اشتهرت ألف ليلة وليلة باعتبارها العمل القصصي اﻷبرز للحضارة العربية. ضمت الليالي حكايات ساحرة تنتمي أصولها لحضارات مختلفة، وانصهرت في قالب سردي مدهش صاغه مؤلفها أو مؤلفوها المجهولون. لعل قصة «علي بابا واﻷربعين حرامي» وقصة «علاء الدين والمصباح السحري» من أشهر قصص الليالي العربية، كما عُرفت في الغرب، وأصبحتا عنوانًا ومثالاً على براعة الراوي العربي المجهول. لكن الحقيقة أن القصتين ظهرتا زيادة على الليالي اﻷصلية في الترجمة الفرنسية التي قام بها «أنطوان جالان» في القرن الثامن عشر، ونسبهما لراوٍ عربي ماروني من الشام يُدعى حنا دياب.

حين أطلقت ديزني نسختها الجديدة من فيلم علاء الدين، تناقل بعض النقاد تلك الملاحظة اﻷخيرة، وعبّر بعضهم عن اعتقاده أن حنا هذا شخصية وهمية، وما قصة علاء الدين إﻻ تعبيرًا عن خيال الأوروبي لصورة خرافية عن الشرق. ورغم أن جموح خيال المستشرق تهمة لا تصلح للدفاع عن مؤلَّف تبدأ قصته الأصلية بملك يقتل كل ليلة عذراء انتقامًا لخيانة زوجته، إﻻ أن هذا ليس الدليل الوحيد على أن جالان لم يخترع شخصية حنا؛ لقد وصلت إلينا المذكرات التي دوَّن حنا فيها رحلته من الشام إلى فرنسا في القرن الثامن عشر راسمًا صورة بديعة للبحر المتوسط في زمنه شرقًا وغربًا، ولعلها فرصتنا الوحيدة للتعرف على أحد رواة الحكايات الشعبية أو حتى أحد مؤلفيها، نظرًا لسرده الممتع لوقائع رحلته، وذاكرته الخارقة وبعض الملاحظات المثيرة للتأمل كما سنرى في رحلته.

من الدير إلى الخواجة

بلغة عربية وسيطة بين الفصحى والعامية، بدأ حنا حكايته بالحديث عن محاولته الفاشلة للترهبن. أدرك حنا أنه اتخذ القرار الخطأ بمجرد أن خلع ثيابه العادية ولبس ثياب الدير. نفر قلبه من الرهبنة وندم على قراره للعيش حياة صارمة ومتقشفة، لكن الكبرياء منعه على حد تعبيره.

لم يمنعه شعوره بالضيق والندم من ملاحظة حياة الرهبان داخل الدير والتي توزعت بين الصلاة والمذاكرة والعمل اليدوي والاجتماع للطعام. حكى كذلك طرفًا من أخبار من رآهم في الدير مثل شيخ الضيعة المسن صاحب العائلة الكبيرة الذي قرر أن يكرس البقية من حياته وزوجته للترهبن، لكن رئيس الدير تعجب أن يهدي الشيخ زهرة شبابه للعالم واﻵن يريد أن يعطي شيخوخته للرهبنة، فقرر امتحان عزمه بأن أنزله كوخًا خارج الدير يحتمل برد الشتاء وحر الصيف ويأكل مما يتبقى من مائدة الدير، وهكذا بعد ثلاث سنوات أقنع الرهبان رئيس الدير بجدية الشيخ ليقبله في سلك الرهبنة.

غمر حنا شعور بالرهبة من كل ما لاحظه وسقط مريضًا، ثم سنحت له فرصة الخروج حين تحدث مبتدئون آخرون مثله بما في نفسه، فقرر رئيس الدير أن يختلي بالمبتدئين كل على حدة ليمتحن قرارهم. لم يجسر حنا على القول صراحة بندمه، لكن أخبر رئيس الدير برغبته في الذهاب لحلب للعلاج ثم يعود. يبدو أن الرئيس علم بنية حنا الحقيقية، لهذا لاطفه في الكلام وشدّد عليه أﻻ يرجع مهزومًا للعالم، لكن يبدو أنه كان على موعد مع هزائم أخرى.

خلع حنا ثياب الرهبنة وعاد لحلب نادمًا على قراره وضياع عمله السابق. كانت ظروف حنا مُهيئة تمامًا للقاء الخواجة «بول لوكا».

الخروج من حلب

بعد ثلاثة أشهر بلا عمل، قرر حنا الخروج من حلب ليلًا والرجوع للدير. صادف في قافلة السفر الخواجة الفرنسي بول لوكا الذي يعرِّفه حنا بأنه سايح من سواح سلطان فرنسا، مهمته كتابة ما يراه ويعرفه من تواريخ البلاد التي يزورها، وجمع الحشائش وعملات الملوك القدامى.

