لعدة أيام جرى الترويج على نحوٍ واسع النطاق في وسائل الإعلام المحلية الإيرانية لخطبة يوم الجمعة (17 يناير/ كانون الثاني)، التي سيلقيها المرشد الأعلى للجمهورية الإسلامية آية الله علي خامنئي، بعد غياب عن الخطابة الدينية دام لثمانِي سنوات. وحتى قبل تلك الثمانية المنصرمة، لم يكن آية الله خامنئي يقود صلاة الجمعة بشكل مستمر، لكنه كان يظهر في الأحداث الكبرى، سواء في الداخل، أو فيما يتعلق بالمنطقة.

كانت أول خطبة صلاة جمعة يقودها آية الله خامنئي، في عام 1989، بعد أن اختاره مجلس الخبراء (الهيئة المكلفة باختيار المرشد الأعلى لإيران، والإشراف على عمله)، كخليفة لمؤسس الجمهورية الإسلامية، آية الله الخميني بعد وفاته. وكانت المرة الثانية عام 1991، قاد خطبة الجمعة ليُعلن دعمه العلني للعراقيين، في أحداث ذات العام، والتي تُعرف بالانتفاضة الشعبانية، التي كانت مناهضة لنظام الرئيس العراقي السابق صدام حسين.

وفي عام 1999، عندما اجتاحت الجمهورية الإسلامية احتجاجات واسعة للطلاب اعتراضًا منهم على القوانين التي تحد من حرية الصحافة. وفي محاولة لتهدئة الأمور، خاطب خامنئي الطلاب المحتجين وعموم الشعب الإيراني في خطبة الجمعة، داعيًا جميع الأطراف لضبط النفس.

بعد الاحتجاجات الطلابية بعشرة أعوام، وبالتحديد في عام 2009، خرج الآلاف من الإيرانيين احتجاجًا على إعادة انتخاب الرئيس السابق محمود أحمدي نجاد، فيما يعرف تاريخيًا بأحداث الحركة الخضراء، وبعد أن تمت السيطرة على تلك الاحتجاجات، قاد خامنئي صلاة الجمعة في طهران لحث الإيرانيين على دعم الرئيس المنتخب.

بعد الثورة المصرية في يناير/ كانون الثاني 2011 قاد خامنئي صلاة الجمعة متحدثًا عن ثورات الربيع العربي وسقوط النظام في تونس، واصفًا الانتفاضات العربية بأنها حركات التحرير الجديدة، وداعيًا إلى أهمية النظام الإسلامي لحكومات ما بعد الثورة.

تناول نفس الموضوع أيضًا، والحراك الشعبي في المنطقة في خطبة صلاة جمعة أخرى عام 2012، وكانت تلك هي المرة الأخيرة التي يقود فيها المرشد الأعلى صلاة الجمعة. توقع البعض أنه امتنع عن الظهور في صلاة الجمعة لظروفه الصحية وتقدمه في السن.

قرر آية الله الظهور في خطبة الجمعة الماضية، وكانت قد تمت الدعاية لها بشكل كبير بوصفها خطبة الجمعة التاريخية في ظل اشتعال الأمور في إيران على إثر مقتل قائد فيلق القدس (قاسم سليماني) على يد الولايات المتحدة الأمريكية، ثم حادثة تحطم الطائرة الأوكرانية في طهران من جراء خطأ ارتكبه الحرس الثوري الإيراني.

توقعات الخطبة التاريخية

نتيجة للإعلان عن تلك الخطبة التاريخية، ونظرًا للظروف الراهنة داخل الجمهورية الإسلامية، وفي أعقاب انهيار الثقة بين الشعب والحكومة، بسبب تعامل النظام مع حادث تحطم الطائرة الأوكرانية بالكثير من الكذب والخداع لمدة ثلاثة أيام، قبل إعلان مسؤوليتها عن الحادث، واندلاع الاحتجاجات المناهضة للحكومة بعد سقوط الطائرة.

