لا أعلم لماذا لم يحصل المخرج الإنجليزي العظيم «ريدلي سكوت» على جائزة الأوسكار إلى الآن؟ ولا يهمني في الحقيقة أن أعرف، فقد نما إلى شك عميق عبر عشرات الحالات الغريبة أن الجائزة الشهيرة لها انحيازاتها وسياستها وأجندتها الخاصة، ولم تعد بالنسبة لي المصدر الحقيقي لتتويج الأعمال العظيمة وصناعها.

ما يهمني هو شعوري الداخلي بأن هذا الرجل الملهم هو من أعظم المخرجين الذين يعيشون بيننا على الإطلاق. لكن لا أنكر أني شعرت بالسعادة عندما تم تكريمه مؤخرًا في حفل الأكاديمية البريطانية لفنون السينما والتليفزيون «BAFTA» عن مجمل مشواره السينمائي.

عن الشعور الإنساني الداخلي بالـتحقق من عدمه، تدور أحداث فيلم «ريدلي سكوت» الجديد «All the Money in the World» بين الستينات والسبعينات، عن قصة حقيقية لرجل الأعمال العجوز «جين بول جيتي» صاحب شركة «جيتي» للبترول وأحد أغنى الرجال في التاريخ بأسره.

وتبدأ من داخل أسرة ابنه «جون» وزوجته «جيل» وطلفيهما «بول» و«آيلين»، والذين يعيشون ظروفًا اقتصادية صعبة، فتطلب «جيل» من زوجها الكتابة لأبيه –الذي لا تجمعه أي علاقة بهم أو بالابن منذ سنوات لانشغال «جيتي» بجمع الثروة- ليطلب منه المساعدة، فيستجيب العجوز «جيتي» ويطلب من الأسرة الانتقال إليه في روما، حيث يوفر للابن وظيفة مزدهرة في إدارة أعماله النفطية بأوروبا.

يلعب العملاق «كريستوفر بلامر» واحد من أعظم الأدوار التي أداها في مسيرته المهنية، مجسدًا حالة التيه التي يدور فيها الإنسان أثناء البحث عن معنى حقيقي لحياته ولكل ما يفعله.

تمضي الأعوام ويتحول الزوج «جون» إلى مدمن للمخدرات وللنساء، وينهار زواجه، وتخرج زوجته جيل خالية الوفاض بعد الطلاق إلا من وصايتها على ابنيها، ولا يطول استقرارها معهما طويلًا، حيث يتم اختطاف ابنها المراهق «بول» أثناء زيارة له لروما على يد عصابة إيطالية خطرة تطلب فدية ضخمة قدرها 17 مليون دولار، طامعين في أموال الجد الثري «جيتي».

بين أب مدمن تدور بعقله الخمر والنساء، وبين جد لا يكترث إلا بمراكمة الثروة، تمضي محاولات العصابة للخروج بهبشة ملايين من عملية الاختطاف، ولا يجدون أمامهم سوى الأم المسكينة التي لا تملك من حطام الدنيا سوى النذر اليسير، ليضغطوا عليها لتقوم بدورها بالضغط على الجد من أجل الدفع، وإلا سيرسلون جزءًا من جسد «بول» تباعًا عبر البريد ليثبتون جدية جشعهم المتوحش.

أمام جشعهم الإجرامي، يرسم الفيلم صورة أخرى واسعة مليئة بالتفاصيل المذهلة لنوع آخر من الجشع.

يلعب العملاق «كريستوفر بلامر» واحدًا من أعظم الأدوار التي أداها في مسيرته المهنية، مجسدًا حالة التيه التي يدور فيها الإنسان أثناء البحث عن معنى حقيقي لحياته ولكل ما يفعله. يبدو «جيتي» مخلصًا للغاية لمنطق براجماتي بسيط، فعليه أن يسعى حتى اللحظة الأخيرة في حياته لتحقيق الأمر الوحيد الذي يجلب له شعورًا بأنه اقترب أخيرًا من تحقيق ذاته.

