(1)

كان الثعلبُ يمشي يتلصص، ويتحرك بسلاسة وبخفة، متنقلِّاً بين هنا وهناك، يدس أنفه في كل الأشياء يشمها ويستكشفها، ويراقب الأحوال وتحركات الحيوانات في الغابة، لعله يعثر على بقايا طعامٍ لفريسة، افترسها أحد السباع، أكل وشبع وترك بقاياها، أو لعله يجد فريسة مدفونة، صادها ودفنها أحدهم لحين الاحتياج إليها.

ومكث هكذا وقتاً غير قليل.

وهو على حالته هذه في البحث، فإذا به وطائر جريح، وقد سقط على الأرض، يأن ويتأوه من الألم، ولا يقدر على الطيران والتحليق في الهواء، يقترب منه الثعلب بسرعة، يقفزُ إليه ويضع عليه أماميتيه، ويُحكِم عليه سيطرته.

فيصرخ فيه الطائر:

– أيها الثعلب، لماذا كل هذه الشجاعة والجسارة؟ ألا ترى؟ ألا تُبصر؟ فأنا كما ترى طائرٌ جريح، لا أستطيع أن أطير، وإلا ما كنتَ لتستطيع أن تفعل ذلك معي أيها الغبي الأحمق.

فقال له الثعلب متعجلاً أن يأكله:

– اسكت ولا تتكلم، ولا تعكر علىَّ صفو مزاجي وشهيتي، وأنا أتناولك.

فلم يسكت الطائر وقال له:

– ألم اقل لك أنك غبيٌ وأحمق، تتجاسر على جريح ضعيف مثلى.

لم يهتم به الثعلب:

– قل ما شئت، فسوف أأكلك.

تراجع الطائر في خطابه الحاد لما رأى من الثعلب إصراراً، وكلّمه بهدوء:

– اسمعني أيها الثعلب، أنا صغيرٌ هزيلٌ، وكما ترى قليل اللحم والشحم، وما أنا بمُشبِعك أيها الجائع، ولن أكن لك إن أكلتني إلا كمضغة، لا تُسمن ولا تُغني من جوع.

– أنت شيء والسلام يا صديقي، طعمة أتصبَّر بها حتى أجد ما يُسمن ويُغني من جوع، أفهمت يا مسكين؟

– اسمعني أولاً قبل أن تأكلني وتلتهمني، وتُلقى بي مفروماً مهروساً في سلة القاذورات هذه، (وأشار إلى بطنه) أنا سوف أعقد معك صفقة، بمقتضاها تفوز أنت بما سوف أدلك عليه، وهو خيرٌ كثيرٌ جداً جداً، عبارة عن وجبة كبيرة وسمينة، وتتركني وحال سبيلي، فما هو رأيك؟

سرح الثعلبُ قليلاً، وأخذ يفكر في كلام الطائر، ثم قال لنفسه مستهزئاً وساخراً منه:

صفقة! صفقة ماذا؟ وهل علمت من قبل أو سمعت أن لي عهد أو شرف، حتى أواثق وأتعاهد، ثم بعدها أوفي بما اتفقت عليه، أنت حقاً مسكين، وسوف تُؤكل يا صاحبي لا محالة، وسوف يكون مثواك سلة القاذورات هذه كما سميتها أنت.

ثم نظر إلى الطائر متظاهراً بالرأفة والرحمة وبالموافقة على قوله، وقال له:

– أنا أوافق على ما قلت به، هيا دلّني على هذه الوجبة الكبيرة السمينة، مقابل أن أتركك أيها الصديق.

فقال له الطائر:

– ولكن كيف أذهبُ معك لأدلك، وأنا على حالتي هذه، وكما ترى لا أستطيع الطير؟

– بسيطة، تركبُ على ظهري، وأمشي بك إلى المكان المقصود.

– نِعمَ الرأي رأيك أيها الثعلب الرحيم.

ثم قال الطائرُ في نفسه:

أمتطيه وأركبُ على ظهره وأسوقه، كما يمتطي الإنسانُ الحمار ويسوقه، فإن صدق معي فقد أسدي خدمة جليلة إلى إخوانه وإلى وطنه وبنى وطنه، وإن يكُن كاذباً فقد أذللته، وجعلتُ ظهرَه لي مطية.