كان الخواجة يحاول التواصل مع منظِّم القافلة دون جدوى حتى تدخل حنا في الترجمة بينهما. رأى بول لوكا في الشاب الماروني الحلبي دليلاً ممتازًا لرحلته في الشام ووسيطًا بينه وبين اﻷهالي، وهي المهمة التي قام بها حنا بكل إخلاص كما توحي مذكراته. عرض الخواجة على حنا أن يسيح معه في اﻷرض مقابل أن يرجع معه إلى فرنسا ويعمل في خزانة الكتب العربية ويعيش حياته كلها في خدمة الملك. على هذا الوعد بالخلاص من البرابرة والحياة في بلاد اﻹيمان المسيحي، سافر حنا مع الخواجة ليدوِّن اﻷخير رحلاته في بضعة مجلدات لم تحمل واحدة منها أي إشارة إلى حنا!

بعد رحلة السياحة في الشام ركب حنا البحر مع الخواجة من صيدا إلى قبرص، التي كانت تحت الحكم العثماني وقتئذ، حيث يقابل بعض الكاثوليك الذين يروون له هروب بعض الناس من المغارم والضرائب الثقيلة التي يفرضها اﻷتراك واضطهاد الأرثوذكسية لأقليتهم الصغيرة من الكاثوليك، بل تفضيل المسلمين عليهم حسب مثلهم السائر مسلمان ولا رومان! ولا تخلو الرواية من لمز في اﻷرثوذكس ﻷنهم يزوجون بناتهم للإنكشارية، وهي فرقة من النخبة العسكرية العثمانية، طلبًا للحماية ﻷنهم لا عرض لهم ولا دين!

جربوع مصري صغير

بعد مدة ركب حنا البحر مرة أخرى إلى الإسكندرية ولبث فيها قليلًا مع الخواجة، ثم ركبا النيل إلى القاهرة حيث أقاما عند القنصل الفرنسي في حارة الموسكي. تجولا في المدينة بضعة أيام يدوران في الشوارع واﻷزقة، وزارا مواقع قيل لهم إن بيت السيدة العذراء وعنابر القمح التي أقامها النبي يوسف، ويبدو من خلال وصف حنا لكل المحطات التي مروا بها همة ونشاط بول لوكا في التعرف على المدن وأهلها، ثم التجول خارجها للبحث عن اﻵثار والعملات واﻷحجار الثمينة أو شرائها من الدكاكين.

يروي لنا حنا قصة شراء الخواجة لمومياء فرعونية وتهريبها خارج البلاد، كجزء من تجارة سرية قوامها نبَّاشو القبور. يبدو لنا من وقائع هذه الرحلة انبهار حنا الشديد بشخصية بول لوكا وأنه عنده من كل علم خبر؛ في الطب والتاريخ والنباتات والفلك والهندسة وغيرها، وترسخ إيمان حنا أكثر بمشاهدته علاج الخواجة للمرضى في رحلته، وعلاج حنا نفسه حين عالجه من ورم في عينيه أصابه من جراء الناموس في رشيد. زعم حنا كذلك أن الخواجة شفى والدته من مرض ميئوس منه حين علق في رقبتها عقدًا من حجر له خواص علاجية قوية، كما كان شائعًا في الطب القديم، ولم تنتكس اﻷم وتمت إﻻ حين خلعته من عنقها!

جدير بالذكر أن الخواجة كان يكثر من الكي في علاج أهل القرى، لأنهم أقرب للبهائم منهم للبشر، وبالتالي لا تؤثر فيهم الأدوية العادية.

بعد زيارة القاهرة أراد الخواجة السياحة لسيناء أو الذهاب جنوبًا لبلاد الصعيد والسودان، لكن القنصل الفرنسي أثناه عن عزمه وخوَّفه من مشقة السفر، فقنع بزيارة الفيوم والتجول فيها، ثم عاد بعدها للإسكندرية لركوب البحر بعد أن ضم لمقتنياته مجموعة من اﻷحياء هذه المرة؛ قفص يحوي سبعة من حيوان الجربوع، وهي الوحوش التي لم ير لها مثيلاً في كل البلاد التي زارها.

كان البحر المتوسط يموج يومئذ بغارات القراصنة، وكانت النشاط الرئيسي للولاة العثمانيين في ليبيا وتونس والجزائر لسنوات طويلة، وشاركت دول أوروبية أخرى في أنشطة القرصنة، وبما أن الإنجليز كانوا حلفاء للعثمانيين في ذلك الوقت، قرر بول لوكا استقلال مركب إنجليزية أقل رفاهية من المراكب الفرنسية، وذلك حتى يأمن شر القراصنة الإنجليز.

