إننا نتعامل مع الحركيين مثلما تتعامل فرنسا مع المتعاونين مع الاحتلال النازي أثناء الحرب العالمية الثانية.

كان هذا تصريح للرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة عام 2000، خلال زيارة له إلى باريس، حينما سئل عن موقف بلاه تجاه الحركيين، وهم عشرات الألوف من الجزائريين قاتلوا إلى جانب الاحتلال الفرنسي ضد ثورة بلادهم التي قادتها «جبهة التحرير الوطني». طُرحت قضية هؤلاء الأشخاص مرات عدة، إلا أنها برزت مؤخرًا بشكل أكبر، حينما كرم الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون مجموعة من هؤلاء في يوم وطني خصص لهم وهو الـ25 من سبتمبر/أيلول.


كيف بدأت قصة الحركيين؟

كانت الجزائر من نصيب فرنسا، وذلك ضمن تقسيمة تركة رجل أوروبا المريض، الإمبراطورية العثمانية. بدأت فرنسا بعميلة حصار بحري للجزائر عام 1827 لمدة ثلاث سنوات،لتنفذ القوات الفرنسية في عام 1830 هجومًا على السواحل الشرقية للجزائر، حتى وصلت إلى ميناء سيدي فرج، الذي يبعد عن العاصمة الجزائر 30 كم، ويتحقق الغزو الفرنسي للجزائر في حزيران/ يونيو 1830، وتسقط بعدها العاصمة خلال أيام، ويستسلم حاكم الجزائر الداي حسين، آخر ممثل عن الإمبراطورية العثمانية، ليبدأ عهد الاستعمار الفرنسي للجزائرين.مع استمرار حركات المقاومة من قبل الجزائريين أصدرت فرنسا عدة قوانين لتقويض هوية الجزائريين واتباع سياسة الفرنسة عبر طريق الحكم المباشر للجزائريين، لتصبح الجزائر رسميًا «محافظة فرنسية» عام 1848، ثم منح اليهود الجزائريين الجنسية الفرنسية وكذلك أي مواطن أوروبي، وصولًا إلى إصدار قانون الأهالي «الأنديجينا» المذل، الذي أتاح لفرنسا حق ترحيل الجزائريين المسلمين أو فرض عقوبات عليهم خارجة عن القانون الفرنسي، وذلك عام 1881، ثم ألغاه الجنرال شارل ديجول عام 1944.لم يوقف الجزائريون نضالهم، لينفذ الجيش الفرنسي مجزرة من أفظع المجازر بحقهم عام 1945، عرفت باسم «مجزرة مايو/ آيار»، حيث قتل الآلاف، ومن رحم المعاناة خرج حزب جبهة التحرير الوطني في أبريل/ نيسان 1954، معلنًا بداية حرب التحرير من الاستعمار التي استشهد فيها أكثر من مليون جزائري، حتى أعلن استقلال الجزائر رسميًا في 5 يوليو/تموز 1962.لم ينكل الاحتلال الفرنسي بمفرده بالجزائريين، إنما استعان في ذلك بفئة من الجزائريين أنفسهم عرفوا باسم «الحركيين»، وهو مصطلح استخدمه الجزائريون ويعني العميل أو الخائن، فهؤلاء الأشخاص جزائريي الأصل، حاربوا ضد ثورة التحرير عبر انضمامهم لصفوف الجيش الفرنسي في الفترة من 1954 إلى 1962، وهم يختلفون عن جماعة الأقدام السوداء، وهم أشخاص أوروبيين كانوا في الجزائر ودعموا الاحتلال الفرنسي بجانب فرنسيين ولدوا في الجزائر خلال فترة الاحتلال.كثرت التقارير حول عدد الحركيين، قالت تقديرات إن عددهم يبلغ حوالي 150 ألف حركي، منهم من قاتل بشكل مباشر ضد بني وطنه ومنهم من عمل في الشؤون الإدارية أو أعمال التجسس مع المحتل، ولأن هؤلاء الأشخاص اعتبروا خائنين في نظر الجزائريين كانوا محل استهداف من الثوار هم وعوائلهم وممتلكاتهم.نجحت ثورة الشعب الجزائري ضد المحتل بدعم عربي، كان من ضمن مطالب جبهة التحرير الوطني حسم ملف الحركيين وعدم دمجهم أو الاعتراف به، الأمر الذي سعت فرنسا لفرضه، وقوبل بالرفض في اتفاقية إيفيان بسويسرا عام 1962 التي قضت باستقلال الجزائر، بالفعل سلم الحركيون سلاحهم لجبهة التحرير، حملت فرنسا حوالي 60 ألفًا منهم إلى ديارها، فيما تعرض عشرات الآلاف منهم إلى القتل على يد الثوار.لم يكن الخائنون الذين حملهم المستعمر على ذيول هزيمته أفضل حالًا ممن قتلوا، فقد وضعهم سيدهم الفرنسي في مراكز إيواء تشبه معسكرات الاعتقال لعقود، حتى بلغ عددهم هم وأسرهم حوالي نصف مليون فرد، تنصلت فرنسا مرارًا لخدمات وكلائهم، رغم المطالبات بإنصافهم ومنحهم حقوقًا آدمية على الأقل وليس الجنسية، فقد عانوا من الفقر والجهل والتهميش.وبدأ الحركيون يحصلون شيئًا فشيئًا على نوع من الآدمية والاعتراف بدورهم في دعم الاحتلال الفرنسي، فبعد تولي جيسكار ديستان الرئاسة عام 1974، أغلق مراكز الاحتجاز، ونقلهم إلى شقق لكن في مناطق شعبية، ولم تتحقق مطالبهم كاملة إلا أن الرئيس الفرنسي الأسبق جاك شيراك قرر في 2003 تخصيص يوم وطني لتكريم الحركيين، لكن ذلك لم يرَ النور في عهده.وحينما جاء نيكولا ساركوزي للحكم أكد عام 2012 أنه لا يوجد أي سبب يبرر تخلي فرنسا عن الحركيين، وصولًا إلى الرئيس السابق فرانسوا هولاند الذي أقر عام 2016 ولأول مرة بالمسؤولية عن المجازر التي تعرض لها الحركيون بعد انسحاب فرنسا من الجزائر، كما اعترف بـ«الظروف غير الإنسانية» التي عاش فيها من رحلوا إلى فرنسا، وقرر جعل يوم 25 سبتمبر/ أيلول من كل عام يومًا رسميًا للاحتفال بتضحيات الحركيين.

