في العام الماضي وأثناء مباراة جمعت بين منتخبي قطر وإيران، تمكن حارس المرمى الإيراني «علي رضا بيرانفاند» من التصدي لإحدي الكرات الثابتة، ليقوم بعدها الحارس سريعًا ببدء هجمة مرتدة عن طريق رميّة طويلة نفذها بيده جاوزت الـ70 ياردة، وتخطت وسط ملعب قطر، بل ومنحت مهاجم إيران انفرادًا بالمرمى في غمضة عين!

أغلب الحضور من جمهور اللقاء، بالإضافة للاعبي قطر، ومعلق المباراة، كل هؤلاء اندهشوا للغاية من رمية الحارس علي رضا. في المقابل، لم يبدُ على لاعبي إيران أي دهشة، وهو ما يعني أنها ليست المرة الأولى بالتأكيد التي ينفذ فيها علي رضا رمية بتلك الطريقة، وتصل لتلك المسافة.

لا يعود أصل تلك الرمية، التي حازت إعجاب الكثير، إلى تدريبات معينة خاضها علي. بل تعود إلى قصة أبعد من كرة القدم والرياضة بشكل عام. قصة بدأت في مدينة لرستان غرب إيران لطفل صغير نشأ في عائلة بدوية فقيرة، وخاض غمار الحياة الصعبة وحيدًا، لينتهي به الحال كأفضل حارس مرمى في بلاده. فكيف كان هذا التحول؟


أحلام راعي الغنم

ولِد علي رضا في سبتمبر/أيلول 1992 بقرية تُسمى «سراب ياس»، وكان أكبر الأبناء لأسرة بدوية فقيرة، أسرة تعيش على التنقل من مكان لآخر بحثًا عن مقومات الحياة من مياه وغذاء.

ولأن علي كان الابن الأكبر، فقد عمل في سن مبكرة جدًا ليعاون والده، حيث تكفل الصغير بأعمال رعي الأغنام، وكان يقضي ساعات من السير تحت أشعة الشمس في انتظار أن يسمح له والده باللعب مع الأطفال الآخرين لبعض الوقت.

لم يكن اللعب عند علي يعني أي شيء سوى كرة القدم ودال باران،والأخيرة هي لعبة محلية بإيران تقوم على المنافسة حول رمي الطوب الصغير لأبعد مسافة ممكنة، أما كرة القدم فقد كانت لعبته المفضلة التي يجد ذاته خلال ممارستها بعيدًا عن الظروف الصعبة التي نشأ فيها.

أحب علي الانضمام لأحد فرق كرة القدم. وعند إتمامه عامه الثاني عشر، نجح في الحصول على فرصة للتدريب مع ناشئي أحد الفرق المحلية. كان علي يفضل اللعب كمهاجم ليحرز الأهداف ويصنع الفارق إلى أن حدثت الصدفة التي ستغير مصيره في الملاعب للأبد، حيث أُصِيب حارس مرمى الفريق، وطلب منه المدرب أن يشغل هذا المركز لبعض الوقت.

فوجئ المدرب من ظهور علي في هذا المركز، فلم يكن الصغير مهاجمًا مميزًا، لكنه أبدى من المرة الأولى موهبة جيدة في حراسة المرمى وتوجيه زملائه من الخلف، ومنذ ذلك الوقت لم يخرج علي رضا من جلباب حارس المرمى.

العقبة الوحيدة التي كانت تواجه أحلام راعي الغنم الصغير في احتراف كرة القدم هي والده؛ حيث كان السيد «مرتضي بيرانفاند» معارضًا بشدة لاهتمام ابنه الزائد باللعبة، كان يعتقد دومًا أن كرة القدم مجرد وسيلة للتسلية ولا يجب أبدًا أن يكرس لها علي رضا حياته كلها، بل ينبغي أن يستمر في العمل معه.

