لو أردنا تلخيص معاناة النسخة الحديثة من الإنسان لجمعتها كلمة «الاغتراب». فَطِن إلى هذا مُفكرو الحقبة الحديثة وفلاسفتها، فذاعت اللفظة وعمّت أغلب حقول الدراسات الإنسانية. فتجد حديثًا عن اغتراب نفسي واجتماعي واقتصادي.

لكن الذي أعطى لمفهوم الاغتراب كل ذاك الزخم، تقديمه في التصور الفلسفي على أنه المعبر عن حالة الانسلاخ التي يعيشها ويعاني منها الإنسان، والتي تسلبه نفسه شيئًا فشيئًا.

يُدلِّل على هذا المعنى «ريتشارد شاخت» في كتابه «الاغتراب»:

يُعرَف الاغتراب الذي يمكن تسميته «شعار العصر» بوصفه واجهة حقيقية سافرة لواقع الإنسان المعاصر المُمزق، ولأضخم المشكلات التي تعاني منها الإنسانية اليوم كنتاج للحضارة في المجتمعات المدنية الصناعية، التي تحكمها التنظيمات البيروقراطية.

تأتي مادة «غرب» عندنا في المعاجم للدلالة على البعد، ومنها اشتقت الغربة والغريب والتغريب. وكل الدلالات تُشير إلى معان متقاربة جوهرها هو «البعد»، فالغربة هي البعد عن الوطن، والغريب هو البعيد عن قومه.

في الاغتراب الفلسفي

أخذ مفهوم الاغتراب مركزيته الدلالية في الفلسفة مُنطلقًا منها إلى باقي حقول العلوم الإنسانية، وذلك على يد الفيلسوف الألماني «هيجل»، الذي استفاد من فورة العقل الألماني التي تجلت في الفلسفة الكانطية، ليصل إلى شكل «المثالية المطلقة» الذي عُرفت به فلسفته.

حاول كانط أن يُعرِّف حدود العقل الإنساني، فتوصّل إلى أنه لا محدود بقدر ما هو محدود. حيث إنه محدود بمقولات «الكمية – الكيفية – النسبة – الجهة»، وهي مقولات قبلية، موجودة قبل العقل ومغروسة في كل عقل. إنها بمثابة قوالب، يصب فيها نتاج التجربة المُشتت، فينتج الفهم؛ إن العقل هو الذي يفرض قوانينه على الأشياء الخارجة عنه، بحكم أن المعرفة بتلك الأشياء تتم من خلال المقولات/القوالب الموجودة في العقل قبل أي تجربة.

كان في فلسفة كانط إشارة إلى تفرقة بين عالمين، عالم الأشياء كما هي، وكما تبدو لنا، إذ إنها تبدو لنا طبقًا للمقولات كما هي مغروسة في عقولنا، ولا يُشترط أن يكون فهمنا لها يمثل حقيقتها أو كما هي عليه في الواقع.

فرض كانط نفسه على منْ جاء بعده، إذ عُدّت محاولته للتوفيق ما بين التجربة والعقل، وفضّه لسجال سبق تصورات كل منهما، ثورة. بعده قال الفيلسوف الألماني «يوهان غوتليب فيشته» -مستفيدًا من السياق الكانطي- بأن الإنسان «روح»، وبأن الجسد عبارة عن ساحة لوجوده، والحرية هي التحرر من الواقع من خلال الوعي. وكل (فعل) أو إبداع إنساني إنما هو لحظة «تخارج» من الروح في العالم الواقعي؛ أي أن الذات/الروح تعطي العالم جزءًا منها، يتخارج في صورة «فعل»، وكأن الروح انفصلت عن ذاتها في صورة إبداع حر لتحل في جسد أو وجود عيني، أي تحل الحرية في الضرورة.

بينما وقف فيتشه عند «التخارج» بمعنى حلول الفعل المنفصل عن الذات/الروح في العالم الواقعي، كان هيجل يؤسس لفكرة أن الفردانية الإنسانية هي جزء من كل مطلق.

إن العقل الكلي يمثل الضرورة التي تبتلع السعي الإنساني الذاتي، والذي ينتهي بنهاية الإنسان؛ يكسب هيجل العقل طبيعة مزدوجة، الأولى تعبير عن الوعي والإرادة الذاتية، وتلك تمثل خطوة أولية أو مرحلة من مراحل الطبيعة الثانية، وتلك هي السمة الكلية للعقل التي تنشد الجوهري.

