جلست ذات مساء أحتسي فنجان قهوتي في صمت، أراقب محيطي في توجل لعلني أجد شيئاً من الإلهام بعد فترة من الركود عانيت خلالها الأمرّين. كنت أبحث وأنقِّب عن خيط البداية الذي من شأنه أن يُعيد لي حسي الإبداعي في الكتابة، وكنت قد تجرّدت يومها من جميع ممتلكاتي ما عدا قلم حبر جاف ومذكرتي التي لا تكاد تغيب عن ناظري. وبينما انقشعت أولى غيمات «كتلة الكاتب» لدي، وتوضّحت لي معالم مشروعي الأدبي التالي، ظهر لي بغتة وجه مألوف، وجه أعاد لي ذكريات بعيدة كدت أنساها.

نادرة هي الأشياء المشتركة بين كاتبة وقاتل متسلسل، لكن شيئاً وحيداً يجمع بينهما؛ سِجل بحثهما المليء بأمور غريبة تدل على عدم اتزانهما واهتماماتهما الغريبة التي قد تُستخدم كدليل ضدهما لإثبات تهمة جنائية معينة. ولكنني تعلمت أن أتنصل من اللوثة التي كانت لصيقة بهوايتي هذه، تعلمت أن أضع زي الكاتبة بعيداً من حين لآخر كلما كاد جنوني أن يبلغ ذروته.

أعود إلى كوني أماً وزوجةً وصديقةً، خوفاً من أن أفقد السيطرة هذه المرة على عجلة الجنون، لكن السبب الذي أعادني إلى هُتري مرة أخرى كان مختلفاً، لم تدفعني رغبتي لمعاودة الغطس في محيط الكتابة إلى حالتي شبه المعتادة هذه المرة، بل جاءني الماضي ليعيدني إلى طبيعتي. وقف الماضي أمامي، مُحدِّقاً في عيناي مباشرة وعلى ثغره ابتسامة انتصار بعد أن اخترق بسهولة الصرح المنيع الذي بنيته من نسيان وتجاهل.

وقف الرجل الذي كنت قد شاهدت جسده الخالي من الحياة بأم عيني قابعاً تحت التراب منذ سنوات خلت أمامي، رجل باعدت بيننا الأقدار وجمعتنا الصداقات المشتركة في أكثر من مناسبة. كنت أعرف الكثير عنه، أمّا هو فلم يكن يعرف عني شيئاً. لم يكن يعلم أنني كاتبة مشهورة، وأن معظم أصدقائه يضمرون له الكثير من الحقد والحسد.

أعتقد اليوم أن الخوف المرضي الذي كان يعتريه في كل مرة يجد نفسه في حفلة صاخبة هو الأمر الذي جعله عرضة لكثير من السخرية في الأوساط الاجتماعية، التي كنت جزءاً منها، والأسوأ في الأمر أن هذا الهلع الهستيري الذي كان يبدو لي حينها أنه من دون سبب، كان نقطة البداية في سلسلة من الأحداث الغريبة والعجيبة والواقعة خارج نطاق منطق العالم المادي.

كان «أليخاندرو» رسّاماً مُحترفاً، كان أهم رجل في أي غرفة يوجد فيها، وفي أي حدث ثقافي يحضر فيه، ولكنه كان وعلى الرغم من شهرة أعماله الفنية ولوحاته التشكيلية، كان أكثر رجل مكروه في مدينته ومسقط رأسه «إشبيلية».

عندما غادر أليخاندرو مدينته لآخر مرة، لم يكن يعرف أن إقامته في مدينة «طنجة» ستطول لأكثر من سنة، كان ينتظر أن يحصل على عقد عمل في اليونان، وطال انتظاره حتى زرعت أزقة طنجة وشوارعها، في فؤاده، ألفة وانتماء، وباتت مصدر إلهامه الوحيد.

أصبحنا نُطلِق عليه لقب «الإميغري»، رغم أنه كان يعتبر نفسه مغترباً لا مهاجراً، ورغم أنه كان قد اختار منفاه بمحض إرادته على عكس ألوف الشباب في وطني الذين يرتمون في أحضان الأمواج العاتية، ليس حباً منهم للموت، ولكن طمعاً في حياة كالحياة، ففي نهاية المطاف، وحدهم منْ يملكون الحق في العيش الكريم في أوطانهم يطلقون على أنفسهم لقب «المغتربين».

