في أثناء الانتخابات التحضيرية للحزب الديمقراطي لاختيار مرشحه أمام ترامب في انتخابات 2016، بدا أن هناك جيلاً صغيرًا من الشباب يقود عملية إصلاح كبيرة داخل الحزب، وداخل السياسة الأمريكية بشكل عام.

تميز هذا الجيل بنزعة يسارية واضحة، لم يعد لديهم تلك الشكوك الكبيرة حول الاشتراكية والشيوعية، لم يعد هؤلاء الشباب يهتمون كثيرًا بالخطاب الإعلامي السائد من مجمل الطيف السياسي الأمريكي حول شيطنة الاشتراكية. لم يكن هؤلاء الذين عملوا تحت منصة بيرني ساندرز وحملته الانتخابية وليدي لحظة ساندرز وحدها، لكنهم في المجمل ذلك الجيل الذي عاش الأزمة المالية العالمية في 2008. هؤلاء الشباب المثقلون بالديون الدراسية، والذين تخرجوا في جامعات كبيرة ليعملوا بأجر أكبر من الحد الأدنى بقليل.

من بين هؤلاء الشباب، نجمة الروك الجديدة في الحزب الديمقراطي ألكساندريا أوكاسيو-كورتيز. كورتيز هي ابنةٌ لأم من بورتريكو، وأب من برونكس نيويورك، إحدى أفقر المناطق في نيويورك، هؤلاء الذين يعيشون في واحدة من أغنى مدن العالم ولا يقدرون في نهاية الشهر على دفع الإيجار.

كانت كورتيز تعمل حتى عام 2017 – أي قبل أقل من عام من ترشحها للكونجرس- نادلة في مطعم، كالكثيرين في تلك المنطقة الذين وقعوا تحت نير التحول الخدمي للاقتصاد الأمريكي بداية من الثمانينيات كأحد التأثيرات الرئيسية للعولمة. لم تعد الأمة العظيمة والحلم الأمريكي والصناعة الأمريكية قادرة على توليد ما يكفي من الوظائف لهؤلاء، فعوضهم النمو في قطاع الخدمات عن هذا، تحولت برونكس – المكان الذي ولدت فيه كورتيز- من مكان تسكنه الطبقة العاملة الصناعية الأمريكية التي توسعت بشدة منذ بدايات القرن العشرين وحتى عقد الثمانينيات، إلى مكان تسكنه الطبقة العاملة في قطاعات الخدمات.

في مايو/ آيار 2018 بدأت كورتيز، المرأة العاملة ذات الأصول اللاتينية، حملتها للترشح للكونجرس بعد أن فازت بترشيح الحزب الديمقراطي جراء إقصائها في الانتخابات التمهيدية لواحد من بارونات الحزب الديمقراطي الأقوياء، جون كروالي. كانت هزيمة كراولي وفوز كورتيز صاحبة الـ29 عامًا في ذلك الوقت مثيرة، لتكون المرأة الأصغر التي تدخل الكونجرس، إيذانًا بحقبة جديدة يدعوها الكثير من المحللين السياسيين بالحقبة الجديدة للسياسة في الحزب الديمقراطي.

كان هؤلاء الشباب اليساريون قوة دافعة كبيرة لفوز الحزب في انتخابات التجديد النصفي للكونجرس ومنع الجمهوريين من الفوز بأغلبية مجلس النواب. هذه النخبة الجديدة التي تدمج في خطابها السياسي المكونات اليسارية التقليدية، كانعدام المساواة وزيادة الحد الأدنى للأجور، مع مكونات جديدة تبناها الديمقراطيون مثل خطابات الاقتصاد الأخضر لمواجهة الاحتباس الحراري والذي يكتسب شعبية كبيرة في أوساط جيل الألفية – يقصد به الجيل الذي ولد ونشأ من منتصف الثمانينيات بعد حقبة ريجان وحتى الآن- والذي لا يبدو أن الإدارة الأمريكية الحالية ممثلة في ترامب توليه الكثير من الاهتمام.

في هذه المقالة، نسعى لتقديم صورة للتغيرات التي يعايشها الحزب الديمقراطي من خلال النظر في حالة كورتيز وغيرها، هذه التغيرات التي يمكن أن تقود لاحقًا لفوز شخص ذي نزعات يسارية واضحة – وهو بيرني ساندرز- بترشيح الحزب وبالتالي يحصل على فرصته في المنافسة في الانتخابات الرئاسية القادمة في 2020، ووقف المد الشعبوي الذي جاء بترامب.

