من أجل التمهيد للحملة الفرنسية يعود مؤرخي تاريخ مصر الحديث إلى ما قبل 1798، وتحديداً بالتركيز على أواخر العهد العثماني، ويقفون طويلاً أمام تجربة علي بك الكبير، إذ يعدونها محاولة «للاستقلال» عن الدولة العثمانية [1]، واستعادة مكانة مصر الإقليمية من مجرد «ولاية» تتبع إسطنبول، إلى إعادة إحياء إمبراطورية المماليك وبناء دولة مصرية تبسط سلطانها على الحجاز والشام، ليبدأ بها تاريخ مصر الحديث. [2]

يبدو أن مفهوم الاستقلال لدى مؤرخي القومية المصرية وكارهي الدولة العثمانية يختلف عن دلالته لدينا، إذ هل الاستقلال يكون بالتخلص من تبعية واهية لكي تحل محلها تبعية لروسيا، وفتح موانئ مصر والشام أمام السفن الروسية ووضع إمكانيات مصر الحربية أمام الروس، وهم منْ توسّعوا في الأساس على حساب المسلمين وأراضيهم؟!

تفصيل ما سبق أنه مع سريان الضعف في أوصال دولة بني عثمان بدأ تسلّط بكوات المماليك. يُحدِّد المؤرخ عبد الرحمن الرافعي بداية تسلط المماليك بالنصف الثاني من القرن السابع عشر، نتيجة تدهور السلطنة العثمانية لضعف شئونها الداخلية وكثرة حروبها مع الروس، وفساد نظام حكمها بكثرة تغيير الولاة.

بلغ من نفوذ المماليك أنهم كانوا يعزلون الولاة، ويكفي لعزل الوالي أن يرسلوا إليه رسولاً، يرتدي ملابس هزلية، فوق رأسه ما يشبه القبعة، لها حواف تشبه الطبق، فأطلق عليه العامة «أبو طبق». يدخل هذا الرسول بهيئته الهزلية على الباشا العثماني في القلعة، فيحييه بكل احترام، ثم يثني طرف السجادة التي يجلس عليها، ويعلن قرار العزل بقوله: «انزل يا باشا»، فينزل الباشا من القلعة، ويرحل عن مصر. [3]

وعلى هذا، شهد القرن الثامن عشر صراعاً سياسياً محلياً/محلياً، بين العثمانيين والمماليك، وبين المماليك أنفسهم، فالدولة تريد استعادة نفوذها، والمماليك يحاولون الانتقاص من سلطانها، وفي الوقت ذاته يدور بين البكوات صراع داخلي لتحديد الأقوى نفوذاً والأعز نفراً.

كانت أكبر محاولة تمرد على السلطة العثمانية في عهد عليّ بك الكبير في مصر، وظاهر العمر في الشام.

لم يكن زوال تجربة علي بك الكبير بسبب خيانة مملوكه محمد بك أبو الذهب، وإنما لـ«خيانة علي بك نفسه للأمة الإسلامية»، فالجماهير لم تساند التمرد وتدافع عنه، إذ إن علي بك تخيّر وقتاً من أحرج الأوقات في التاريخ العثماني لتنفيذ تمرده، عندما كانت جحافل الروس تُهدِّد الدولة العثمانية في البر والبحر، وأشعلت ضدها ثورة في البلقان، وحاربتها في الدانوب، وفي القرم، وفي جورجيا، وفي بلاد المورة، وانتشرت الأساطيل الروسية في البحرين الأسود والأبيض، فهاجمت بلاد الأناضول وسوريا وهددت مصر، وضيّقت الخناق على البحرية العثمانية، وقضت على معظم وحداته [4]، ثم زاد علي بك الطين بله، إذ حال بين العثمانيين وتجريد فرق مصرية لصد غائلة الروس. [5]

استغل علي بك الكبير انشغال الدولة العثمانية في كفاحها لصد الغارة الروسية، وإخماد الثورات التي أشعلتها، وبدأ خطته للتخلص من السلطة العثمانية الضعيفة بالقاهرة.

