ثمة مَثَل شعبي يمني يقول إنّ «آخرة الـمُحِنش للحنش»، والـمُحنِش هو الحاوي الذي يقوم بتربية الثعابين وترويضها، ويمتلك باعًا ومهارة في هذا المجال، والمثل بالمجمل يُضرب فيمن يُزاول ما تُخشى مضرته فتكون نهايته منه، ومثله قول المتنبي:

ومن يجعل الضرغام بازًا لصيده :: تصيّده الضرغام فيمن تصيدا!

على هذا النحو كانت مسيرة الرئيس المخلوع علي عبد الله صالح في السلطة والتي عرفت سلسلسة من التحالفات ثم النكوص عنها ونفضها، وقد كان صالح محقًا للغاية حين ذكر أن حكمه لليمن يشبه «الرقص على رؤوس الأفاعي»، قبل أن ينتهي الـمُحنِش/الحاوي صالح بين فكي أحد ثعابينه وأخطرها الحوثي!

وُلد علي عبد الله صالح عفاش في الحادي وعشرين من مارس/آذار عام 1942 في قرية بيت الأحمر لعائلة فقيرة من قبيلة سنحان، وفي سن الثامنة عشر التحق صالح بمدرسة صف ضباط القوات المسلحة عام 1960، وبعدها بثلاث سنوات انضم لثورة السادس والعشرين من سبتمبر/ أيلول 1963 ضد النظام الملكي الإمامي.


رحلة الصعود إلى رئاسة الجمهورية

على الرغم من أن صالح لم يلعب – كغيره من الرؤساء العرب الذين حكموا في مرحلة الستينات والسبعينات من القرن الماضي – دورًا نضاليًا يذكر في مرحلة الثورة الجمهورية اليمنية التي امتدت بين أعوام 1963-1970، إلا أن الرجل بات السياسي الأهم في التاريخ اليمني الحديث، والأكثر تأثيرًا في صناعة حاضره بخيره وشره.

بدأ صعود علي عبد الله صالح إلى السلطة عام 1975 حين قربه إليه الرئيس الأسبق إبراهيم الحمدي، والذي كان قد انتهج في حركته التصحيحية سياسة يسعى من خلالها لبناء نخبة سياسية جديدة يواجه بها البنى التقليدية في اليمن، وقد عيّنه الحمدي القائد العسكري للواء تعز، وقائدًا لمعسكر خالد بن الوليد، ما أكسبه نفوذًا كبيرًا وربطه بعلاقات وثيقة مع رجال الدولة الأقوياء، إضافةً إلى تمثيله لليمن في عدد من المحافل الدولية.

وفي الحادي عشر من أكتوبر/تشرين الأول عام 1977، اغتيل الحمدي في ظروف غامضة في منزله، ثم خلفه في الرئاسة أحمد الغشمي الذي لم يكمل عامه الأول في منصبه الجديد إلا وقد تم اغتياله كذلك، ليتم تشكيل مجلس رئاسي يرأسه عبد الكريم العرشي الذي لم يدم في منصبه لأكثر من شهر واحد، حيث آثر السلامة وتنازل عن الحكم مفسحًا المجال لصعود علي عبد الله صالح إلى سدة الحكم في يوليو/تموز 1978!

بعد ثلاثة أشهر من وصوله إلى السلطةـ، تعرض صالح لمحاولة انقلاب قادها الجناح الناصري في الجيش اليمني بقيادة محسن أحمد فلاح، وقد ساهم تدخل رجال القبائل في إفشال المحاولة الانقلابية، الأمر الذي أدى إلى اعتماد صالح على رجال قبيلته في بناء الجيش وتقليدهم المناصب الحساسة، فتسلم العديد من ذويه وأبناء منطقته مناصب عسكرية وأمنية هامة.


حصاد صالح في السلطة على مدى 33 عامًا

ما إن استتب لصالح الحكم في مطلع الثمانينات، حتى أخذ بتمتين سلطته من بوابة التحالف مع القبائل اليمنية القوية في الشمال كحاشد وبكيل ونحوها، فأعاد إحياء «مصلحة شؤون القبائل» التي كان الرئيس الراحل إبراهيم الحمدي قد قام بإلغائها، والتي اضطلعت بدور التأسيس لعلاقة زبائنية بين الدولة وشيوخ القبائل عبر تنظيم توزيع الأموال على المشايخ في اليمن.

في العقد الأول من حكمه، اندلعت مواجهات مسلحة بين اليمن الشمالي واليمن الجنوبي على إثر دعم الحزب الاشتراكي الجنوبي لفصائل يسارية في وسط اليمن وتحديدًا في مناطق تعز وإب والبيضاء وذمار، وقد مُني الجيش اليمني الشمالي بهزيمة فادحة أمام الفصائل اليسارية، قبل تدخل القبائل اليمنية بالإضافة إلى الإخوان المسلمين داخليًا، وتلقي صالح للدعم السعودي لمواجهة المدّ اليساري، ما أدى لترجيح كفة الجيش الشمالي وقلب الطاولة على القوى المتمردة في المناطق الوسطى.

