لقد أنتجت الحداثة والرأسمالية إنسانها الذي يناسبها، ونشَّأته لها الدولة عبر أدوات التربية والتثقيف على النفعية والتفكير النرجسي، وفكَّكت علاقاته وروابطه هيكليًّا عبر عقود بل قرون وبشكل منظم، وبالتالي فإنه ليس من المباغتة القول إن الدولة حاضرة في العلاقات الجنسية، فهي التي قامت بتشكيل كل السياقات التي تؤدي إلى هذه اللحظة وفرَّغتها من مضمونها التراحمي والثقافي والزمني والوجودي بل الغيبي الميتافيزيقي، وبالتالي لم يبقَ لتلك اللحظة إلا علاقة الأجساد، والأجساد في النهاية يصيبها الملل، أو تزهد في جسد آخر قد أصابه التعب.
«هبة رءوف عزت»: من مقدمة كتاب «الحب السائل» لزيجمونت باومان.

يمكن استخدام هذا النص مدخلًا لقراءة قصيدة أمل دنقل «يوميات كهل صغير السن» التي نُشرت عام 1967، فهذه القصيدة على خلاف قصائد أمل دنقل الثورية التي يغلب عليها الطابع السياسي الساخر، هي قصيدة تتحدث عن إشكالية اجتماعية، هي قصيدة عن الحب في زمن الحداثة السائلة، حيث الحب يتخلى عن تعاليمه وسموه وأفلاطونيته، ويتحول لتعبير عن الرغبة والشهوة الجنسية، وننتقل من قصص قيس وليلى، قصص الحب في أسمى معانيه الميتافيزيقية والمتعالية، إلى قصص حياة المشاهير والفنانين المليئة بالخيانة وعدم الالتزام، والتي تتحكم بها الرغبات وتسيِّرها الشهوات، ويتحول الزواج – الذي من المفترض أن يكون تتويجًا للحب وانتصارًا له – إلى حالة من  فقدان الشغف، وموت الرغبة في الآخر، الرغبة التي تختلط كثيرًا مع الحب، فالحب يتحوَّل لمجاز عن الرغبة والشهوة في الممارسة، ولا عجب أن يُستخدم كثيرًا في عصرنا، عصر تسليع الحب، تعبير «ممارسة الحب» رديفًا لتعبير «ممارسة الجنس».

يقول أمل دنقل:

مذ علقنا – فوق الحائط – أوسمة اللهفة
وهي تطيل الوقفة في الشرفة
واليوم!
قالت إن حبالي الصوتية تقلقها عند النوم!
وانفردت بالغرفة!

هكذا يموت الحب، إنه «تعليق لأوسمة اللهفة»، وفي اللحظة التي تنطفئ فيها اللهفة يبحث كل طرف عن عذر للفرار من الآخر، حتى ولو كان العذر «حباله الصوتية تقلقني عند النوم».

يوميات كهل صغير السن

تبدأ القصيدة المكوَّنة من 13 مقطعًا بنفس المقطع الذي تنتهي به، فهي قصيدة «لا رأس لها ولا ذيل»، على حد تعبير الشاعر الفرنسي «شارل بودليير»، أو أن رأسها هو ذيلها، وفي البداية يظهر لنا بطل القصيدة رجلًا متوحدًا انطوائيًّا معزولًا، يحاول جاهدًا أن يُعيد شغفه المنطفئ بالحياة إلى قلبه (العالم في قلبي مات) عن طريق إيقاد الرغبة فيه (أسقيه نبيذ الرغبة)، في إشارة لهذا العالم المكون من رغبات استهلاكية دائمة، حيث الإنسان عبارة عن كائن مستهلك تقوده الرغبة، هذه الرغبة التي لا يعرف حقيقة كنهها، فهو لا يتبع رغباته الحقيقية، وإنما رغبات مصنعة تصنعها الرأسمالية وتنشرها عبر وسائلها (الإعلانات ووسائل الإعلام والموضة)، والإنسان فاقد الرغبة ليس إنسانًا يُغرِّد خارج السرب فقط، بل هو إنسان ميِّت بمعايير العصر، تمامًا مثل بطل القصيدة.

في المقطع الثاني نتعرَّف على صديقته أو حبيبته أو عشيقته، فتاة ذات رغبات جامحة، فهي في النهار عندما تسير معه تحدثه عن رغباتها بالزواج في الصيف، في أحد فنادق الخمسة النجوم والذي يطل على نهر، حيث يمكنها الخروج والإبحار على متن يختها الأنيق. لكنها تقضي مساءاتها في الملاهي والمراقص، وتنتقل من ذراع إلى ذراع.

وهنا يظهر لنا هذا التناقض الواضح في شخصية بطلي القصيدة، فالبطل «رجل بلا صفات» يكاد يكون مُفرغًا من الرغبة، متوحِّدًا انطوائيًا لا يعرف سوى ظله.