لكن علي واصل لعب كرة القدم رغم ضغوط أبيه، حتى اكتشف مرتضي ذات مرة أن ابنه خدعه وذهب لتدريبات الكرة دون أن يخبره.عندها ظن الأب أن أفضل وسيلة لعرقلة رغبة علي هي تمزيق ملابسه الرياضية والقفاز الذي يرتديه أثناء حراسة المرمى، لتكون بذلك نهاية العلاقة بين ابنه والملاعب، لكنها فعليًا كانت البداية!


الفرار إلى المجهول

كان علي رضا أمام خيارين بعدما فشل في إقناع والده بالسماح له بلعب الكرة؛ الأول هو الاستسلام لرغبة الأب ومواصلة العمل، والثاني، كان قرارًا طائشًا، لا يتحمل كلفته عادة من هم في سنه آنذاك، وهو الهروب نحو العاصمة طهران بحثًا عن فرصة لاحتراف الكرة. اختار المراهق الصغير الخيار الثاني. استعار بعض الأموال من أحد أقاربه وفرّ إلى طهران.

وفي الحافلة التي استقلها في طريقه للعاصمة الإيرانية، أدرك علي رضا أنه مُقبِل على ظروف صعبة للغاية، حيث قابل مصادفة أحد مدربي كرة القدم ويدعى «حسين فايز»، حكى له علي قصته، فعرض عليه المدرب فرصة للتدريب نظير 200000 تومان هو ما يعادل 30 يورو، لكن علي لم يكن يمتلك أي مال أو حتى تنتظره إقامة في طهران حتى يدفع لحسين فايز!

علي كان يطارد حلمًا بلا أي إمكانيات، بلا أي خبرة، بلا أي مساندة. لقد فر إلى المجهول، وقامر على هامش نجاح ضئيل، وآمن بحظوظه في مواجهة كل تلك التحديات.


عند ميدان آزادي

تصريح علي رضا

في مدخل العاصمة الإيرانية، يوجد ميدان يدعى آزادي، يزوره عادة السياح بالنهار، ويلجأ إليه الفقراء والمعدمون ليلًا للنوم حوله، علي رضا لم يجد له مأوى في أيامه الأولى بطهران إلا هذا الميدان.

كان الصغير يتنقل في الصباح بين الأندية المحلية بحثًا عن فرصة للتدريب، وفي الليل يعود للاستلقاء بأي مساحة متاحة حول الميدان، وبالطبع كان يعيش خلال تلك الفترة على بقايا الطعام. مشكلة الإقامة تلك ستظل ملازمة لعلي رضا لسنوات قادمة، حتى يصعب التصديق أن شخصًا تحمل كل تلك الصعوبات دون أن يستسلم أو ينهار!

في أحد الأيام التي كان يجول فيها علي بين الأندية، وصل لبوابة النادي الذي أخبره عنها المدرب حسين فايز قبل وصوله لطهران. غالب النوم الشاب فقرر أن يبيت ليلته تحت بوابة النادي.

يتذكر علي رضا في حواره مع جريدة الجارديان تلك الليلة، ويقول إنه فوجئ حين استيقظ بأن المارة تركوا حوله نقودًا ظنًا منهم أنه مجرد شحاذ يتخذ من بوابة النادي مأوى له، جمع علي النقود وذهب لشراء إفطار، يصف ذلك الإفطار بأنه كان ألذ طعام تناوله خلال تلك الأيام الصعبة.

سمع حسين فايز عما فعله علي، اندهش المدرب الإيراني من إصرار ورغبة المراهق على الحصول على فرصة، فتعاطف جدًا مع حالته ومنحه فرصة للتدريب مجانًا، بل وطلب من زملائه في الفريق دعمه، حتى عرض أحدهم عليه الإقامة في منزله لعدة أسابيع، ثم عرض آخر عليه فرصة للعمل بمصنع ملابس.

غادر علي ميدان آزادي، وحياة التسكع في الشوارع بلا رجعة. لكن مستقبله ظل مجهولًا حيث إنه فقط نال فرصة للتدريب، وحصل على عمل بسيط، ويستضيفه أحد الزملاء. وهو ما يعني أن حياته كلها تقع في خانة الحالة المؤقتة التي لن تبقى كذلك طوال الوقت.