عزل الباشا العثماني في 17 رجب 1182هـ/ أكتوبر 1768م، ولم يسمح للباشوات العثمانيين بدخول مصر لمدة أربع سنين، وأوقف إرسال الخزينة إلى إسطنبول، وإن كان لم يعلن الانفصال رسمياً عن الدولة.

وأوغل عليّ بك الكبير في الأمر، فلم يكتف ببدء تمرده في وقت حرج، وإنما طلب المساندة من العدو اللدود للأمة: الروس.

خلال حملته على الشام، وللحصول على مساعدة بحرية فعالة، ومدافع للحصار، اقترح عليه التاجر البندقي «كارلو روستي» أن يتصل بجمهورية البندقية، فأرسل إليها يطلب محالفتها، مقابل أن يساعدها على امتلاك الجزر العثمانية في البحر المتوسط. رغم سخاء العرض اعتذرت البندقية. [6]

لم يكن من المنتظر أن تساند الُأْمَّةِ منْ يتعاون مع الروس ويفتح لهم أبواب مصر والشام على مصراعيها، فالروس هم الأعداء اللدودين للإسلام والمسلمين، وقد تمددت موسكو من إمارة صغيرة إلى دولة كبرى على حساب المسلمين وأراضي المسلمين، وقد وقع على عاتق العثمانيين مهمة مقدسة، بالتصدي للغزو الروسي لديار الإسلام.

أرسل علي بك قوات دخلت الحجاز، ونادى به شريف مكة «سلطان مصر وخاقان البحرين»، ثم أرسل تلميذه محمد بك أبو الذهب ليضم سوريا. لكن حينما دخل أبو الذهب دمشق انقلب على سيده، ليعود إلى مصر، وتنتهي الحرب بهزيمة علي بك سنة 1773. [8]

يختلف المؤرخون في تفسير سر انقلاب أبو الذهب. بعضهم يقول إن إسماعيل بك حاكم دمشق حرّض أبو الذهب على عدم طاعة أستاذه، ذاكراً له عدة مبررات:

  1. حذره من غضب الدولة العثمانية إذا فرغت من حربها مع روسيا.
  2. أظهر له حرمة قتال سلطان مسلم وحرمة تدنيس الأرض المقدسة، وأن علي بك تحالف مع روسيا، والروس أعداء الدولة العلية. [9]
  3. وعد حاكم دمشق لأبو الذهب بأن يعفو عنه السلطان وأن يمنحه مركز صهره علي بك.

ومن المؤرخين منْ ينسبون انسحاب أبو الذهب المفاجئ من الشام إلى شخصه، وأنه من زمن طويل كان يُدبِّر وسيلة للقضاء على أستاذه، وأنه في كل حملاته السابقة إنما كان يُمهِّد لنفسه طريق الحكم والسلطان، حتى إذا نضجت الثمرة قطفها لنفسه.

يقولون إن محمد بك أبو الذهب قد خان أستاذه، لكن الأشد، خيانة علي بك للأمة بالتحالف مع الروس، ثم أوغل في الخيانة بعد انقلاب تلميذه عليه.

لاستعادة ملكه، طلب علي بك من قائد الأسطول الروسي بالبحر المتوسط مدفعية وذخيرة ومقاتلين حتى يتمكن من العودة إلى مصر [10]، عارضاً في المقابل أن يجعل تحت تصرفه كل قوة مصر الحربية، وأن يعقد معاهدة تجارية تسمح لروسيا أن يكون لها الدور الأول في تجارة الشرق عن طريق البحر الأحمر وموانيه. [11]

إلى أن يأتي المدد الروسي، أرسل قائد الأسطول الروسي في البحر المتوسط نجدة مُصغرة تتألف من ضابطين، و6 مدافع للميدان، و7 بنادق جيدة المعدن، و500 طلقة، و3 جرارات للمدافع حديثة الصنع. [12]

المعونة الحربية الروسية استخدمها علي بك في حصاره لمدينة يافا، يعاونه الأسطول الروسي بقصف المدينة من جهة البحر. وبعد حصار ثمانية أشهر، دخل علي بك يافا. ولم يطق علي بك صبراً في انتظار المعونة الروسية، فتقدم بقواته قاصداً مصر في أوائل مارس/آذار 1773.