لا يسعى هذا المقال بالطبع لمدح كورتيز، والتي تبدو في أحيان كثيرة متخبطة في خطابها السياسي تحت الضغط اليميني الذي يصفها بالشيوعية، والتي تريد للولايات المتحدة أن تتحول لنموذج فنزويلا أو كوبا. لكنه يسعى للتعرف على مكونات الخطاب السياسي لكورتيز، وكيف يمكن أن يشكل هذا الخطاب أفقًا محتملًا لسياسة جديدة داخل الحزب الديمقراطي وداخل السياسة الأمريكية.


الصفقة الجديدة الخضراء

بعد فوزرها بالدائرة الـ14، والتي تضم مناطق من كوينز وبرونكس – إحدى أفقر المناطق في نيويورك- أصبحت كورتيز بلا شك النجمة الجديدة للحزب الديمقراطي. يتجلى هذا في الهجوم المتتالي الذي تشنه منصات الإعلام اليمينية والجمهورية عليها، حتى أصبحت بشكل أو بآخر شيطان الشيوعية الذي يكرهه الجمهوريون. وعلى الجانب الآخر يراها مؤيدوها ملاكًا جاء لإنقاذ السياسة الأمريكية من محنتها الحالية، والتي تجلت بصعود ترامب للبيت الأبيض.

تطرح كوريتز خطابًا سياسيًا متوازنًا في أحيان كثيرة، على حد وصفها، خطاب أخلاقي راديكالي ينظر للسياسة على أنها تساؤلات دائمة حول مصير البشر في مقابل المال، اتضح هذا كثيرًا في الفيديوهات الدعائية لها أثناء الترشح للكونجرس وحتى لقاءاتها الإعلامية الكثيرة، والتي تتحدث فيها كثيرًا عن تطبيق صارم لضرائب مخصصة للأغنياء كضريبة الثروة وضرائب البورصة.

تستدعي كورتيز في خطابها السياسي كثيرًا مقارنة الولايات المتحدة بالدول الإسكندنافية، خاصة في مواضيع مثل الرعاية الصحية والتعليم المجاني، والتي أضحت موضوعات تحظى بدعم كبير من غالبية المواطنين الأمريكيين. كان ملف الرعاية الصحية هو الذي أعطى لأوباما فترة رئاسية ثانية وجعل الديمقراطيين يعودون للواجهة في انتخابات الكونجرس الأخيرة.

تطرح كورتيز خطاب الرعاية الصحية المجانية، إلى جانب التعليم المجاني خاصة في المراحل الأولية، تدافع عن الاستثمار الحكومي في التعليم، ووقف زحف المدارس الخاصة، كما أنها تطرح خطابات أكثر تقدمية من معظم الساسة الأمريكيين في وقت أصبح اللاجئون والمهاجرون يشكلون معركة انتخابية كبيرة، ليس في الولايات المتحدة فقط بل في العالم. لكن ما جعل كورتيز تستحق الفكرة المنوطة بإعادة تعريف السياسة الأمريكية هو المقترح الذي قدمته للكونجرس تحت عنوان الصفقة الجديدة الخضراء (the green new deal)، بعد أقل من ستة أسابيع من دخولها للكونجرس قدمت كورتيز تلك الصفقة للنقاش.

بالأساس تهدف الخطة التي قدمتها كورتيز للكونجرس في 14 صفحة إلى الوصول إلى معدل صفر لانبعاثات الكربون من الولايات المتحدة في غضون عشر سنوات بعد موافقة الكونجرس، من خلال حزمة من التشريعات التي يقرها الكونجرس والتي تهدف لتقليل الاعتماد على الوقود الحفري وزيادة الاستثمار في الطاقة النظيفة، والاستثمارات الحكومية في البنية التحتية.

على سيبل المثال تسعى الخطة لضخ استثمارات في النقل السريع بالقطارات التي تعمل بالطاقة النظيفة كبديل عن اعتماد الأمريكيين الكبير على النقل الجوي. وترتكز الفلسفة الأساسية على هذا التحول المنشود على ما يسمى بالوظائف الخضراء (green jobs)، والتي تجعل كلفة هذا التحول نحو الطاقة المتجددة مرتبطًا بخلق الوظائف في تلك القطاعات، خاصة أنها لا تعتمد على عمالة مدربة، لكنها عمالة متوسطة التدريب ليس كما في قطاعات التكنولوجيا، وبالتالي تنشئ التحول وتوفر الوظائف، والتي تعني الدعم الشعبي والانتخابي للخطة حال تمريرها من الكونجرس والرئيس الأمريكي.