يذهب «جيتي» لأعماق صحراء الخليج للبحث عن النفط، ويبني أكبر ناقلات للبترول في العالم ليحقق أكبر عائد اقتصادي ممكن من الموارد المكتشفة، يبدو عمليًا للغاية ويسعى لتحقيق أكبر قدر من المنفعة، يقرر أن يغسل ملابسه الداخلية بنفسه لأن سعر غسيل الملابس الداخلية في الفندق الذي يقيم فيه يبدو مبالغًا، ويجلس دائمًا في الظلام إلا من نافذة مفتوحة تدخل نور الشمس الشحيح في لندن ذات الضباب، وفي المساء يكتفي بالإضاءة المنبعثة عبر نار المدفأة، لا يمكن وصفه بأنه بخيل، فالرجل ينفق مئات الملايين من الدولارات على هوايته في جمع اللوحات الفنية والتماثيل الرومانية واليونانية!

تحمل إليه سكرتيرته نبأ اختطاف حفيده بينما هو منكب على قراءة الشرائط الورقية التي تلتف حوله مثل ثعبان منبعثة من آلة «التيكر»، يخبرها بأن عليها ألا تزعجه بينما هو وسط طقسه الصباحي في متابعة أرقام البورصة.

يرفض «جيتي» أن يدفع مليمًا للخاطفين من أجل مبدأ بسيط للغاية، فلديه 14 حفيدًا، وإذا دفع لتحرير «بول» فسيضع باقي الحفدة في خطر اختطاف لا ينتهي. ويقرر أن يلعب بطريقة أخرى، فيستعين بجاسوس وعميل مخابرات سابق –يلعب دوره «مارك وولبيرج»- من أجل التحقق أولًا بأن طليقة ابنه لا تلعب لعبة ما من أجل الحصول على المال بطريقة ملتوية.

ولاء «جيتي» الرئيسي للأشياء وجمع الأشياء، قصوره الضخمة، وملابسه الثرية الأنيقة، ولوحاته وتماثيله، ويرى أن الأشياء أكثر وضوحًا من البشر، وأكثر استقامة، وحقيقتها سهلة غير متلونة، أشياء مجردة يمكنها الدخول في حساباته كأرقام تلعب لعبة شريفة في معادلاته الرقمية لتستوي بشكل قابل للتوقع في مجمل الحسابات بالنهاية. وحتى أسرته يحاول أن يتعامل معها كأنها أشياء، يصف ابنه وحفيده بأنهما ملك له.

يعلم أنه في لحظة ما كان أغنى شخص في التاريخ، وأول شخص تتجاوز ثروته حاجز المليار دولار، يسأله «فليتشر» –الجاسوس- عن المدى الذي يرغب أن تصل ثروته إليه ليشعر في النهاية بالهدوء والراحة النفسية، فيجيب الإجابة البشرية الصريحة التي تلخص عمق المحرك الذي يدفعنا جميعًا، لا يعطي رقمًا ولا حدًا للطموح أو الجشع، فقط يجيب باقتضاب بارد: «المزيد».

يعتذر لابنه في أحد مشاهد الفيلم بأنه لم يكن هناك أثناء فترة طفولته وشبابه لأنه كان مشغولًا بمهمة بناء إمبراطوريته، يربت على كتف الابن الأربعيني مرددًا: «أنت تفهم، أليس كذلك؟ أنت تفهم». يبدو وكأنه يقرر حقيقة جينية وتاريخية إنسانية لا فكاك منها، يبدو المشهد باردًا لكنه حقيقي أيضًا بشكل مرعب.

في فيلم «بروميثيوس» لـ«ريدلي سكوت» أيضًا، تنطلق مجموعة من العلماء في رحلة فضائية خطرة للبحث عن إجابة حول سؤال: «من الذي أتى بنا إلى هذا العالم؟ من هو خالقنا؟»، لن يثير عجبك قدرة المجموعة على مواجهة المخاطر من أجل الحصول على إجابات، لكن المثير والكاشف هو تصميم ممول الرحلة الثري العجوز –المعادل الموضوعي لـ«جيتي» في فيلم «سكوت» الجديد- على الذهاب بشكل خفي مع الرحلة دون علم باقي الأعضاء ليكون أول من يقابل الخالقين عندما يتم العثور عليهم، يقف أمام الكائن العظيم الذي يكتشفونه ليحاول أن يكتشف منه السر الذي يدفع في الحقيقة أغلب تصرفاتنا: «الخلود».

