على الرغم من أن مناقشة مسائل الهويات المذهبية تكاد تعد من المحرمات في الساحة السياسة التركية فإن هذه المسألة طفت على سطح النقاشات السياسية مؤخرًا بقوة مع إعلان المرشح الرئاسي ورئيس حزب الشعب الجمهوري، كمال كليتشدار أوغلو، عن انتمائه للطائفة العلوية، مما أثار عاصفة من التعليقات الطائفية ضده.

كما أعاد منافسو «كليتشدار أوغلو» نشر مقطع فيديو قديم له وهو يتحدث أمام جموع شيعية بمناسبة عاشوراء وهم يهتفون «لبيك يا حسين، لبيك يا كليتشدار أوغلو»، بينما تعهد الرجل أمامهم «بوقف دماء الحسين التي لا تزال تسيل، وتحقيق السلام له وتبديد الحزن في كربلاء .. لسنا من الذين يبكون على الحسين ويتصرفون مثل يزيد»، ويُمني سامعيه بأن المئوية الثانية من عمر الجمهورية التركية – التي تبدأ العام الجاري- ستتوج بالديمقراطية، مما أثار اتهامات حادة له واتهامات بأنه طائفي يتزعم حزبًا يُعرف نفسه كعلماني.

وكاد كليتشدار أوغلو، البالغ من العمر 74 عامًا، يصبح أول رئيس علوي لتركيا في حال فوزه بالانتخابات الرئاسية، لكنه لم يحسم الجولة الانتخابية الأولى في 14 مايو/أيار الماضي وحصل على 44,9 بالمائة من الأصوات، وأرغم الرئيس رجب طيب أردوغان (حصل على 49,5 بالمائة) على منازلته في جولة الإعادة في 28 أيار/ مايو، وهو حدث يحدث للمرة الأولى.

وأثار دعم القوميين الأكراد(حزب الشعوب الديمقراطي) لزعيم حزب الشعب الذي يتبنى القومية التركية لغطًا كبيرًا، وكاد يعصف بتحالف المعارضة بسبب تباين اتجاهات القوى المؤيدة له، بخاصة لأن برنامجه الانتخابي خلا من أي إشارة واضحة لحلّ القضيّة الكرديّة، ولم يدعُ جمهور حزبه إلى تأييد التحالف المدعوم من حزب العمال الكردستاني في الانتخابات البرلمانية، ومع ذلك حصل على الدعم الشعبي في المناطق ذات الأغلبية الكرديّة.

ومع أنه لا يمكن الاعتماد على الدوافع الدينية والمذهبية حصرًا لتفسير أحداث التاريخ والواقع؛ إذ إن ذلك يعد اختزالًا مخلًا في التحليل السياسي، لكن من المؤكد أن فهم المحددات الأيديولوجية يمنحنا إدراكًا أعمق للمشهد، وإلمامًا أكثر بجوانبه المتداخلة والمعقدة.

تسييس الطائفة وعلونة السياسة

ينقسم العلويون في تركيا إلى قسمين: علويو الأناضول البكتاشية (أو البكداشية)، والعلويون العرب (يُطلق عليهم أحيانًا النصيرية) وهم أقلية صغيرة بالنسبة للقسم الأول، ويعيش أغلبهم في جنوب البلاد بخاصة في محافظة هاتاي.

ويتعبد العلويون في معابد تسمى «بيوت الجمع» حيث يمارسون طقوسًا تشبه الرقص والغناء الصوفي، وبينما يطالبون باعتبارها دور عبادة، فإن البعض كأردوغان مثلًا يعتبرون هذه الأماكن «دورًا للتسلية والترفيه»، وبينما يُعرّف كثيرٌ منهم أنفسهم كمسلمين، فإن بعضهم يطالب باحتساب الطائفة كجماعة مستقلة وليست تابعة للدين الإسلامي مثل إسرافيل أربيل رئيس الاتحاد العلوي في بريطانيا، وبصفة عامة لا تقبل الطائفة محاولات التقارب مع الأغلبية السنية، وتنظر لها بارتياب معلن وصريح وتعتبرها محاولات لإدماجها وتذويبها.