جاء الرئيس الحالي إيمانويل ماكرون، ليعترف بمسؤولية بلاده مجددًا تجاه الحركيين، وذلك ضمن تنفيذ أجندته الانتخابية والترويج السياسي لذاته، ففي 23 سبتمبر/ أيلول الماضي كرم 26 من الحركيين، ومنح 6 منهم رتبة فارس في جوقة الشرف للدولة الفرنسية، مع تخصيص 40 مليون يورو على مدة 4 سنوات لمساعدة الحركيين من الجيل الثاني للتغلب على صعوبات اجتماعية في الاندماج داخل المجتمع الفرنسي، فما زالوا يبحثون عن مكافآتهم لدى فرنسا نظير تعاونهم على قتل إخوانهم وتدمير بلدهم. لكن الحركيين رأوا أن خطوة ماكرون وإن كانت جيدة إلا أنها لم تلبِ تطلعاتهم، فهم يطالبون بـ«قانون اعتراف» بقضيتهم من قبل البرلمان الذي يتيح لهم تعويضات تقدر بـ4 إلى 35 مليار يورو مع حق العودة للجزائر، الأمر الذي ترفضه الدولة الفرنسية لأن ذلك سيؤثر على علاقتها السياسية بالجزائر.


لماذا تعيد فرنسا طرح قضية الحركيين؟

أعاد ماكرون طرح قضية الحركيين، وذلك بتكريم عدد كبير منهم، ضمن سياسته التي يقول إنها تركز على مواجهة الماضي الاستعماري لفرنسا، غير أنه يريد تحقيق مكاسب انتخابية، وتوجيه رسالة لهؤلاء المتعاونين وممن بقي منهم متخفين في الجزائر أن باريس لن تتخلى عنهم، لكن الدعم الرمزي المقدم من قبله وهو 40 مليون يورو على 4 سنوات لن يحقق شيئًا لأكثر من نصف مليون حركي بفرنسا، فهذا يعني دعم الفرد منهم بـ20 يورو سنويًا فقط!أراد ماكرون مغازلة الجزائر بالاعتراف بماضي بلاده الاستعماري مقابل القبول بشروطه فيما يتعلق بأزمة الحركيين، فقد اعترف ماكرون قبل عملية التكريم للحركيين بوضع الجيش الفرنسي نظامًا يسمح بالتعذيب لقمع ثورة التحرير، مُقرًا بمسؤولية بلاده بمقتل الناشط الشيوعي الفرنسي، موريس أودان عام 1957 لدعمه الثورة الجزائرية.أثار هذا الأمر غضب الحركيين أيضًا، فهذا يعني مشاركتهم في عمليات التعذيب والقتل لأبناء شعبهم، الذين كان يتم التعامل معهم على أنهم أعضاء منظمة إرهابية «جبهة التحرير»، فلم تعترف فرنسا بقتلها لمليون جزائري على أنها «حرب» إلا عام 2000، فقد كانت تسميها «أحداث الجزائر»، ووصفت قمع الثورة منذ عام 1954 إلى 1962 بأنها «عمليات حفظ النظام»، وجاء ماكرون خلال حملته الانتخابية ليزيد الأمور تعقيدًا واصفًا الاحتلال الفرنسي للجزائر بأنه «جريمة ضد الإنسانية»، إلا أنه حتى الآن لم يتبنَ رسميًا أي قرارات في هذا الشأن.