هناك أمر ما ينقصنا، يجعلنا نتوق لأن نصبح آلهة بقدرة لا محدودة، بعضنا يطلق على هذا الأمر لفظة حضارية مهذبة مثل «الطموح»، لكن «ريدلي سكوت» في الفيلم يأخذ مفهوم الطموح لمستوى مجرد مرعب.

مثل الفأر المحبوس داخل اللعبة الشهيرة حيث يدور في عجلة رأسية، يدور «جيتي» بلا نهاية من أجل الشعور الأعظم بالتحقق الذاتي، التحقق الذي لن يكفي أيًا منا بني البشر الحصول على أعلى قدر منه: فقط نرغب في «مالا نهاية» من التحقق، «مالا نهاية» من العلم، من المال، من السعادة، «مالا نهاية» من المتعة.. وهكذا.

وربما يكون هذا السبب في مدى شعبية فكرة الدين، لأنها تعد الإنسان بـ«مالا نهاية» من ذلك كله في العالم اللامرئي المفارق. إلا أنه في تلك الحياة التي نحياها لا وجود حقيقيًا ملموسًا لفكرة «اللانهاية»، وبالتالي نحن مثل الفأر ندور فقط وندور وندور.

لا أعتقد إطلاقًا أن فيلم «ريدلي سكوت» «All the Money in the World» يدور حول عجوز ثري متحجر المشاعر يبخل على حفيده من أجل كم من المال سيطلق به سراحه. وإنما الفيلم يدور في عمق النفس البشرية حول أحد محركاتها الأساسية، وهو ما جسده «بلامر» ببراعة، ما الذي يجعلنا بشرًا وليس أحجارًا ساكنة، كل مال العالم، وكل وقت العالم، وكل علم العالم، وكل موارد العالم لن تكفينا لنصل إلى الإجابة.

هناك أمر ما ينقصنا.. أمر ما يجعلنا نتوق لأن نصبح آلهة بقدرة لا محدودة، بعضنا يطلق على هذا الأمر لفظة حضارية مهذبة مثل «الطموح»، لكن «ريدلي سكوت» يأخذ مفهوم الطموح لمستوى مجرد مرعب، يؤكد فيه أن طموحنا هذا الذي أوصلنا إلى الإنجازات البشرية العظيمة التي وضعتنا على سطح القمر، وجعتلنا نتحكم في مكونات الذرة، وأخرجت من حيوان متطور كل منجزات الفن والثقافة والعلم والموسيقى العظيمة، كانت لها سعرًا فادحًا جعلنا في وقت من الأوقات ندهس أخلاقنا وقيمنا الحضارية من أجل المضي قدمًا لتحقيق حلم التحقق التام، والخلود التام، والتأله التام.

في مشهد بنهاية الفيلم، تدور «جيل» بعينيها وسط مجموعة كثيفة من التماثيل من مقتينات «جيتي»، لتفاجأ –في مشهد أيقوني بديع- بوجود تمثال نصفي لـ«جيتي» نفسه مختبئًا وسط التماثيل الرومانية واليونانية الأخرى. وكأنه يتمثل طموح أسلافه في نفس الشيء.. «الخلود».

بشكل شخصي شعرت بالتعاطف مع جميع أبطال الفيلم، ولم أستطع أن أكره «جيتي»، بل أحببته لأنه كشف لي جزءًا من نفسي لم أره من قبل على هذا القدر من الوضوح، سألت نفسي: ما هي اللحظة التي ستتوقف فيها عما تفعل لتشعر بالرضا والراحة؟ .. ولم أجد من نفسي إجابة.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.