ويشير الكاتب السوري المختص بالشؤون الكردية والتركية، هوشنك أوسي، إلى أن العلويين في تركيا يتكونون من أعراق مختلفة؛ فمنهم الترك والعرب والكرد ومنهم بعض الأكراد ممن تعرضوا لعملية صهر شديدة وتترَّكوا، وفي ظل غياب الإحصاءات فإن نسبة العلويين في تركيا في تقديره لا تقل عن عشرين بالمائة، وترجع أصولهم إلى خراسان شرق إيران بحسب بعض مصادرهم التي تناولت تاريخهم، ويتبعون حاج ولي بكتاش، ويولون مكانة خاصة لأبي مسلم الخراساني (الكردي) والحلاج والسهروردي، ويهتمون كذلك بتراث جلال الدين الرومي، وشمس الدين التبريزي، فكل هؤلاء أتوا من إيران وصاروا شخصيات مهمة لدى علويي الأناضول.

ويلفت هوشنك أوسي، إلى أنه قد نمت لدى علويي الأناضول بمرور الوقت نزعة قومية فاتخذوا الهوية المذهبية هوية قومية، وأصبحوا لا يُعرّفون أنفسهم ككرد أوترك بل كعلويين بخاصة بعد مجزرة ديرسم[1] عام1938 التي أسهمت بقوة في نمو الوعي بالهوية العلوية بخاصة مع الاضطهاد الذي تعرضوا له في الأربعينيات على يد السلطة.

ويضيف في تصريحاته لـ«إضاءات» أنه بعد مجزرة ديرسم التي راح ضحيتها 12 ألف قتيل وفقًا للتقديرات الرسمية، وتشرد عشرات الآلاف بعدها، لم يتخلَّ العلويون عن الأحزاب العلمانية والقومية؛ لأنهم رأوا أن اضطهاد العثمانيين أبشع من القمع الأتاتوركي، وظلوا يرون أن العلمانية على مساوئها أفضل مما كانوا عليه في العهد العثماني الذي تعرضوا فيه للمجازر كما في عهد السلطان مراد الرابع الذي قتل منهم الكثير حتى لُقب بحفار القبور.

ويبين أنه بخلاف حزب العدالة والتنمية الذي يمثل وجود بعض العلويين فيه مجرد ديكور، فإن أغلب قيادات حزب الشعب الجمهوري والأحزاب اليساريّة القانونيّة والمحظورة والمتطرّفة، كانوا وما زالوا من العلويين سواء الأكراد أو الأتراك، والمجتمع العلوي في تركيا على اختلاف أعراقه مسيّس، ليس فقط ضمن التيّارات السياسيّة بل على مستوى مؤسسات المجتمع المدني أيضًا، فهناك قضية علويّة كاملة الأوصاف في تركيا.

العلويون في حزب العمال الكردستاني

يعتبر الكاتب المختص بالشؤون الكردية والتركية، أنه في البداية انضم الكثير من أبناء الطائفة للتيارات اليسارية المتطرفة، وحينما تأسس حزب العمال الكردستاني في 27 نوفمبر/ تشرين الثاني 1978 كان أكثر من نصف أعضاء المؤتمر التأسيسي للحزب علويين (عددهم 22 أو 23)، ومنهم ساكنة جانسيز، وزوجة عبد الله أوجلان آنذاك، كسيرة يلدرم، وهاتان كانتا المرأتين الوحيدتين في هذا الحدث، وعلى الرغم من أن أوجلان نفسه لم يكن علويًا؛ لأنه ينحدر من عشيرة سنية وأبوه اسمه عمر وأمه اسمها عائشة (عُرفت باسم التدليل عُويش) وأخوه اسمه عثمان، لكنه حينما عاش في ظل النظام السوري العلوي سمى نفسه علي فرات، وسمى زوجته فاطمة وسمى أخاه حسن حسين.

وأضاف أنه منذ وطأت قدماه سوريا في مطلع الثمانينيات قدم أوجلان أوراق اعتماده للنظام السوري، وفي منتصف التسعينيات أعطى الضوء الأصفر لتبني العلوية السياسية وبدأت أدبيات الحزب الذي يُفترض أنه يساري وعلماني تتغير، فصارت كتابات أوجلان تدور حول الإمام علي وثقافة المقاومة ومظلومية كربلاء وغيرها من المفاهيم التي من شأنها تبرير التحالف مع الشيعية السياسية في إيران والعلوية السياسية في سوريا، وركز في تحليلاته السياسية والتاريخية على التأكيد على مسألة أفضلية علي بن أبي طالب، وأخذ يصفه بأنه إمام الفقراء والمعارضة، ويهاجم عثمان بن عفان، وعمر بن الخطاب، وأبا بكر الصديق، وغير ذلك من المقولات الغريبة على أيديولوجية الحزب، مما يشير إلى أن أوجلان «تعلون» سياسيًا.