مع القراصنة

مثل عاصفة من عواصف السندباد أشرفت مركب حنا على الغرق قبل دخول طرابلس الغرب، وظلت على هذا الحال عدة أيام حتى رست المركب أخيرًا على بقعة مهجورة من الشاطئ، كأنهم استبدلوا الموت جوعًا بالغرق.

حين أشرف زادهم على النفاد قرروا استكشاف ما حولهم حتى بلغوا نخلاً وبيوتًا قريبة حملوا منها بعض الزاد والماء، ثم وصلوا بعد مغامرة بحرية أخرى إلى طرابلس ونزلوا على بيت القنصل الفرنسي كما جرت العادة.

يرسم حنا صورة القنصل الفرنسي الخواجة ليميرو كرجل كريم متدين يعطي الفقراء والمحتاجين ويحرص على الصلاة في الكنيسة مع أهل بيته، يجمع التبرعات لفكاك الأسرى المسيحيين الذين يقعون في أسر المغاربة، كما أنه مقرب لبيك طرابلس، حيث خلّصه القنصل من الأسر حين كان صبيًا صغيرًا مأسورًا في فرنسا، فحنَّ له القنصل ورأف بحاله حين عرف أنه من أسرة كريمة في طرابلس وأرسله مع سفينة إلى وطنه، ثم دارت الأيام وصار الغلام الصغير حاكمًا لطرابلس وانتخب الخواجة ليميرو قنصلاً لنفس المدينة وهو لا يعرف أن معتوقه القديم صار حاكمًا لها.

هكذا كان العالم عند حنا؛ قصة من قصص ألف ليلة وليلة، فلا يحضر عنده أي تحليل سياسي لموازين القوى، ولا يعرف شيئًا عن قصف فرنسا لطرابلس وفرض نفوذها عليها في القرن السابق، فالحاكم يُطلق مائتين من الجنود البنادقة الأسرى بلا فدية إكرامًا لصديقه القنصل، ويفعل كل معروف معه حفظًا لذلك الجميل حين كان البيك طفلاً أسيرًا.

يستمر حنا في رسم صور مثيلة لحكام المدن المغاربية الأخرى كرجال يعانون من سوء الهضم، ينبهرون بعلم بول لوكا وقدراته الطبية، لم ينج من تلك الصورة إلا حاكم تونس حيث استطاع الحاكم انتزاع انبهار حنا بقصره في باردو وإكرامه للأسرى المسيحيين عنده بالسماح بممارسة شعائرهم الدينية مع قسيس. وللأخير حكاية عجيبة حيث استطاع شفاء بول لوكا من مرض مفاجئ أشرف فيه على الموت، وذلك بواسطة دواء مصنوع من حجر الفلاسفة يعيد الشباب لمن يتناوله، وهو سر ظهور بول لوكا بسن أصغر بكثير من عمره الحقيقي فيما بعد!

ورغم امتلاء هذه الحكايات بالعجيب، إلا أنه يظهر من خلالها قدرات حنا في التفاوض مع الأهالي والباعة، وإنقاذ بول لوكا من بطشهم مرة حين يتشاجر مع رجل تونسي، كأن حنا خُلق للشرق قصرًا، فكما سنرى فيما بعد أن مهاراته تكاد تتلاشى حين يذهب إلى فرنسا.

إلى باريس

من ميناء تونس قرر بول لوكا بناءً على نصيحة القنصل ركوب مركب إنجليزي حتى يكفّونه قراصنة بلادهم، وفي الوقت نفسه لا يمسه القراصنة الفرنسيون الذين يستهدفون مراكب الإنجليز لأنه سائح مبعوث من ملك فرنسا، وكأن هذه الرحلة مُبتلاة بأسوأ الاحتمالات دومًا ليقصَّها علينا حنا.

تعرض مركبهم للنهب من القرصان الفرنسي، وكادا هما نفساهما أن يتعرضا للنهب، لكن مكانة بول واستنجاده بالقنصل الفرنسي حيث رست السفينة كفلت له النجاة. تنتهي رحلة الذهاب بمحطتها اﻷخيرة حين يذهب حنا بصحبة معلمه إلى قصر الملك لويس الرابع عشر ليعرض عليهم بول لوكا حيوانيّ الجربوع في قفص، ويعرض عليهم كذلك حنا حامل القفص بعدما يلبسه ثيابًا شرقية فاخرة. يبدو أن حنا عرف الدور المنوط به جيدًا، فلم يُبد اندهاشه من الأميرات اللاتي قلّبن ثيابه ورفعن غطاء رأسه، ولم يعترض حين تكلمن عنه باعتباره مسلمًا، بل تماهى تمامًا مع كونه جزءًا من العرض، مأخوذًا بكونه أخيرًا في بلاد المسيحية وفي قصر أعظم حكامها.