سيارة علي دائي

انتقل علي رضا للعمل في مجالات أخرى، في إحدي الفترات كان يعمل بتنظيف السيارات، وذات مرة صادف أن كان مسئولًا عن سيارة النجم التاريخي للكرة الإيرانية علي دائي!

أخبره زملاء العمل بضرورة أن يتحدث إلى دائي طالبًا المساعدة، لكن الشاب الإيراني تردد كثيرًا في الحديث إليه، يقول علي رضا إنه كان يخجل من ظروفه السيئة، ولا يحب أن يشعر الآخرون تجاهه بالشفقة، فلم يسمع علي لنصيحة زملائه.

لكن حين صادف وكان علي مسئولًا عن سيارة مدرب نادي نفط إيران، فلم يتردد تلك المرة وشرح له ظروفه ورغبته في احتراف الكرة، تعاطف مدرب النادي الإيراني مع علي، وطلب منه الحضور إلى النادي للخضوع للاختبارات.

نجح علي رضا في نيل إعجاب مدربه الجديد، وقد توسط ذلك الأخير حتى يقيم اللاعب في حجرة الصلاة بمقر النادي، لكن سرعان ما عاد شبح المعاناة يطارد علي من جديد.

فبعد مدة قصيرة، رفضت إدارة النادي إقامة علي. فاضطر الشاب للخروج إلى الشارع مرة أخرى للبحث عن مأوى. حصل على فرصة للعمل والإقامة بأحد مطاعم إعداد البيتزا، ثم انتقل منه لكنس الشوارع في سبيل الحصول على مقابل مادي ضئيل، لكن الأسوأ لم يأت بعد! تخلى نادي نفط إيران عن خدماته، وعندها ظن علي رضا بأن حلمه قد مات بلا أي رجعة.


القدر يبتسم

لقد عانيت كثيرًا لأحقق أحلامي، ولن أنسى أبدًا كل تلك المعاناة حينما تأتي الفرصة!

ليس من اليسير أن تجد قصصًا كثيرة مشابهة لقصة علي رضا في إصراره وتحمله كلفة مطاردة الحلم. علي رضا شخص مكافح، شجاع، يتحمل نتيجة أفعاله، ولم يتخاذل أبدًا أو يستسلم لكل تلك المعوقات الرهيبة.

لذلك فقط ابتسم القدر لراعي الغنم الذي ضحى بكل شيء في سبيل حلمه. لقد أحيا القدر حلمه من الموت عندما تولى إدارة فريق شباب نادي نفط إيران مدرب جديد، كان ذلك المدرب معجب بمستوى حارس المرمى الذي طرده النادي منذ فترة بسيطة: علي رضا بيرانفاند.

تواصل معه المدرب الجديد، وطلب منه الحضور لحراسة عرين فريق الشباب، ووعده بأن يكون داعمًا له.

تحوّل علي رضا بعد انتظامه في معسكر فريق الشباب إلى شعلة حماس لا تنطفئ. تدرب الشاب فترة أطول، وبتركيز أكثر، وبرغبة أكبر في إثبات ذاته من كل أقرانه. فظهر بمستوى رائع مع فريق الشباب قبل أن يتسلم أول استدعاء دولي من منتخب إيران تحت 23 عامًا!

أمثال علي رضا لا يفرطون أبدًا في الفرصة حين تأتي إليهم، لأنه كما يقول يعلم جيدًا الكلفة الباهظة التي دفعها عبر سنوات طويلة من الحرمان والخذلان، لذلك لم يكتف الحارس الشاب بمقعد بدلاء منتخب إيران الأول خلال مونديال 2014، فتحوّل في العام التالي لحارس إيران الأول، وها هو يجني ثمار معاناته ويظهر أساسيًا خلال تلك النسخة من المونديال.