إلى اليابان، بلد والديه، وقضى هناك 5 سنوات في منفى اختاره بنفسه.

لكن بعد 5 سنوات قرر أن يعود إلى تشيلي تمهيدًا للعودة إلى البيرو كي يطلق حملة انتخابية جديدة، لكن سلطات تشيلي ألقت القبض عليه بناءً على طلب سلطات بيرو. خاض فوجيموري معركةً قضائية ضد تسليمه لبلاده، المعركة استمرت عامين لكنه خسر المعركة في سبتمبر/ أيلول عام 2007، فتم تسليمه لبلاده.

وفي ديسمبر/ تشرين الأول 2007 صدر حكم ضده بالسجن لمدة 6 أعوام بتهمة استغلال السلطة، وفي عام 2009 تمت إدانته بتهمة التصريح بالقتل مرتين واختطاف صحافي ورجل أعمال، فصدر ضده حكم بالسجن 25 عامًا بسبب تصريحه بعمليات قتل قامت بها فرق تابعة له.

لكن الرئيس بيدو بابلو كوتشينسكي أصدر عفوًا عنه من حكم السجن المؤبد، ما أثار غضبًا شعبيًا هائلًا ضده. خرج الآلاف في الشوارع في مظاهرات عارمة احتجاجًا على قرار الرئيس. تعاملت الشرطة مع المحتجين بإطلاق الغاز المسيل للدموع. بجانب الغضب الجماهيري كون فوجيموري هو من حصل على العفو الرئاسي، فإنهم كذلك خرجوا غاضبين من مخالفة بيدو للقانون.

 فقانون بيرو ينص على أنه لا يمكن لأي شخص مدان بارتكاب جريمة قتل أو اختطاف، أن يحصل على عفو رئاسي، إلا في حالة الإصابة بمرض مزمن، والذي عادة ما يفضي إلى الوفاة. وسبق أن سلطات بيرو، رفضت 3 طلبات سابقة من ألبرتو فوجيموري بالعفو عنه منذ عام 2013، بعد أن قال الأطباء إنه لا يعاني من مرض عضال أو اضطراب نفسي حاد.

 لكن لا يزال فوجيموري في محبسه يقضي أربعة أحكام متزامنة من السجن، غير أن قانون البيرو لا يعترف بجمع العقوبات، لذا فسيقضي فوجيموري العقوبة الأطول، وقد كانت عقوبة الـ 25 عامًا، وقد ألغيت، لذا يأمل الشعب أن يكون الحكم عليه في جرائم التعقيم القسري طويلًا بما يكفي ليشفي غضب الضحايا ويمنع الرجل من العودة للسياسة مرة أخرى.