فجلس الثعلب على بطنه، واقترب وتدنى من سطح الأرض، وبصعوبة امتطاه الطائر الجريح، وسار به يسوقه ويوجهه يميناً ويساراً، حتى وصلا إلى حدود الغابة، ونزل من على ظهره.

فسأله الثعلب، وقد بدأ يشكُ في الأمر:

– لقد وصلنا إلى حدود الغابة، فأين ما قلت به؟ وأين ذلك الطعام السمين الوفير؟ أم أنك تريد خداعي وكسب الوقت؟

– لا والله ما كنت مخادعاً، ولكن أنظر إلى حدود غابتنا، فماذا ترى؟

فأخذ الثعلبُ يمعنُ النظر، ثم صرخ:

– أرى أسداً غريباً عنّا، ما رأيته من قبل، أراه مرابطاً ومتأهباً لشيء ما، تبدو على قسماته القسوة، ومعه لبؤاته الكثيرات، وأشباله الفتيان الأقوياء، وهم كُثر، ومن ورائهم مجموعة من حيوانات شتى، فمن يكون هؤلاء أيها الطائر؟

– اسمعني جيداً أيها الثعلبُ الطيب الشهم، حب الوطن فرضٌ علينا جميعاً، ولا يُعادله حبٌ آخر، وليس ذلك بالإنشاد والتغني، وفي سبيله كل شيء يهون، والخطرُ الآن قريباً جداً، وقد يطالنا جميعاً، وهذه ساعة التضحية لأجله، ولأجل أهلنا فيه، فهل أنت مستعد؟

الثعلب ينتظر أجزاء الفرص ليستغلها، وما هو بالمضيع للوقت في سبيل هذا، مهما كان حجم الضرر الذي سوف يقع بالآخرين، حتى ولو كان وطنه، الذي فيه وُلد وتربى وترعرع، وفيه أهله وعشيرته!

وفي عجلة قال له:

– نعم… أنا مستعد لأي شيء، ولكن أين ما وعدتني به أولاً، أين الصيد السمين؟

فقال له الطائر الجريح مطمئناً:

– سوف تنل أكثر مما وعدتك به، إن أنت درئت ودفعت الشر عن وطنك وأهلك، فقد علمتُ أنا علم اليقين، ساعة كنت أطير فوق هذه المجموعة، وسمعت كل شيء، فهذا الأسد الذي تراه على حدودنا الآن، جاء ومنْ معه ليأخذ ملكنا على غرة ويقتله، ثم بعدها يحتل أرضنا ويغتصبها، ثم يُذيقنا جميعاً سوء العذاب.

الثعلبُ وقد اعتراه عدم المبالاة والاهتمام بما رأى وبما سمع، ولم يحرك له ساكناً، ولم يمس قلبه أي قلق أو خوف، على هذا الوطن، الذي يضمه ويأويه، ولكنه لم يُبدِ هذا للطائر، حتى يعلم منه كل شيء.

فسأله:

– ولكن ما المطلوب مني أيها الطائر؟

الطائر الجريح وهو يستفز فيه النخوة والمروءة، ويُحفِّزه ويُذكِّره بنداء الوطن، الذي يدق الخطر بابه:

– سيكونُ لك شأنٌ كبير أيها الثعلب، بين أهلك وعشيرتك، وستُكتب هذه البطولة لك في تاريخ البطولات، إن أنت ذهبت حالاً من غير تلكؤ ولا تباطؤ، وأخبرت ملكنا بما رأيت، من أمر هذا المعتدى، عندها سيجزل لك العطاء، من كل ما تشتهيه نفسك، ولن يبخل عليك بشيء، بعد ما يشعر أنك أنقذت المملكة.

فقال له الثعلب:

– ومن كان سيقوم بهذه المهمة، إن لم أكن أنا من سيقومُ بها.

– أنا الذي كان سيقومُ بها، كما قمتُ بمثلها من قبل كثيراً، لولا هذه الإصابة المفاجئة، وجرحي الذي منعني وأعاقني.

– إذاً، أنا فهمتُ الآن كل شيء، وعرفتُ ما سوف أصنع، ولقد حددتُ هدفي، شكراً لك يا صاحبي.