ويكشف هوشنك أوسي، أن انطلاق الثورة السورية عام 2011 كان نقطة التحول التي أدت إلى إعطاء الضوء الأخضر لانخراط الحزب نفسه في مسيرة العلوية السياسية بشكل واضح وصريح، واستفاد نظام بشار الأسد من هذا التوجه، وهذا كان جزءًا من سياق عام في المنطقة، حيث أصبحت الأحزاب اليسارية ترى بشار الأسد كأنه أحد أحفاد الحسين، وترى دول الخليج وتركيا كأنهم أحفاد الأمويين وصارت ترى المعركة بين تحالف المظلومين ضد الظالمين.

ويضيف أن القادة العلويين في حزب العمال سعوا إلى الدفع بالشعب الكردي إلى المحور الإيراني-الأسدي، إذ فرض الحزب نفسه على المشهد الكردي بقوة السلاح والإغراءات، وهذا الأمر لم يكن واضحًا منذ البداية، فالحزب بدأ علمانيًا لكن الثورة السورية كشفت عن تورطه في المنزلق الطائفي.

ويوضح هوشنك أوسي أن السلطة القوية والقادرة داخل حزب العمال الكردستاني تتمثل في المجموعة العلوية، وتشكل هذه المجموعة المذهبية -بغض النظر عن كون عناصرها كرد أم لا- الدولة العميقة المسيطرة على الحزب، ويمكن رؤية النزعة العلوية السياسية في تحالفات الحزب بخاصة مع النظامين الإيراني والسوري، وكذلك في خطاب الحزب؛ فحينما تصف الآخرين بأنهم «سُنة» فإنك تلقائيًا تصف نفسك بأنك شيعي أو علوي، فمراد قرايلان، القيادي بالحزب، على الرغم من أنه ليس علويًا، لكنه أدلى بتصريح مؤخرًا يقول فيه: إن سبب هزيمة كليتشدار أوغلو في الانتخابات الرئاسية التركية هو أنه علوي، فإضافة إلى خطأ هذا الزعم فإنه من الغريب أن يلجأ حزب علماني للفرز الطائفي بهذا الشكل.

ويردف أن رموز المجموعة العلوية تتحكم بمفاصل الحزب مثل المسؤول الإعلامي للحزب مصطفى كاراسو، ودوران كالكان (الاسم الحركي له عباس)، المسؤول العسكري الفعلي للحزب على الرغم من أنه ليس كرديًّا أو له أي أصول كرديّة ولا يعرف اللغة الكردية لكنه علوي، ومنذ عام 1983 وهو يتحكم بالملف العسكري حتى اليوم، وهو رجل غامض، أُعدم الكثير من قادة حزب العمال في عدد من الدول بأوامر مباشرة منه، وسبق أن ألقي القبض عليه مع علي حيدر قيطان؛ بسبب محاولة إعدام عضوين باللجنة المركزيّة في الحزب في فرنسا، وكان جميل الأسد، شقيق حافظ الأسد، أحد محامي الدفاع عنهما أمام القضاء الألماني، وبعد إطلاق سراحهما منتصف التسعينيات، عادا إلى دمشق، واحتفى بهما أوجلان، وأرسلهما إلى جبال قنديل شمال العراق، وكان كالكان وقتذاك يشرف على التحقيقات، وانتزاع الاعترافات من بعض مقاتلي الحزب المعتقلين هناك، وهو يتحكّم الآن بمنطقة الإدارة الكردية في شمال شرقي سوريا (روجافا أي غرب كردستان)، وكان من ضمن الذين أخضعوا مظلوم عبدي، الزعيم الحالي لقوات سوريا الديمقراطيّة، للتحقيق والتهديد في السابق.

ويرى الكاتب المختص بالشؤون الكردية والتركية أن كل الذين يتصدرون الحزب اليوم في سوريا هم مجرّد واجهة، وهناك قيادي تركي في حزب العمال هو الذي يصدر الأوامر للقيادات الكرديّة السوريّة التي من المفترض أنها تدير العمليّة العسكريّة والأمنيّة والسياسيّة في شمال شرق سوريا اليوم.