استهلّ صالح عقده الثاني بإنجاز الوحدة اليمنية بين شطري اليمن الشمالي والجنوبي 1990، وهو الإنجاز الأهم في مسيرته خلال 33 عامًا والذي سيرتبط باسمه طويلاً على الرغم من أنه لم يكن صانع هذا الإنجاز وحده، حيث شاركه فيه الرئيس الجنوبي علي سالم البيض، قبل أن ينقلب صالح على شريكه ويقوم بتهميش دوره مستفردًا بالسلطة والحكم على اليمن الموحد.

أدت سياسات صالح في اللعب على تناقضات خصومه، ومراقصته للثعابين، وإبرامه للعهود ثم نقضها وفضها حال تمكنه من ذلك، إلى تفكيك البنية الاجتماعية اليمنية، وزرع البذور لصراعات أهلية بعيدة المدى، وقد جاءت أولى نتائج سياساته تلك مع إعلان الجنوب انفصاله عام 1994، ما أدى لإدخال البلاد في حرب أهلية طاحنة انتهت بانتصار صالح واستعادة الوحدة بالقوة، إلا أنها أرست في نفس الوقت مظلومية جنوبية ستدفع على المدى البعيد باتجاه المطالبة بالانفصال كما حدث مع تشكل الحراك الجنوبي المنادي بالانفصال عام 2007.

ما إن انتهى صالح من حربه في الجنوب، حتى كاد أن يدخل في حرب حدودية مع «الشقيقة الكبرى» المملكة العربية السعودية، التي وقفت بجانب الجنوبيين في مسعاهم الانفصالي، وذلك ردًا على موقف صالح الداعم لغزو الكويت عام 1990، وقد تم احتواء المناوشات الحدودية التي اندلعت عام 1995 بترسيم الحدود بين الطرفين في جدة سنة 2000.

مع مطلع عقده الثالث في السلطة، بات صالح شريكًا دوليًا في الحرب على الإرهاب، خاصة بعد تفجير المدمرة الأمريكية كول في سواحل عدن عام 2000، وهو ما أتاح له إعادة بناء الجيش على أسس جديدة تتبنى عقيدة الحرب بعيدًا عن الجيش القبلي الذي نظرت له أمريكا بعين الريبة خاصة بسبب علاقاته بالقبائل من جهة، والإخوان المسلمين من جهة أخرى، وقد اختار صالح أقاربه لتولي المناصب العسكرية والأمنية في الأجهزة الجديدة.

من هنا أخذ صالح في بناء إمبراطوريته العائلية، حيث سرعان ما تمكن من خلال الدعم الدولي له من تشكيل قوى عسكرية وأمنية جديدة، جاء على رأسها الحرس الجمهوري الذي قام بإعادة هيكلته وتنصيب ابنه أحمد رئيسًا له في عام 2000، بينما أنشأ في عام 2002 جهاز الأمن القومي بزعامة ابن شقيقه عمار محمد صالح، وقد نال ابن شقيقه الآخر يحيى محمد صالح رئاسة أركان الأمن المركزي.

منذ ذلك الحين، سيكون الشغل الشاغل لصالح توريث السلطة لابنه أحمد عملاً بالسنة السيئة التي سنّها حافظ الأسد في سوريا بتوريثه السلطة لابنه بشار عام 2000، وفي سبيل ذلك سعى صالح للتخلص من حلفائه الأقوياء الذين يمثلون عائقًا أمام مشروع التوريث هذا، تارة من خلال تدبير محاولة اغتيال للزعيم القبلي البارز الشيخ عبد الله بن حسين الأحمر أثناء زيارته للسنغال عام 2004، وتارة أخرى عبر إعطاء الطيران السعودي إحداثيات لمقر قيادة اللواء علي محسن الأحمر قائد الفرقة الأولى مدرع، على أنها مقر لقوات الحوثي ليقوم بتصفيته لولا تردد الطيار السعودي الذي طالب قيادته بالتحقق من الإحداثيات، وذلك في أتون الحرب السادسة التي شاركت فيها السعودية بجانب القوات اليمنية ضد الحوثيين عام 2009.

استثمر صالح في جميع الأوراق التي من شأنها تدعيم سلطته في مواجهة منافسيه، فاستغل ورقة القاعدة التي منحته شرعية ودعمًا دولييْن، حيث أشارت تقارير المخابرات الأمريكية أن صالح نفسه كان قد سهل هروب ثلاث وعشرين قائدًا من قادة القاعدة من سجن الأمن السياسي عام 2006، وذلك حين حفروا نفقًا يمتد طوله 44 مترًا يصلهم بحمامات مسجد مجاور للسجن، وانطلقوا منه نحو إعادة تأسيس التنظيم في اليمن مرة أخرى!