قدّم هيجل شكلين للاغتراب:

  • الأول: الذاتي، وهو انفصال الذات عن جوهرها.
  • الثاني الاجتماعي، وهو انفصال عن البنية الاجتماعية.

الإضافة الماركسية لمفهوم الاغتراب

أمّا ماركس، فقد استعار مفهوم الاغتراب من هيجل، وقصره على حدود «العمل»، حيث إن فلسفة ماركس يمكن أن تُفسَّر في إطار من ثنائية: الإنسان/العمل، إذ يعد العمل هو الفاعلية التي يستطيع الإنسان أن يحقق من خلالها ذاته بإخضاع الطبيعة لسيطرته، فعلى الرغم من تعدد الجوانب التي يمكن من خلالها ظهور الاغتراب فإن الاغتراب الاقتصادي يعد أهمها. إنه الواقع الذي يُنتجه العيش وفقًا للنظام الرأسمالي؛ إن العامل بالنسبة لماركس يُعد ضحية لاستغلال رأس المال، فكلما كدّ العامل في الإنتاج أصبح أشد فقرًا، والفائدة تكون حصرًا لرب المال.

يُقسَّم العمل في النظام الرأسمالي تقسيمًا دقيقًا، يعتبره ماركس قسريًا ومُقيِّدًا لطاقات الإنسان الإبداعية، إذ إن لكل عامل مهمة محددة لا يتجاوزها، فهو يعد ترسًا أو جزءًا صغيرًا في عملية الإنتاج.

لم يعد معنى الاغتراب عند ماركس عموميًا، يفيد بالانفصال عن العالم كله، بل إنه يظهر من الطريقة التي يتعامل بها الناس مع عملهم، حيث يتجسّد انفصالهم عن منتجات عملهم، «ذلك أن الشيء الذي يُنتجه العامل يقف على الضد منه كشيء غريب، كقوة مستقلة عن المنتج».

يصبح العمل وفقًا للتصور الماركسي نشاطًا قسريًا بدل أن يكون إبداعيًا؛ إن العامل لا يمتلك أي شيء «آلات، منتجات،…»، ويذهب ريع إنتاجه لقوى تستغله. وبهذا يصبح العمل مادة للبؤس والشقاء. يصبح تجسدًا لاغتراب العامل عن صنع يده.

صحيح أن التصور الماركسي للاغتراب التصق أكثر بالعالم الواقعي كما وضّحنا، إلا أن الصورة بقي فيها مكان ناقص، حيث من الممكن أن يخطر على الفور التساؤل:

هل يكون لاغتراب الإنسان عن عمله، وانفصاله عمّا صنعت يده، كل ذلك الزخم؟

كيف يمكن للشماخ بن ضرار أن يكمل لوحة الاغتراب الماركسي؟

نجد إجابة قديمة مهملة في كتب تراثنا العربي، حيث عرف تراثنا العربي شاعرًا مخضرما حضر الجاهلية وصدر الإسلام يُسمى «الشماخ بن ضرار» ينتهي نسبه إلى «غطفان»، وقال عنه الحطيئة:

أبلغوا الشماخ أنه أشعر غطفان.

مدح النبي في حضرته، ورثى الخليفة عمر، ومات في عهد عثمان في فتح «موقان» نواحي أذربيجان سنة 22 وقيل 24 من الهجرة.

للشماخ قصيدة نشرها الأستاذ «محمود شاكر»، وأضاف عليها من نثره في كتاب بعنوان «القوس العذراء»، كتبها «أبو فهر» إلى صاحب دار المعارف «شفيق متري»، بعد سجال دار بينهما عن «إتقان العمل». والشماخ في قصيدته «الزائية» يُصوِّر تصويرًا دقيقًا للعلاقة التي تنشأ بين الإنسان وعمله، حيث «يتخارج» فيه جزء من روحه، حتى يصبح الانفصال بينهما ضربًا من المرار، ومورثًا للحسرة والانكسار.

إن الشماخ يُكمل لنا لوحة الاغتراب الماركسي، حتى يمكنك أن تفهم ما عناه ماركس بانفصال العامل عن عمله، واغترابه عن صنع يده، وتحجيم طاقته الإبداعية بجزء لا يتجاوزه؛ والصورة التي كان عليها العمل قبل الرأسمالية، حيث الإنسان هو المبدع الأول للعمل من مبدئه إلى منتهاه، والمستفيد الوحيد من صنع يديه؛ بهذا المعنى تصبح قصيدة الشماخ بمثابة المكعب الناقص للوحة كارل ماركس.