رأى الجزائريون أن تصريحات ماكرون لصالحهم ما هي إلا خدعة من أجل عودة الحركيين للجزائر وكذلك فئة الأقدام السواداء، الذين ما زالوا يسببون أزمة لفرنسا التي ما زالت تعاملهم على أنهم مواطنون من الدرجة الثانية، فالجزائريون يريدون اعترافًا كاملًا من فرنسا بجرائهما ضدهم لمدة 130 عامًا، الأمر الذي ترفضه باريس على مر إداراتها المختلفة.

ومن الصعب أن يقر ماكرون ومعه البرلمان الفرنسي قانونًا يعترف بجرائم الاستعمار الفرنسي في الجزائر، كأداة مساومة مع الجزائر مقابل عودة الحركيين والأقدام السوداء، فهذا سيسبب وصمة عار كبيرة لفرنسا مع ضرورة تقديمها تعويضات كبيرة للجزائريين كما فعل الألمان مع اليهود.


الجزائريون والتجاوز عن خطيئة الآباء

في محاولة لفتح الملف مستقبلًا أكدت وزيرة الدولة للجيوش الفرنسية جنفياف داريوسيك، في سبتمبر/ أيلول الماضي أنها ستزور الجزائر مطلع عام 2019، للتباحث مع المسؤولين حول ملف الحركىين وكذلك المفقودين من القوات الفرنسية في الجزائر خلال الحرب، إلا أنها أقرت بصعوبة حسم ملف الحركيين، فالأمر لن يكون سهلًا مقارنة بملف المفقودين الذي يمكن مقايضته بمصير أمثالهم من الجزائريين.رغم محاولات باريس لحل ملف الحركيين مع حكومة الجزائر، فإن الجزائريين لن يقبلوا بعودة الحركيين إلى بلدهم، فهم في نظرهم خونة قتلوا إخوانهم وآباءهم وأجدادهم، فحتى إن قبلت الحكومة الجزائرية سواء الحالية أو من سيخلفها، فلن يتسامح الوعي الشعبي معهم، فكما يعانون التمييز في صفوف من وقفوا إلى جانبهم، سيلاقون أشد منه وسط من قتلوهم وشردوهم وحرقوا ديارهم وبلادهم.كذلك القيادات السياسية الجزائرية الحالية معظمها ينتمي لجيل ثورة التحرير وقياداتها ومنهم الرئيس عبدالعزيز بوتفليقة، هذه القيادة تستمد شرعيتها السياسية من الثورة، وبالتالي فلن تقدر على القبول بعودة الحركيين إلى الجزائر، فسبق أن وصفهم بوتفليقة منذ سنوات بأنهم مثل النازيين الذين سجنهم وقتلهم الأوربيون وجرموا أي رموز لهم، إلا أنه أبقى الباب مفتوحًا حينما قبل بعودة أبناء الحركيين فقط، فهم ليسوا مسؤولين عن خيانة آبائهم، شريطة صدق نواياهم والوفاء لبلدهم الجزائر، الأمر الذي قد يسهل صفقات سياسية مستقبلًا مع فرنسا، الأمر الذي ستحسمه التطورات التي تعيد ترتيب النظام العالمي من جديد وليس المنطقة العربية فقط.