تعتمد الوظائف على ضخ استثمارات حكومية كبيرة في قطاعات البنية التحتية والطاقة وزيادة التوظيف في قطاع الخدمات الحكومية، من خلال خطة إصلاح قطاع التعليم والصحة لجعل قاعدة المستفيدين منهما أكبر وقاعدة المشتغلين بهما أكبر. يسهم هذا في إجراء تحول كينزي للاقتصاد عن طريق زيادة تدخل الحكومة الفيدرالية وحكومات الولايات سواء عن طريق التشريع أو إعادة الرقابة على السوق من خلال فرض ضرائب جديدة لتشجيع التحول نحو نمط اقتصاد أكثر اختلاطًا، وبالتالي في اتجاه مضاد للنيوليبرالية.

ليس مؤكدًا إن كانت كورتيز ستستطيع تمرير هذا الاتفاق بصيغته الحالية، مع أن أغلبية الكونجرس الآن لحزبها – الحزب الديمقراطي- لكن ثمة خلافات كبيرة بين أعضاء الحزب حول المقترح الذي قدمته كورتيز. يرفض بارونات الحزب الديمقراطي الأقوياء أمثال نانسي بيولسي وغيرها هذا الاتفاق الجديد، ويجدونه «غير واقعي» بحسب تعبير بيلوسي نفسها. أما الجمهوريون فيحاولون الحشد المضاد ضد الاتفاق، متهمين كورتيز ومجموعتها أنها اختطفت الحزب الديمقراطي وجعلته حزبًا شيوعيًا.

تروج فوكس نيوز وغيرها عدم واقعية هذه الخطة وانعدام خبرة كورتيز بالسياسة، ويحاولون بشتى الطرق عدم مناقشة تفاصيل الخطة نفسها. يتحول السؤال في الإعلام الأمريكي بشكل عام «هل يمكن تنفيذه؟» بدلًا من «ما اللازم لتنفيذه؟» وينصرف التساؤل حول الاتفاق نفسه إلى التشكيك في كورتيز وانتماءات المحيطين بها.

ثمة اهتمام متزايد في السياسة الأمريكية بخطابات التغير المناخي والتحول للاقتصاد الأخضر خاصة بين الشباب، كما تتقاطع تلك الاهتمامات مع أخرى حول الحق في حمل السلاح وعقوبة الإعدام، والأزمة العرقية الحالية في أمريكا والتفاوت في توزيع الدخول وكل تلك الخطابات تدعمها كورتيز في خطتها وتقدم لها حلولًا.


لم تعد أشباح الشيوعية مخيفة!

تعبر كورتيز عن جيل جديد من الشباب داخل الحزب الديمقراطي، يستمد شرعيته بقدرته على الحشد والتشبيك مع مجموعات كبيرة من الشباب، وُلدوا – في أغلبهم- بعد التحول النيوليبرالي ومع عولمة ريجان وثاتشر في بدايات الثمانينيات.

هذا الجيل من الشباب وجد نفسه يعيش في أقوى اقتصاد في العالم لكن لا يتمتع برعاية صحية منخفضة التكاليف كأي دولة أوروبية أخرى، وحتى حينما يتخرج من أفضل الجامعات في العالم يجد نفسه مثقلًا بالديون الدراسية الكبيرة. تلك الحالة من التذمر أنتجت طيفًا جديدًا من الحركة السياسية والخطاب السياسي الأمريكي لم يعد تخيفه أشباح الاشتراكية ولم يعد يأبه بكل التحذيرات التي يطلقها المحافظون حول ما تفعله الاشتراكية بعقول الشباب الأمريكي.