يحكي الشماخ في قصيدته قصة «قوس»، صنعها صانع ماهر فأجاد فيها، ثم لازمته فكأنها قطعة منها، يُصوِّر صاحبنا القوّاس -صانع القوس- منذ لحظة أن وقعت عيناه على فرع الشجرة، على الغصن التي سيصنع منها قوسه، منذ أن أخبره حدسه بأن ذاك الغصن بالذات سيكون مادة مناسبة لقوسه التي ينوي صنعها.

يقول:

تَخَيَّرَهــا القَــوّاسُ مِن فَرعِ ضـالَةٍ *** لَهــا شَذَبٌ مِن دونِها وحَواجِزُ
فَأَنحــى إِلَيهــا ذاتَ حَـدٍّ غُرابُـهـــا *** عَـدُوٌّ لِأَوساطِ العِضاهِ مُشارِزُ

ثم مضى الشماخ يُصوِّر العلاقة التي قامت بين القوّاس وذلك الغصن الذي اختاره ليكون مادة قوسه فيقول:

فَمَظَّعَهــا عامَينِ مــاءَ لِحائِهـــا *** وَيَنظُــرُ مِنها أَيَّها هُوَ غامِزُ
أَقـــامَ الثِقافُ وَالطَــريدَةُ دَرأَهـــا *** كَمــا قَوَّمَت ضِغنَ الشَموسِ المَهامِز

ثم أعجبه ما صنعت يداه، حيث اكتمل القوس وأصبح قويًا لينًا، يهتف في يد صاحبه هتاف الثكلى التي أوجعتها الجنائز، فيقول:

إذا أنبضَ الرامون عنها ترنمتْ *** تَرُنَّم ثكلى أَوْجَعتْها الجنائزُ
قذوفٌ إذا ما خالطَ الظبيَ سهمها *** وإنْ رِيغ منها أَسلَمَتْهُ النواقزُ

إن الشماخ أراد أن يستفيض في تصوير العلاقة بين القوّاس المحكي عنه في القصيدة وبين قوسه، فالعلاقة هي علاقة التخارج التي ذكرها «فيتشه»، وصوّر بها العمل على أنه جزء من الروح يحل في العالم الخارجي. يضع الشماخ هنا المربع الناقص في فلسفة الاغتراب سواء بين العامل، الفنان، الإنسان وبين ما صنعت يداه.

ثم يحكي صاحبنا الشماخ عن أخذ القوّاس لقوسه في موسم الحج ليعرضه على الناس، وهنا ينقل صاحبنا تصويرًا بديعًا لأثر «الاغتراب» لحظة انفصال الفن عن الفنان أو العمل عن العامل، إنه يرسم محاولة للتقدير المادي لعمل هو في عين صاحبه لا يقدر بثمن، وحسرته بل وبكاءه لحظة أن أدرك أنه باع ما لا يباع، ولا يقدر بمال.

يقول:

فَـوافى بِهــا أَهـلَ المَواسِـمِ فَاِنبَرى *** لَهــا بَيِّعٌ يُغلي بِها السَومَ رائِزُ
فَقـــالَ لَهُ هَــل تَشتَريهــا فَإِنَّهـــا *** تُبــاعُ بِما بيعَ التِلادُ الحَرائِزُ
فَظَــلَّ يُناجــي نَفسَــهُ وَأَميرَهـــا *** أَيَأتـــي الَّذي يُعطى بِها أَم يُجاوِزُ
فَقالـــوا لـــهُ بايِــع أَخــاكَ وَلا يَكُـــن *** لـكَ اليومَ عَن رِبحٍ مِن البَيعِ لاهِزُ
فَلَمَّـا شَـراها فـاضَتِ العَينُ عَبـرَةً *** وفـي الصدرِ حُزّازٌ مِن الوَجدِ حامِزُ

إن مفهوم الاغتراب -كما ذكرنا سابقًا- مُتشعّب ومُتعدد المعاني، لكنه برز في الفلسفة الحديثة أولًا من خلال هيجل ثم أخذ مركزيته في فلسفة ماركس كصورة لانسلاخ الإنسان وبعده عن عالمه وواقعه وعن عمله وفنه. صوّر قبلها الشماخ الشاعر الغطفاني العربي صورة قريبة، لحالة من التوحد بين صانع قوس وقوسه، وحال من المرار لحظة مفارقته لهذا القوس، جاءت صورته –الشماخ- لتكمل جزءًا صغيرًا ناقصًا من لوحة الاغتراب كما رسمها كارل ماركس.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.