في الشارع
أتلاقى – في ضوء الصبح – بظلِّي الفارع
نتصافح .. بالأقدام!

حتى صديقه الوحيد الذي يعرفه يبدو أنه كائن لا وجود له، فهو يذهب له ذات مساء يطرق على بابه بقوة تجعل الجيران يفتحون أبوابهم لمعرفة سبب هذا الطرق العنيف، ولكن لا جواب من صديقه، ربما لأنه غير موجود.

أمَّا الفتاة فعلى النقيض تمامًا منه، فتاة جامحة ذات رغبات مُستعرة، فهي وإن كانت تحبه وتحاول أن تكون فتاة صالحة للزواج، إلا أن عالم الرغبات يسيطر عليها، فلا تتمكن من منعه من السيطرة عليها، ويُظهِر لنا دنقل أن العلاقة بينهما هي شبه ميِّتة من بدايتها، فهما يعيشان في غرفتين منفصلتين، وإذا دخل هو تتظاهر بأنها منشغلة بالتطريز، أو بالنظر العابر من شباكها إلى الإفريز، وعندما يذهب إلى غرفته يستمع لها وهي تخونه، اتصالاتها المريبة قهقهاتها الخافتة، تمتماتها المُحاذرة، ومن ثَمَّ حفيف ثوبها وهي تهم بالمغادرة عندما يأتي الليل.

حين تكونين معي أنت
أصبح وحدي
في بيتي!

تخبره ذات يوم أنها أصبحت حاملًا، لا نعرف منه أو من غيره. فيقرر أخذها للطبيب للإجهاض، لكن الطبيب يرفض ويستنكر، ويخبره أن الإجهاض ممنوع قانونيًّا، فلا يجد العشيقان خيارًا أمامهما سوى الزواج خوفًا من الفضيحة.

الزواج أو الخاتمة

في المقطع العاشر نقرأ فقرات من هذا الزواج الذي يُشبه المأتم، مأتم لأن الزواج في عصر الحداثة السائلة، هو رديف لموت الرغبة، فالرغبة حرة ومستعرة لا يُقيِّدها شيء، والزواج هو ارتباط وعقد يتخلَّى بموجبه كل طرف عن رغباته للطرف الآخر.

قال فرويد إن تطور الحضارات يعتمد على قدرة البشر على السيطرة على رغباتهم الواعية واللاواعية، وبهذا المعنى فإن الزواج هو المنظومة التي تُحقِّق الحضارة، كونها تقوم على التضحية بالرغبة مقابل الحصول على الأمن والاستقرار، فهل يمكن تسمية عصر ما بعد الحداثة بعصر ما بعد الحضارة، حيث لا شيء يحرك المرء سوى رغباته الواعية وغير الواعية، والتي تتحكم بها مؤسسات الدول الرأسمالية ورجال أعمالها؟

في ليلة الزفاف … في التوهج المرهق
ظلت تدير في الوجوه وجهها المنتصر المشرق
وحين صرنا وحدنا – في الصمت الكثيف الكلمات
داعبة الخاتم في إصبعها الأيسر… ثم انكمشت خجلى!
قلت لها «ما أجمل الحفلا»
فأطرقت باسمة الغمازتين والسمات
وعندما لمستها: تثلجت أطرافها الوجلى
وانفلتت عجلى!
كأنها لم تذق الحب … ولم يثر بصدرها التنهدات

في هذه الأبيات يعرض لنا الشاعر الكثير من الصور التي تجعلنا نشعر بمدى بؤس حفل الزواج، هذا «التوهج المرهِق»، «الصمت الكثيف الكلمات»، هذا التوجس والريبة بين العاشقين اللذين أصبحا زوجين، وكأنهما تعرفا بعضهما على بعض للتو، والعروس التي كانت فتاة شهوانية جامحة، تظهر لنا الآن وهي فتاة عفيفة تخجل عندما يلمس زوجها يدها «كأنها لم تذق الحب ولم يثر في صدرها التنهدات».

إنه زواج بلا روح، يُنبئ بتفككه قبل قدومه، ولا مهرب إذًا من تحول هذا الزواج إلى جحيم، وهو ما يحصل عندما يُعلِّق الزوجان أوسمة اللهفة، وتتسرب الرتابة والملل إلى حياتهما، ويعرض لنا الشاعر مشهدًا من هذه الحياة اليومية الرتيبة المملة للزوجين؛ فالمرأة تصب شايها «الفاتر» في الأكواب، وتبدأ ثرثرتها اليومية المثابرة وهي تغتاب جيرانها، بينما الزوج «يعصب» عينيه بالصحيفة التي يقرؤها، وعندما تلاحظ أن زوجها لا يستمع إليها، تشد الصحيفة منه بقوة، وينتهي المشهد.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.