يقول قنصل فرنسا في صيدا في تقرير بتاريخ 4 يوليو/تموز 1773، إن حملة روسية بحرية برية وصلت لنجدة علي بك، مكونة من 11 سفينة وتوابعها، منها سفينة مسلحة بستة عشر مدفعاً، وثلاثة منها مسلحة بأربعة وعشرين مدفعاً، وعلى ظهرها حملة برية من 1200 من المقاتلين الروس، وكثير من ضباط المدفعية، والمدافع والقنابل [13]. لكن الحملة الروسية وصلت متأخرة بشهر واحد فقط، إذ هُزم علي بك في معركة الصالحية، وقد هزمه تعاونه مع الروس.

وصل جيش علي بك إلى الصالحية في 9 أبريل/نيسان، فالتقى مع طلائع جيش أبو الذهب، ورغم تفوق جيش أبو الذهب في العدد، فإن المعركة لم تستمر سوى أربع ساعات، لينسحب الجيش سريعاً إلى القاهرة بعد أن مُني بهزيمة كبيرة وخسارة في الأرواح.

هنا لجأ أبو الذهب إلى سلاح العقيدة، وسواء أكان صادقاً أم مخادعاً، فقد جمع قادة وأعيان القاهرة، وقال لهم إن علي بك هو «حليف الروس الملحدين»، وأنه يميل إلى المسيحية أكثر من الإسلام، وأن النصارى الروس سوف يحتلون البلاد، ويستحيون النساء والبنات، وسيجبرونكم على تغيير دينكم، مثلما فعل البريطانيون مع مسلمي الهند.

باستثارة مخاوف الوقوع تحت الاحتلال الروسي، كسب أبو الذهب تأييد القادة والأهالي. وطاف المنادون في شوارع القاهرة يعلنون أن كل من أحب دينه وبلده فليتقدم إلى حمل السلاح. [14]

بهذا السلاح انتصرت قوات أبو الذهب في الجولة الثانية من القتال، وأسرت علي بك جريحاً، وحمله المماليك في محفة إلى داره بالأزبكية، وكرّسوا أحد الأطباء لخدمته حتى كاد يبرأ، لكنه انتكس، وقيل مات بالسم، في أوائل مايو/أيار 1773، ودُفن بالقرافة الصغرى. [15]

هل تمرد علي بك يعد استقلالاً؟ وهل الاستقلال يعني التحرر من وال عثماني لا يملك من أمره شيئاً، والارتماء على أقدام الدب الروسي المفترس؟ وهل الاستقلال يعني فتح الموانئ أمام التجارة الروسية، ووضع كل القوي الحربية لمصر تحت سيطرة الروس؟

وماذا يفيد الأهالي إذا تمدّد حكم علي بك إلى الحجاز والشام إذا كانوا يعانون من وطأة الضرائب، ويموت الفلاحون جوعاً؟! فحملة الشام كلّفت الخزينة 26 مليوناً من الفرنكات، أي حوالي 520 ألف كيس من العملات الذهبية، وحملة الشام تكلفت أكثر من هذا الرقم. [16]

لم يكن ضم الحجاز والشام إلى مصر بالذي يعني شيئاً لدى الأهالي، فدار الإسلام بقيت مفتوحة أمام أبنائها لا تعرف حدوداً ولا قيوداً على حركة الحركة والانتقال والتجارة.

ولم يكن علي بك يريد مصلحة البلاد حينما فتح طريق البحر الأحمر أمام التجار الإنجليز، للتجارة مباشرة بين الهند والسويس كما يزعم بعض الباحثين، فالطريق التجاري لم يمت، إنما استأثر به وبأرباحه التجار المسلمين، وكان وصول التجار الأوروبيين مباشرة إلى السويس، ثم تكفل حكومة المماليك بحمايتها ونقلها إلى القاهرة ثم إلى الإسكندرية، يعني خسارة تجار القاهرة في المقام الأول.