ساهم في ظهور تلك الخطابات السياسية الجديدة على السياسة الأمريكية حالة اللا مساواة في توزيع الثروة والدخل في الولايات المتحدة. في عام 2015،كانت نسبة 1% (الأغنى) تحصل على عائد سنوي يبلغ نحو 25 ضعف الـ99% الباقين. يظهر ذلك الاختلال في توزيع الثروة في الولايات الحضرية الكبرى، مثل نيويورك، حتى بلغ متوسط الدخل السنوي لأسرة من نسبة الـ1% نحو 2.2 مليون دولار سنويًا، بينما لم يزد متوسط دخل الأسرة من الـ99% على 50 ألف دولار، مما يفسر الإقبال على خطابات انعدام عدالة توزيع الدخول في تلك المدن، حيث تستمر النزعة الاشتراكية في النمو، ويصبح المواطنون أكثر تقبلًا للخطابات التي تطرحها الصحافة والنشطاء الاجتماعيون حول سوء التوزيع.

تشكلت من تلك المجموعات من الشباب خطابات جديدة في السياسة الأمريكية، و حركات داخل وخارج الحزب الديمقراطي، منها على سبيل المثال لا الحصر ديمقراطيو العدالة «justice democrats» والذين اعتصموا داخل الكونجرس مطالبين بدعم كورتيز. أيضًا مجموعات مثل حركة شروق الشمس «the sunrise movement»، وحركات أكبر مثل الاشتراكيين الديمقراطيين الأمريكيين «DSA».

وكما أسلفنا القول، تحمل هذه المجموعات خطابًا سياسيًا راديكاليًا من ناحية الاقتصاد، كما أنها تنادي بتعديلات كبرى على الإطار المؤسسي والدستوري المنظم للسياسة الأمريكية منذ نشأتها، كتعديل آلية المجمع الانتخابي أو المطالبة بإلغائه، وأن يكون الحكم في اختيار الرئيس الأمريكي هو مجموع الأصوات الانتخابية.

لم تنشأ تلك المجموعات أو الحركات سواء داخل أو خارج الحزب الديمقراطي من لحظة منافسة ساندرز في 2016، لكنها كانت هي التي دفعت به للأمام. كثيرون من هؤلاء كانوا أعضاء في حملة ساندرز التي وصفت بأنها تقدم البديل القادم لأمريكا من جيل الشباب الذي يعادي المؤسسة الرسمية للحزب الديمقراطي، ويراه الكثير من المحللين الفرصة الوحيدة لإنقاذ أمريكا من خطر ترامب والصعود اليميني الحالي. كل هذا مرهون بتنبي الحزب نفسه لخطاب هؤلاء الشباب، وهو ما لا يبدو محسومًا في الفترة الحالية رغم مؤشرات على اكتساب الشباب الكثير من المساحات داخل الحزب فيما تلا 2016.

يبدو أن الحزب الديمقراطي والسياسة الأمريكية بشكل عام تعيش أزمة جيلية كبيرة، أنتجتها التغيرات الهيكلية العميقة في الاقتصاد، فالأتمتة السريعة للاقتصاد وهجرة المصانع بحثًا عن عمالة رخيصة خارج الولايات المتحدة جعلت القطاع الصناعي غير قادر على توليد الوظائف بالقدر الكافي كما في السبعينيات وما قبلها، كما أن صعود الصين كمصنع للعالم جعل التحول الخدمي للاقتصاد الأمريكي أمرًا حتميًا، وبالتالي اختفت الطبقة العاملة القديمة التي كانت تؤمن بالحلم الأمريكي وأن كل إنسان يمكن أن يصبح غنيًا في أرض الفرص والأحلام. كان هذا التحول الخدمي الحتمي والاعتماد على التكنولوجيا يعني عدم وجود وظائف كافية وأجور كافية إلا للعاملين المهرة في قطاعات التكنولوجيا في وادي السيليكون الذي رغم كبر حجم الاستثمارات فيه لا يشغل إلا القليل.

ليست كورتيز الوحيدة بالطبع في طرحها لتلك النزعة اليسارية، فثمة طيف سياسي أوسع يحيط ببيرني ساندرز ويحيط بالحزب الديمقراطي. يرى هؤلاء أن إنقاذ الحزب يعتمد عليهم وأن انتخابات 2020 القادمة سوف تثبت هذا، بينما يرى البارونات القدامى في الحزب أن هؤلاء لا يملكون من الخبرة ما يؤهلهم للقيام بدورهم البطولي المدعى.

لم ينجح هؤلاء حتى الآن في مسعاهم بشكل كلي، لكنهم على الأقل أعادوا تشكيل المجال والخطاب السياسي في بلد ذي تقليد عريق للمنافسة بين حزبين فقط وخطاب واحد معادٍ لكل ما هو اجتماعي.