ليس بإمكاننا الجزم ما إذا كان صالح قد خاض حروبه الست ضد الحوثيين بين أعوم (2004 – 2009) بغية التخلص من القائد العسكري المرموق علي محسن الأحمر وفرقته الأولى مدرع وحسب، أم أنها اندلعت لأسباب وجيهة بالفعل، إلا أنه من المؤكد أن صالح استغلها لإضعاف الرجل عبر استنزاف قواته في مواجهات مستمرة مع الحوثيين في أعالي الجبال في صعدة، حتى أنه خطط لتصفيته كما جرى في حادثة إعطائه إحداثيات مغلوطة للمملكة العربية السعودية والتي ذكرناها آنفًا.

ربما سيتذكر اليمنيون أن عهد صالح لم يكن عهد قمع وبطش وفتك بالمعارضين كما كان الحال مع الجمهوريات العربية الأخرى، إلا أنه العهد الذي تم تقويض بناء الدولة اليمنية فيه، وزرع بذور الانقسامات الاجتماعية والمذهبية بين فئات الشعب اليمني، كان صالح يحسب أنه بانتهاجه لسياسة «فرق تسد» واللعب على المتناقضات سيتمكن من الاستمرار بالحكم وتوريثه لابنه بعد ذلك، لكن الخيوط ستتفلت من بين يدي الحاوي، وسيجتمع الأضداد لإطاحته من عرشه في ثورة فبراير 2011.


حصاد صالح خارج السلطة بعد 2011: على نفسها جنت براقش

لم تكن الحصانة القضائية ولا مشاركة حزبه بنصف الحكومة كافية لإرضاء المخلوع علي عبد الله صالح بعد تنحيه عن السلطة بموجب المبادرة الخليجية، فالرجل الذي عاش أكثر من نصف حياته على كرسي الرئاسة ما عاد بإمكانه البقاء خارج السلطة ولو أطلق عليه أنصاره لقب «الزعيم».

سيأخذ علي صالح على عاتقة مهمة العودة إلى السلطة عبر إعادة ترتيب أوراقه وحلفائه، وستلتقي هنا رغبة صالح بالانتقام والعودة إلى السلطة مع طموح الحوثي بالتمدد والتوسع، إضافة إلى وجود الظرف الإقليمي المواتي الذي كان – وما زال – مسكونًا بمحاربة الإخوان المسلمين والقضاء على ثورات الربيع العربي، وستلتقي هذه الرغبات لمواجهة عدو مشترك في تلك المرحلة مع اختلاف الرهانات والطموحات.

سيبدأ الحوثي بالتمدد خارج صعدة منذ أكتوبر/تشرين الأول 2013، وسيتكفل له صالح بإفساح الطريق إلى صنعاء ليقضي على خصومه الذين أزاحوه عن عرشه، حيث سيلتحق عدد من المشايخ البارزين من رجال علي عبد الله صالح أمثال الشيخ مبخوت المشرقي، والشيخ علي حميد جليدان أحد أكبر شيوخ حاشد، في ركب المسيرة الحوثية، متخلين عن أبناء جلدتهم وقبيلتهم الذين شاركوا في الثورة ضد صالح!

وحين كان الحوثي على أبواب صنعاء في سبتمبر/أيلول 2014، أصدرت القوات المسلحة اليمنية وعلى رأسها الحرس الجمهوري بيانًا تقول فيه إنها ستقف على الحياد، وبقيت الوحدات العسكرية التابعة لعلي محسن الأحمر تقاتل الحوثيين وحيدة في صنعاء، إلى أن انتهى الأمر بسقوطها وخروج اللواء محسن إلى السعودية.

كان صالح سعيدًا بانتصاراته على خصومه، لكن العودة إلى كرسي الرئاسة كان يتطلب إزاحة الرئيس عبد ربه هادي منه أولاً، وهو ما حدث حين قامت جحافل الحوثي بمهاجمة الرئيس عبد ربه هادي في مطلع 2015 ووضعه تحت الإقامة، كان صالح يراهن في تلك اللحظة على أنه سيكون فرس الرهان للقوى الإقليمية التي ستعينه على إزاحة الحوثيين وتقليده رئيسًا لليمن من جديد!

إلا أن رهانه سقط حين شنت المملكة عاصفة الحزم في مارس/آذار 2015 ضده والحوثيين معًا، وحين أراد إبرام تحالف جديد مع السعودية وفك تحالفه مع الحوثي، كانت الأخيرة قد التفت عليه تمامًا وأحاطت من كل الاتجاهات. ظن صالح أنه لا يزال يمتلك خيوط اللعبة وباستطاعته الرقص على رأس الحوثي، لكن أساليبه في الحكم التي استمرت لأكثر من 33 عامًا قد باتت مكشوفة ومفضوحة، وقع الحاوي أخيرًا بين فكي أحد ثعابينه الأكثر شراسة ودموية، منطبقًا عليه المثل اليمني الشعبي «آخرة المحنّش للحنش».