عاش أليخاندرو بيننا حراً طليقاً حتى وهو طائر عالق في قفص، لم يتمكن المسكين من أن يعيش جموح الطيور بحذافيره ولكنه رسم الجنون والخيال بريشة رجل حر. كان أليخاندرو فناناً بمعنى الكلمة لأنه كان حراً، وكان حراً لأنه لم يكن متزناً بما فيه الكفاية ليرسم لوحات عادية كغيره من الفنانين.

شيء ما في أعماله كان يبوح بسره الذي تمكن من إبقائه في الخفاء لسنوات حتى قبل مجيئه لطنجة. لم يكن أليخاندرو عبقرياً، ولكنه كان طائراً يُغرِّد داخل قفصه دون أن يرى في ذلك عيباً، وفي الوقت الذي كان فيه أصدقاؤه من الطيور يتعلمون كيفية التحليق في أعالي السماء واختراق السحب الكثيفة، كان هو يغرد بصوته الشديّ بعيداً عن ازدحام السرب المتحاذق من الطيور البرية التي كانها زملاؤه في الحرفة.

قبل أن أتعرَّف على أليخاندرو لم أكن أؤمن بوجود الشخصية المظهرية التي يسميها البعض «العبقري المجنون»، ولكن هذا الأخير كان التجسيد المطلق لهذه الفكرة.

كان أليخاندرو واقعاً في حب شاعرة في ربيعها العشرين، وقد كان حبهما سراً يتهامس به الأصدقاء في الحفلات دون أن يكون لهم دليل ملموس، ولكنني كنت أعرف كل شيء. أخبرني هو بنفسه عن المشاعر القوية التي يكنها لحبيبته، وحدّثني عن خططهما وأحلامهما معاً.

وفي ليلة شتوية باردة خارج أسوار مدينتنا، أطبقت امرأة ما شفتيها على شفتي الرجل الذي كانت تحبه. كانت تلك قبلة الوداع، وكانا يتحريان الحذر قدر الاستطاعة دون أن يحجما عن إظهار شغفهما وتعلقهما بذلك الحب.

اختارت عشيقة أليخاندرو أن تساعده على تحقيق غايته وأمنيته الأخيرة؛ أن يضع حداً لحياته، أن يموت في حضنها.

حتى وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة، لم يتوقف أليخاندرو عن الإنصات للصوت الذي كان يُملي عليه ما يفعل، وهكذا قاد سيارته بجسد يتأرجح بين الحياة والموت ليلقى مصرعه في المدينة التي احتضنته وكانت الدواء لدائه.

قادتني الصدفة لأكتشف أن أليخاندرو لم يكن يرسم فحسب، بل كان شاعراً عظيماً وموهوباً، لكنه لم ينشر أشعاره قط. ولكن الصدمة الكبرى كانت عندما اكتشفت أن حبيبة أليخاندرو لم تكن شاعرة، بل كانت تنشر أعماله الأدبية باسمها. استحوذ عليّ الشك حيال رواية انتحار أليخاندرو، ولكنني لم أستطع أن أتوصل إلى أي استنتاجات. ما هي إلا أشهر قليلة حتى بلغني خبر وفاة عشيقة أليخاندرو، وقد شعرت حينها بتأنيب الضمير بسبب شكوكي السابقة حيال المرأة المسكينة التي قضت عليها الوحدة والبؤس بعد وفاة حبيبها.

ولكنني اليوم أقف أمام وجه مألوف، تكاد الحيرة تُمزقني، وأشعر بأن هذه الأحجية تكاد تدفعني للجنون. هل كان موتها موتاً مسرحياً؟ هل أنا أهلوس؟ أم أنني على وشك أن أفقد صوابي بالمرة؟ كيف لأليخاندرو وحبيبته أن يظهرا فجأة في مكان عام دون أن يلاحظ وجودهما أحد من مرتادي المقهى غيري؟ وكيف لي ألّا أجن وأنا أمارس الجنون هواية؟ كيف لا أجن وأنا أعيش داخل مخيلتي في عزلة تامة عن الواقع؟

ابتسم لي الوجه المألوف مرة أخرى، العشيقة التي لا اسم لها، والتي -بحسب ما يزعمه زوجي- لا وجود لها.

أليخاندرو كان رجلاً غريب الأطوار، تخافه النساء ويشعرن في وجوده بالاشمئزاز. لم يتزوج يوماً ولم ينجب أولاداً، لأن ما من امرأة كانت لتتحمل قلة نظافته والرائحة الكريهة المنبعثة من شقته، إلا إذا كنت أنا هذه العشيقة التي هربت من زيجتها البائسة، بحثاً عن شيء من الإثارة والتشويق، وارتمت في أحضان عبقري مجنون لم يكن يعرف أنها أكثر جنوناً.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.