راوي علاء الدين

هكذا وفَّى حنا بوعده للخواجة أن يسيح معه في بلاد الشرق ويصحبه إلى فرنسا، وبقي وعد الخواجة بجعل حنا موظفًا في خزانة كتب الملك، لكن الخواجة ظل يؤجل وعده يومًا بعد يوم ليبدأ حنا مرحلة الانتظار الطويل. قضى وقته في باريس يدور ويتفرج على الشوارع والكنائس، يجمع القصص والحكايات عن القديسين والمدن والناس والملوك على ذات نسق الحكايات الشعبية وألف ليلة وليلة، ويبدي كذلك حنينه لكل ما هو شرقي يشبهه، يعقد المقارنات بين بلاد الشرق الغارقة في الفوضى والظلم وبلاد المسيحية العادلة الراعية للفنون واﻵداب، حريصًا على إيمانه الكاثوليكي، مؤمنًا بكل معجزات القديسين، ومتماهيًا مع الكنيسة في حربها ضد الهراطقة البروتستانت وقتلهم وتتبعهم.

ثم حدثت المقابلة التي أدخلت حنا تاريخ اﻷدب، حيث تعرف على «أنطوان جالان»، المترجم الفرنسي ﻷلف ليلة وليلة، والمسئول عن الكتب العربية في خزانة الملك (نفس الوظيفة التي عرضها لوكا على حنا). على عكس إهمال لوكا لحنا، ذكر جالان في يومياته أن حنا روى له مجموعة من القصص ضمها اﻷخير في ترجمته، منها قصة علي بابا واﻷربعين حرامي، وقصة علاء الدين والساحر اﻷفريقي، ولقاء تلك المساعدات عرض جالان مساعدة حنا في تأمين وظيفة له للسياحة في الشرق لحساب ملك فرنسا مثل بول لوكا، وهو ما اعتبره حنا عرضًا عظيمًا يعوِّض انتظاره الطويل لوظيفة لا يبدو أنها ستأتي. لم يعرف حنا في ذلك الوقت أنه وقع ضحية للصراع بين الرجلين، ولم يدرك أن كلاً منهما كان يعرض عليه وظيفة اﻵخر!

في النهاية لم يظفر حنا بشيء وبدا أن بلاد المسيحية ضاقت عليه، ولم يعد للغربة مبررها وهو باق دون عمل، فقرر أخيرًا الرجوع للشرق في رحلة لا تقل غرابة عن رحلة ذهابه، حيث استعاد حنا حواسه الشرقية في حسن التصرف والتعرف للناس، حتى الحيلة وادعاء الطب ليحظى بمكانة تقربه من الحكام اﻷتراك ويحمي نفسه من أذى الطريق!

يصل حنا إلى موطنه بسلام، ويظهر فيما بعد في إحصاء الجالية المارونية كرب أسرة مكونة من اثني عشر فردًا، ونشعر من أسلوبه أنه كان دومًا راضيًا سعيدًا بحياته وإيمانه، قانعًا بما حصَّله في رحلته بعد مرور بضعة عقود على حدوثها.

قد تبدو رحلته كتابًا مستوحى من القصص الشعبية، أو حكايات رجل بسيط من ثلاثة قرون عن زمن قديم ولى، لكن ما زال للرحلة وقع في النفوس إلى اليوم، في حكاية الرجل الغربي في الشرق، والشرقي في الغرب، الراحل وراء الفرصة، والمشتاق دوما للأهل والوطن، والغرب الذي ينتظره ليكون جزءًا من متحف يداعب خيال المستشرق. لم يعرف حنا أنه سيظل جزءًا من هذا المتحف إلى اليوم، وربما للأبد.

الحكاية اﻷخيرة

اهتم الباحثون بمذكرات حنا بمجرد العثور على نسختها الفرنسية ثم العربية، محققين علاقته بجالان وبالقصص المدخولة على ألف ليلة وليلة، وربما من أطرف ما لاحظه أحدهم في المذكرات، قصة مثيرة للدهشة والشكوك في آن واحد؛ ففي رحلته ﻷحد جبال الشام مع بول لوكا بحثًا عن القطع اﻷثرية، وجدا قبرًا فيه نقب نازل ﻷسفل بين اﻷطال القديمة على الجبل. عرض الخواجة على كل الحرس المرافقين أن ينزلوا لاستكشاف ما بداخل النقب فرفضوا جميعًا، حتى جاء راع عابر فأغراه بول لوكا بالمال لينزل للقبر. نزل الراعي في الحال، ثم وجد في البداية جمجمتين وخاتمًا. أمره الخواجة من أعلى أن يجس جدران القبر فلمس الراعي طاقة في الجدران وجد فيها شيئًا رفعه للخواجة ثم عادوا جميعًا.

ماذا كان هذا الشيء؟

نعم، مصباح!

ترى من هو المؤلف الحقيقي لقصة علاء الدين والمصباح السحري؟