ثم كشر الثعلبُ عن أنيابه، وأخرج مخالبه من حظائرها، وأخذ وضع الانقضاض، ثم الافتراس. فأدرك الطائر الجريح ما انتواه الثعلب، فقال له:

– لقد عشتَ قمامًا وخائنًا، وها هي فرصة عظيمة واتتك، فضيّعتها وأهدرتها، فقد أردتُ أن أصلحك وأطهّرك، وأنظّف نفسك الدنيئة المتدنية في أغوار الخسة، ولكنك أخترت أن تظل هكذا، مغموسًا في أوحال الدنس، وأنا على أبواب الموت، أبشرك أيها النذل الخسيس، أنك سوف تموت كما عشتَ، قمامًا وخائنًا!

بعدها!

لم يسمع الثعلب لكلامه ولم يهتم!

انقض على الطائر الجريح، والتهمه التهامًا.

(2)

الثعلبُ بعد أن أكل الطائر الجريح، ودفنه في جوفه، ودفن معه مروءته ووطنيته، عرف وحدد أين سيذهب، وماذا سيفعل، فكانت وجهته إلى الأسد المُغيِر وعائلته.

مشى وذهب إليهم برجليه، واستأذن في الدخول علي الأسد المُغيِر.

ودخل عليه منحنياً متذللاً:

– أيها الأسد الملك العظيم، لقد جئتك لأقف بين يديك، مقدماً لك كل فرائض الولاء والطاعة، ونفسي أقدمها لك فداء، عن حبٍ ورضى منى، حتى يُكتبُ لك النصرُ على أعدائك.

فتعجب الأسدُ له، فسأله:

– منْ أنت؟ ومن أين جئت أيها الحقير؟

– أنا من سكان هذه الغابة، التي تريدها لنفسك يا مولاي.

– وما حملك على فعل هذا أيها القمام الحقير؟

– حباً فيك أيها الملك العظيم، وفي عائلتك الكريمة، وهؤلاء الأمراء العظام، ولأنك أنت من سيُقيم العدل هنا في الغابة، بعد أن تفتحها ويستقر لك الأمر والمقام فيها!

فركله الأسد ُالمغيرُ على مؤخرته بعنف، فوقع منبطحاً على الأرض، وقال له:

– إذاً أيها الحقير، ستفعل ما يُطلبُ منك، وإن ظهر أنك غير موالٍ لي، فسوف أقطعك إرباً إرباً.

– على الرحب والسعة وبكل سرور، يا مولاي الملك العظيم، فكل ولائي سيكونُ لك أنت وحدك.

ثم سلمه الملك المُغير، لمجموعة من الكلاب والذئاب والضباع، الموالين والتابعين له، ورسموا له خطة الإيقاع بملك غابته، وتسهيل دخولهم إلى الوطن واحتلاله!

بعدما أعلموه بما سيفعله، ورسموا له الخطة.

أطلقوا سراحه.

وذهب الثعلب لينفذ الخطة!

(3)

(داخل العرين ومقر الحكم).

ملك الغابة ومعه عائلته، ومجموعة من الحيوانات يسمعون ضجة وجلبة بالخارج، وصوت استغاثة!

– أدركنا يا ملك الغابة… أغثنا يا ملك الغابة… الخطر حادق… الخطر قادم.

فينظر الجميع ناحية الصوت، فإذا هو الثعلب، وقد جاء ليقوم بأولى خطوات الخطة التي وضعوها له المُغيرون.

فيسأله الأسد:

– ما لك أيها الثعلب؟ ما هذه الجلبة؟ ولماذا كل هذا الصريخ والعويل؟

– إنهم بالخارج على حدودنا يا مولاي، لقد رأيتهم، يريدون احتلالنا، واغتصاب أرضنا.

– منْ هم؟ تكلم وقل أيها الثعلب.

– أسد مغرور يا مولاي، ومعه مجموعة من الحيوانات، متمركزون على حدودنا، يريدون مباغتتنا، والهجوم علينا.

– وهل عرفت عنهم شيئاً؟

– هذا الأسد المُعتدى، لا يرقى أن يكون نداً لك، ومعه مجموعة من الضعاف، زئيرك وحده يقتلهم يا مولاي.