ويبين أن حزب العمال الكردستاني اليوم ليس حركة تحرر وطني، بل تخلى بشكل رسمي عن مشروع إقامة الدولة الكردية، وصار الآن يشيطن الدولة القومية والفكر القومي.

يُذكر أن النظام السوري دعم حزب العمال الكردستاني في بداية الاحتجاجات الشعبية عام 2011، وأفسح له المجال ليتوسع في شمال البلاد، ومنع الفرع السوري للحزب خروج التظاهرات السلمية ضد النظام داخل مناطق سيطرته، فقد تشابه موقف أوجلان من ثورات الربيع العربي مع موقف حزب الله اللبناني؛ إذ رحب بها في البداية حينما نجحت في تونس ومصر لكنه عكس موقفه منها لما وصلت إلى سوريا، فطالب بالحوار مع نظام الأسد، وأشار إلى التحالف معه في حال استجاب النظام لمطالب الحزب، وبالفعل تم التنسيق بين الطرفين وفقًا لما أكده رضا آلتون، مسؤول العلاقات الخارجية والمسؤول المالي للحزب، وهو من أبرز القادة العلويين المتحكمين بالقرار داخله.

وبدأت جريدة «سرخوبون» الرسميّة الناطقة بلسان الحزب منذ أبريل/ نيسان 2012 تنشر بكثافة موادًا تتعلق بالعلويين والقضية العلوية في تركيا، في تناقض حاد مع خطها التحريري منذ بداية صدورها في ألمانيا عام 1982، وخاض الحزب معارك دامية ضد الفصائل المعارضة للنظام، وبدا واضحًا التنسيق العملياتي مع دمشق.

العلويون في حزب الشعب الجمهوري

حزب الشعب الجمهوري هو حزب مصطفى كمال أتاتورك، مؤسس الجمهورية، وقد تبنى هذا الكيان العلمانية والقومية التركية بشكل متشدد وحاول فرضهما بالقوة على السكان في تركيا الحديثة، ويتزعم اليوم المعارضة السياسية في تركيا.

لكن بحسب المحلل السياسي التركي، محمد زاهد غول، فقد نحا الحزب منحى طائفيًا منذ سنوات بشكل مثير للقلق، وصل لدرجة أن شهد الحزب وجود 47 علويًا من أصل 52 عضوًا منتخبًا بالمجلس الاستشاري الأعلى للحزب، حتى صار يُنظر إليه كحزب يمثل طائفة دينية، وليس حزبًا علمانيًا لا يهتم بالدين، فضلًا عن الادعاء بتبنيه مقاربة تُقصي الدين عن السياسة.

يشير الكاتب هوشنك أوسي، إلى أن بداية وإرهاصات تلون حزب الشعب الجمهوري باللون الطائفي المذهبي بدأ في الأربعينيات؛ إذ انشق عدنان مندريس ومجموعته عن الحزب، واستطاع الفوز في الانتخابات العامة وترأس الحكومة بين عامي 1950 و1960، قبل أن يُعدم عام 1961 بعد اتهامه بمحاولة إحياء الخلافة والانقلاب على الأتاتوركية، ولم ينضم العلويون إلى مجموعة مندريس، بل ظلوا في حزب الشعب وازداد تمسكهم به مع ازدياد مخاوفهم من احتمال عودة السلطنة العثمانية أو نظام شبيه بها، فصار الحزب هو الحصن المتبقي للعلويين لحماية أنفسهم بخاصة بعد تراجع التيارات اليسارية ولم يبق لهم خيار آخر.

ويكشف المختص بالشؤون الكردية والتركية أنه في عام 2011 ومع انطلاق الثورة السورية، تعمقت مخاوف علويي تركيا من سقوط نظام الأسد الذي يهيمن عليه علويو سوريا، وزار وفد من حزب الشعب الجمهوري، دمشق لإعلان تضامنه مع نظامها في بداية الأزمة؛ إذ خافوا من سقوط بشار الأسد ووصول السُّنة للحكم وبالتالي تعزيز موقف حكم حزب العدالة والتنمية وصعود مشروع الإسلام السياسي في المنطقة وعودة الخلافة.