ارتفع سقف التوقعات الخاصة بتلك الخطبة، فاعتقد البعض أن قرار خامنئي بقيادة صلاة الجمعة بعد فترة غياب جاء ليكون بمثابة مصالحة بين النظام والشعب، بينما رأى آخرون أن هتافات المتظاهرين ضد خامنئي ومطالبته بالاستقالة قد دفعته للظهور والاعتذار رسميًا من الشعب وتقديم بعض الإصلاحات لتهدئة الوضع.

توقعات عديدة تناولت إعلان المرشد لمحاسبة قادة الحرس الثوري المتسببين في الحادث، والاعتذار عن خداع الحكومة ووسائل الإعلام للشعب لعدة أيام وتأكيدهم أن الحكومة الإيرانية غير متورطة في سقوط الطائرة. لكن كل تلك التوقعات لم يكن لها أي محل في خطبة القائد الأعلى.

الكثير من المديح، دون اعتذار

لمدة نصف ساعة كاملة، تحدث خامنئي عن الأعداد الغفيرة التي حضرت جنازة قاسم سليماني والضربات الصاروخية الإيرانية على القواعد العسكرية الأمريكية بالعراق، وكيف كان الرد بمثابة صفعة على وجه الاستكبار الأمريكي في المنطقة. أشاد بدور الحرس الثوري الإيراني في تلك الضربات، مؤكدًا قوة الحرس بشكل عام، قوة فيلق القدس بشكل خاص، ووصفهم بأنهم «مقاتلون بلا حدود».

تحدث خامنئي عن إنجازات فيلق القدس، التي أسسها قاسم سليماني بشكل كبير، واستمرار عملها في المنطقة بعد وفاته.

لم يتناول من قريب أو بعيد تورط قادة الحرس الثوري في حادث سقوط الطائرة الأوكرانية، بل إنه وصف النظام والحرس الثوري بضحية المؤامرة الدعائية للعدو، الذي يريد التشويش على انتصارات قواته العسكرية في الداخل والخارج وتشتيت الانتباه عن وحدة الإيرانيين التي ظهرت في جنازة قاسم سليماني. لم يكتفِ بذلك، بل إنه لم يتحدث عن أي نوع من المحاسبة للمسؤولين عن تحطم الطائرة، ولم يلقِ باللوم أبدًا على قادة الحرس الثوري، بالرغم من اعتراف اللواء علي حاجي زاده قائد القوة الجوية بخطأ قواته في الهجوم على الطائرة، وتحمله المسؤولية بشكل شخصي، واكتفى خامنئي فقط، بالإشارة إلى تحذير الحكومة من الوقوع في حوادث مشابهة لحادث تحطم الطائرة في المستقبل.

المبالغة في استخدام جنازة سليماني

كان من الملفت للنظر في خطبة الجمعة التي قادها آية الله علي خامنئي، المبالغة في التطرق إلى جنازة قاسم سليماني، والأعداد الكبيرة التي خرجت لتشيع جثمان قائد فيلق القدس في ثلاث مدن إيرانية، لكن في نفس الوقت هناك من مزق صور القائد العسكري في الاحتجاجات الأخيرة التي أعقبت إعلان الحرس الثوري مسؤوليته عن سقوط الطائرة.

تعمد خامنئي أكثر من مرة تذكير الإيرانيين والمراقبين في الخارج بحشود الإيرانيين في جنازة سليماني، كدليل على قدرة النظام الإيراني على توحيد الإيرانيين، وإظهار حبهم للقادة العسكريين.

انتقد خامنئي من مزقوا صور سليماني في الاحتجاجات، قائلًا: «هؤلاء المئات من الأشخاص الذين أهانوا صور القائد، وشهيدنا الكريم، هل هم من الشعب الإيراني أم هؤلاء الملايين الذين ظهروا في جنازته؟».

فيما اعتبر بعض المحللين داخل إيران، أن هذا التعليق من شأنه التفرقة بين الشعب الإيراني، وإشارة إلى داعمي النظام بقمع الاحتجاجات الحالية.

لا مفاوضات مع الأمريكان ولا محاسبة للمسؤولين

لم يتناول خامنئي في خطبته مطالبة المحتجين بإقالته، بل اتهم الاحتجاجات بأنها مدعومة من حكومات أجنبية في إشارة منه إلى تغريدة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، التي أعلن فيها دعمه للمتظاهرين في إيران.