– هل تعرف مكانهم بالضبط؟ وماذا يفعلون الآن؟

– نعم يا مولاي، أعرف مكانهم، وهم الآن نائمون يستريحون، لا يدرون ما يدور حولهم، فلو ذهبت لهم الآن، ومعك الأشبال الأمراء، ليروا شجاعة أبيهم، وأخذتهم بغتة وعلى غرة، لقضيت عليهم في الحال، وذهب شرهم عنا وعن وطننا يا مولاي.

– إذاً هيا بنا، لا وقت نضيعه.

– نعم الرأي رأيك يا مولاي.

خرج الأسد ومعه أشباله، ليقضي على هذا المُتسلِّط المغرور، وليجعل المعركة خارج حدود غابته، ودليله الثعلب، ابن هذا الوطن والذي تربى فيه، ليُريه مكان ذلك الذي تجرأ على غابة هو ملكها.

سار الثعلبُ بهم، من مكانٍ إلى آخر، حتى جاء بهم إلى وادٍ منخفض، ليس له إلا مُدخلاً واحداً، تعلوه الأرضُ من كل اتجاهاتها، فقال للأسد.

– يا مولاي، انتظرني هنا أنت والأمراء الأشبال، وسوف أذهب لأتيقن من وجودهم، وهل هم ما زالوا نائمين أم لا.

وخرج الثعلبُ من هذا الوادي، وغاب عنهم واختفى!

وما هي إلا لحظات قلية، حتى هجمت جيوش مُجيّشة، من كل أطياف الحيوانات، لا قِبل للأسد ولا لأولاده بها، هجمت عليهم وحاصرتهم، وقتلتهم جميعاً!

وهنا!

برز الأسدُ المغير، وبين يديه يقف منحنياً الثعلبُ.

فقال له:

– الآن، الجزء الثاني من الخطة أيها الحقيرُ، سِرّ أمامي وأرِني عرين ذلك الذي قتلناه هو وأولاده.

– أمرك يا مولاي الملك العظيم المُنتصر.

وسار الثعلبُ دليلاً للأسد المغير، ليدله على بيت الأسد القتيل، ليعلن منه للحيوانات بيان الاستيلاء على السلطة في هذه الغابة، الثعلبُ يسيرُ ويُمنّى نفسه بمكافئة سخية، سوف يكافئه بها الملك الجديد، والذي عاونه وساعده فيما وصل إليه الآن، من هذا الانتصار الساحق والعظيم.

وصل الركبُ إلى عرين الأسد القتيل، فقفز الثعلبُ وأسرع إلى الداخل، ليُجهّز للملك الجديد مكاناً يليق به. وجهّز له كرسي العرش!

استوى الأسدُ المُغيرُ على عرش المملكة، ونصَّب نفسه ملكاً، رغماً عن الجميع، فقد هزم ملكهم وقهره. وهنا اقترب الثعلبُ من الملك الجديد، وقال له بتذللٍ ومهانةٍ:

– أيها الملك العظيم، اسمح لي أن أتجرّأ، وأطمع في عطف وكرم مولاي الملك، وأطلب منه مكافئتي، وأنا على ثقة، من أن فيض جودكم سوف يعمني ويشملني.

فتبسَّم الأسد وقال له:

– نعم، من غير أن تطلب مني ذلك، فأنا لم أنسك، فسوف يعمك ويشملك كرمي وتكريمي، فأنت وأمثالك، بعد الفتح تكون أول اهتماماتي!

ثم أخذ الأسدُ المغيرُ يقترب منه، رويداً رويداً! ثم وقف فجأة وعاد مكانه! وقال له:

– من الأفضل أن تأتيني أنت، فأنت لست أهلاً أن يمشي إليك أسدٌ مثلي.

ثم فزع فيه:

– تقدم نحوي بسرعة، تقدم.

فسار الثعلبُ إليه منحنياً، وهو لا يدري لماذا طلب منه الأسد أن يدنو منه، حتى دنا منه كثيراً، فرفع الأسد إحدى قدميه الأماميتين، وضربه ضربة قوية، كانت هي القاضية، والتي ذهبت به إلى العالم الآخر! عالم الحقراء!

نادى الأسد على بعض الحيوانات التي صحبته في هذه الموقعة، وقال لهم:

هذه الجيفة لكم… إنه علقمي!

(تمت)