ويشير إلى أن العلويين قدموا دعمًا قويًا لنظام الأسد، ليس فقط على الصعيدين السياسي والإعلامي، بل من خلال انتشارهم في الأجهزة الأمنية والجيش مارسوا نفوذهم لعرقلة الدعم التركي لفصائل المعارضة السورية، وعملوا على فضح تورط المخابرات التركية في هذا الأمر، وسلطت وسائل إعلامهم الضوء على تلك الموضوعات مما مثل إحراجًا كبيرًا لحكومة العدالة والتنمية وشكّل ضغطًا كبيرًا عليها، كما تورّط عناصر الاستخبارات التركيّة من العلويين الترك، في عمليّة اختطاف المقدّم السوري المنشقّ حسين هرموش وتسليمه للنظام السوري، وهذا يشرح أحد أسباب خشية الحكومة التركيّة، من الانخراط العسكري المباشر ضدّ نظام الأسد، والاستعاضة عن ذلك، بدعم فصائل سنيّة مسلحة.

وكان المفكّر السوري العلماني الراحل صادق جلال العظم، قد أثار جدلًا واسعًا بطرحه مفهوم «العلويّة السياسيّة»، مبررًا ذلك بأنه لاحظ أن المناقشات العلنية للثورة السورية تترفع عن إثارة القضايا المذهبية خوفًا من صب الزيت على النار كما يقولون، في حين أن أحاديث الجلسات الخاصة لا تدور إلا حول هذه المواضيع!

من جانبه صرح همبرفان كوسه، الصحافي الكردي السوري، بأن الأكراد العلويين بقيادة الشيخ سيد رضا، أعلنوا انتفاضة شعبية ضد أتاتورك في ديرسم، لكن الانتفاضة فشلت وتم قمعها، ولم يتعاون الأكراد الآخرون معهم بسبب التباين المذهبي، مرجحًا أن هذا الموقف كان على أساس طائفي.

وأردف في تصريحاته لـ«إضاءات» أن أكراد ديرسم تعرضوا لإبادة جماعية وتم تهجير من تبقى، ومنهم عائلة كليتشدار أوغلو مع أبيه وأمه، وكان هو في سن الطفوله آنذاك، وانقسم الأكراد الناجون من المذبحة إلى قسمين رئيسين؛ الأول تفرق في مدن البلاد وتم تتريكهم، والثاني عاش في ناحية معبطلة بعفرين شمال سوريا حاليًا، ووصل تعدادهم إلى 15 ألفًا، لكنهم تعرضوا للتهجير مجددًا بعد سيطرة تركيا على المدينة، وما زالت ديرسم اليوم محتفظة بطابعها العلوي الكردي بعد أن تغير اسمها إلى تونجلي، وفي الانتخابات الأخيرة صوتت لصالح كليتشدار أوغلو في الانتخابات الرئاسية، وصوتت في الانتخابات البرلمانية لحزب اليسار الأخضر الذي يعد الواجهة السياسية لحزب العمال الكردستاني في تركيا.

وقال كوسه، إنه من المفارقات أنه اعتبر نفسه تركيًا وتخلى عن انتمائه الكردي، وتزعم حزب الشعب الذي دمر مدينته وشرد عائلته، لكنه عمل على تخفيف وطأة رفض هذا الحزب العلماني للحجاب، وقد يرجع ذلك إلى أن نساء العلويين يرتدين الحجاب خلال الطقوس الدينية.

وأشار إلى أن حزب الشعبي الجمهوري اليوم لم يعد يحتفظ بالخصائص الأيديولوجية التي أسسه أتاتورك عليها، بل إن الحزب الأقرب للنسخة الأتاتوركية اليوم حزب الحركة القومية.

 وتابع أن العلويين يمثلون أقلية بين الأكراد في تركيا الحديثة، فعددهم من أربعة إلى خمسة ملايين، ويتحدثون اللهجة الظاظاكية، أما الكرد السنة فمعظمهم يتحدثون اللهجة الكرمانجية وقليل منهم يتحدث الظاظاكية، وعلى الرغم من كون الطرفين يتحدثون لغة واحدة فإنه يصعب عليهم فهم بعضهم البعض.

وأوضح كوسه أن كليتشدار أوغلو الذي ينحدر من أصول كردية ويتزعم القوميين الأتراك لا يمثل استثناءً، بل إن معظم قادة حزب الشعب الجمهوري اليوم الذي يعبر عن قوميي تركيا ليسوا أتراكًا عرقيًا ولكنهم تَتَرّكوا، وكمال كليتشدار أوغلو ينكر وجود قومية كردية في تركيا من الأساس ويطلق عليهم «أتراك الجبال» وليسوا من قومية أخرى.