أكد خامنئي أنه حتى أهالي ضحايا حادث تحطم الطائرة أعلنوا دعمهم للنظام، فزعم أن والدة أحد الضحايا أرسلت له رسالة، لتعبر عن دعمها وولائها له.

تناول خامنئي المستجدات الحالية بشأن الصفقة النووية، وانتقد لجوء الحكومات الأوروبية (ألمانيا، فرنسا، بريطانيا)، إلى إحالة أمر الصفقة إلى مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة لحل النزاع، واصفًا إياهم بأنهم يخدمون مصالح الولايات المتحدة، التي رفض بشكل قاطع أي مفاوضات معها، كما جرت العادة منذ انسحاب ترامب من الاتفاق النووي عام 2018.

غضب روحاني هو الحدث الأبرز

في حقيقة الأمر، جاءت خطبة المرشد الأعلى بعد ثمانِي سنوات من الغياب مخيبة للآمال، إلى جانب أنها لم تتناول أي شيء جديد. كانت خطبة عادية روتينية، حتى تناول آية الله لمستقبل المفاوضات مع الولايات المتحدة بشأن الاتفاق النووي، جاء مكررًا «لا تفاوض مع الولايات المتحدة».

يجادل البعض داخل إيران أن الهدف الأساسي من الخطبة هو إظهار القوة، وقدرة النظام على حشد الناس، بعد أن غطت الأحداث الأخيرة على الوحدة المؤقتة التي أظهرها الإيرانيون في جنازة قاسم سليماني. وفي ظل الغضب الشديد من قبل المتظاهرين في الشوارع، من تعامل النظام مع حادثة تحطم الطائرة، المطالبة بمحاربة الفساد ومساءلة المسؤولين عن تلك الكارثة، فإن الخطبة كانت عبارة عن التذكير بحضور الزعيم الأعلى، وقدرته على إدارة أمور البلاد.

لكن حدث ما جعل البعض يتجاهل مضمون الخطبة الروتينية، فكان غضب الرئيس الإيراني حسن روحاني، ومغادرته الصلاة قبل أن يختمها المرشد الأعلى بسرعة مفاجئة، هو الحدث الأبرز في الخطبة التاريخية.

وصف روحاني تورط الحرس بأنه خطأ لا يغتفر، مؤكدًا ضرورة تقديم المسؤولين لمحكمة خاصة يشرف عليها قاض مستقل، مما أوقعه في مواجهة متجددة مع قادة الحرس الثوري.

قبل عدة أيام من خطبة صلاة الجمعة التي قادها آية الله علي خامنئي، وفي أعقاب إعلان اللواء حاجي زاده قائد القوة الجوية التابعة للحرس الثوري، أن الدفاعات الجوية للحرس هي من أسقطت الطائرة الأوكرانية، خرج روحاني غاضبًا، ليعلن أنه تم إبعاده عن ملابسات الحادثة منذ البداية، وأن المجلس الأعلى للأمن القومي الذي يترأسه بشكل رسمي، لم يبلغه بالسبب الحقيقي وراء سقوط الطائرة، في حين أن أعضاء المجلس على سبيل المثال علي شمخاني السكرتير العام للمجلس كانوا على علم بكل شيء منذ الدقائق الأولى.

في خطبة يوم الجمعة جرى الهتاف بالموت للمنافقين بعد أن تطرق آية الله خامنئي إلى ضرورة رفض الإيرانيين للمفاوضات مع الغرب، وعندما أشار خامنئي إلى أن البعض داخل إيران يحاولون استرضاء العدو في إشارة إلى الولايات المتحدة، عند تلك النقطة ركزت كاميرات التلفزيون الحكومي التي كانت تبث الخطبة على الهواء مباشرة على وجه روحاني. وقبل أن ينهي المرشد الأعلى الصلاة وكان ما يزال ساجدًا، قام حسن روحاني بالوقوف بشكل مباغت وسريع، وألقى التحية على علي لاريجاني رئيس البرلمان الذي كان بجانبه، وغادر وعلى وجهه علامات الغضب.