بالميزان نفسه يمكن الحكم على مشروع «الاستقلال» الذي قدّمه المعلم يعقوب عام 1801، يعرض فيه على لندن احتلال مصر، على أن يساعدها بتشكيل قوة من 12 أو 15 جندياً لإخضاع أهل مصر والتصدي للترك العثمانيين، وكذلك مشروع «الاستقلال» الذي عرضه أحمد لطفي السيد، المنظر الفكري لحزب الأمة، على بريطانيا عام 1911، بأن تنتهز فرصة حرب إيطاليا على طرابلس الغرب (ليبيا) وتوافق على إعلان «استقلال» مصر عن الدولة العثمانية، واستبدال العلم المصري بالعلم العثماني.

المراجع
  1. الرافعي، تاريخ الحركة القومية وتطور نظام الحكم في مصر، الجزء الأول، الطبعة الرابعة (القاهرة: مكتبة النهضة المصرية، 1955) ص 25. محمود الشرقاوي، بطولات عربية، (القاهرة: مكتبة الأنجلو المصرية، 1961) ص 67.
  2. أنور زقلمة، ثورة علي بك الكبير 1768، (القاهرة: مكتبة الأنجلو المصرية، 1952)، ص 25. وكتب عنه أحمد خيري سعيد رواية بعنوان «الدسائس والدماء، علي بك الكبير حياته وعصره: قصة نصف صفحة مطوية من تاريخ مصر في القرن الثامن عشر»، (القاهرة: مطبعة الهلال، 1935).
  3. الرافعي، ص 22، 23، ويستشهد بآراء رحالة فرنسيين جابوا مصر خلال القرن السابع عشر.
  4. محمد رفعت رمضان، علي بك الكبير، (القاهرة: دار الفكر العربي، 1950) ص 53 – 54. تاريخ أحمد جودت، (بيروت: 1308 هجريا)، ص 345. أنور زقملة، ص 43، 61.
  5. محمد رفعت رمضان، ص 206.
  6. محمد رفعت، علي بك الكبير، ص 160. أنور زقلمة، ثورة علي بك الكبير، ص 46، 66.
  7. محمد رفعت، ص 160. أنور زقلمة، ثورة علي بك الكبير، ص 46، 66.
  8. الرافعي، تاريخ الحركة القومية…، ص 26.
  9. تاريخ جودت، ص 346.
  10. محمد رفعت، علي بك الكبير، ص 187.
  11. محمد رفعت، ص 224. للمزيد عن العلاقات بين علي بك وروسيا انظر: 222 وما بعدها. وعن العلاقة بين مماليك النصف الثاني من القرن 18 وروسيا انظر: بيتر جران، الجذور الإسلامية للرأسمالية، ص 44 – 45. أما محمود الشرقاوي فيقول في كتابه بطولات عربية ص 72 أن معاهدة علي بك مع روسيا كان «الغرض منها تدعيم استقلال مصر وتقوية جيشها»، إذ نصت على أن تساعد مصر روسيا في حربها ضد تركيا «غريمة مصر التي احتلتها واستذلتها ثلاثة قرون»، وأن يمد علي بك الأسطول الروسي بالجند والمؤن.
  12. محمد رفعت، علي بك الكبير، ص 189.
  13. محمد رفعت، ص 226. وينقل المؤلف أن روسيا قد ندمت على عدم استغلال الفرصة التي قدمتها لها حركة علي بك، وقد عزمت على تعويض ما فاتها، فعينت قنصلا نشيطا في الإسكندرية، وكلفته بتحريض مراد بك وإبراهيم بك على الانفصال عن السلطان العثماني، ووعدت بمساعدتهما وحمايتهما، وقد أكثر إبراهيم بك من شراء المماليك الروس.
  14. محمد رفعت، ص 194.
  15. محمد رفعت، ص 198. تاريخ أحمد جودت، ص 348. الجبرتي، م 1، ص 591 حوادث سنة 1187هـ.
  16. محمد رفعت، ص 215.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.