وأضاف كوسه أن معظم تركيا الحديثة اليوم من الأكراد لكن ربعهم فقط هم الذين يعتبرون أنفسهم كذلك نتيجة سياسة التتريك، فوزير الخارجية الحالي ورئيس المخابرات السابق، هاكان فيدان، من أصل كردي، لكن ابن أخيه مقاتل في حزب العمال الكردستاني، وكذلك وزير الخارجية السابق، تشاووش أوغلو لكنه لا يعترف بذلك، وهذا كثير سواء في الأحزاب المعارضة أو السلطة، بل إن العديد من منظري القومية التركية الحديثة أكراد عرقيًا.

من جانبه أكد المحلل السياسي السوري، ليث الزعبي، أن زعيم حزب الشعب الجمهوري غير لقبه الكردي من «قرابولوت» إلى الاسم التركي «كليتشدار دار أوغلو»، وكان سبب انشقاق حزب الحركة القومية عن حزب الشعب الجمهوري أن «الأكراد صاروا أتراكًا» في هذا الحزب على حد تعبير زعمائه.

وأضاف الزعبي في تصريحاته لـ«إضاءات» أن نظام حافظ الأسد استخدم قادة الأحزاب العلويين لمناوءة تركيا بغض النظر عن اختلاف وجهاتهم السياسية؛ فكان خالد بكداش، أمين الحزب الشيوعي السوري، يهاجم تركيا ليلًا نهارًا، بحجة عضويتها بحلف الناتو، وكان حزب العمال الكردستاني يستهدف تركيا دفاعًا عن القومية الكردية، ومعراج أورال المعروف بعلي كيالي، قائد ميليشيا الجبهة الشعبية لتحرير لواء إسكندرون، يهاجم تركيا ويستهدفها دفاعًا عن القومية العربية، وليس صدفة أن تكون الجهات الثلاث تحت قيادة علويين مدعومين من نظام الأسد العلوي الأقلوي.

وقال الزعبي، إن حزب العمال الكردستاني تدرب على السلاح في البقاع شرق لبنان على يد الجيش السوري النظامي خلال الحرب الأهلية اللبنانية، وحارب منظمة التحرير الفلسطينية وليس إسرائيل، من دون أي مبرر منطقي يكشف علاقة قتل الفلسطينيين بخدمة القضية الكردية!

مبدأ الخيار الثالث

في إطار تبنيه المعلن للقضية القومية الكردية، رفع حزب العمّال الكردستاني في سوريا وتركيا شعار «الخيار الثالث» الذي يعني أنه لا يقف مع النظام ولا مع المعارضة؛ لأنه يتبنى طرحًا مستقلًا ويلتزم الحياد تجاه ما عداه، لكن ما قالته الوقائع إن الحزب انحاز للنظامين السوري والإيراني ضدّ معارضيهما، وانحاز للمعارضة التركية ضد الحكومة، وفي كردستان العراق ناوأ الحكومة الكردية وانحاز للقوى الموالية لإيران ضدها، أي إنه لم يطبق عمليًا مبدأ الخيار الثالث في أي دولة من الدول الأربع بل اتسقت مواقفه السياسية مع اتجاهاته المذهبية.

فالحزب تلقى دعمًا من نظام الأسد على الرغم من أنه بدأ كحزب انفصالي يعلن سعيه لإنشاء دولة كردستان الكبرى بما يعنيه من تقسيم مفترض للأراضي السورية، ويتعاون مع إيران علنًا في أكثر من ملف كما في شمال العراق مثلًا على الرغم من أنه يُفترض به أنه يرفع شعار استقلال منطقة كُردستان التي يقع جزء منها في إيران، بينما ينال الدعاة السنة هناك كل تنكيل كالاعتقالات والإعدامات، وبينما تعد كردستان العراق التجربة الكردية الوحيدة الناجحة يقف الحزب من حكومتها موقف العداء، وتستخدمه إيران لاستهداف القوات الكردية والتركية في الإقليم الذي ترفض حكومته أن تكون جسرًا مكملًا للهلال الشيعي.

المراجع
  1. مجزرة ارتكبتها القوات الحكومية في نهاية عهد أتاتورك